9 - // // //—الفصل التاسع

الفصل التاسع

ضغط كاو بقوة أكبر للتأكد، وأحس بالقشعريرة في جسمه.

ألقى نظرة على الغرابين، وهزّ غلام رأسه كما لو أنه أراد القول: «قلت لك ذلك».

وضع كاو أذنه على الباب. مع ضجيج التلفزيون، كان من الصعب سماع ما يجري في الخارج.

كان السيد ستريكهام يقول: «... للأفضل...».

كان صوت ليديا أعلى. «لكن، لا علاقة أبداً لكاو بالأمر. أقسم!».

قاطعتها السيدة ستريكهام. «أنتِ لا تفهمين. عندما تنتهي هذه المسألة، سوف تشكريننا».

«أرجوك بابا، لا تفعل».

قال السيد ستريكهام: «لقد حسم الأمر. سأتصل بالمحقق ستاغ. سوف نحضر سيارة شرطة إلى هنا».

قالت ليديا: «لا! كيف يمكنك؟».

عادت عينا كاو إلى النافذة المقفلة، ثم قفز فوق الأريكة في اتجاه رف الموقد. كان مليئاً بالأغراض المزخرفة. هناك ثلاث أوانٍ صغيرة، فقلبها بسرعة. أين المفاتيح؟ ذهب إلى منضدة عالية عليها خزف صيني وأوان زجاجية، وفتح درجاً بشكل نصفي، وفتشت يداه فيه، ولكنه لم يجد سوى الأوراق داخله.

تمتم لنفسه: «لا، لا، لا...».

ثم استقرت عيناه على النبتة المزروعة في وعاء. أسرع صوبها ورفعها إلى الأعلى. لا شيء تحتها. لكن وعاء السيراميك أزرق اللون ثقيل. إنه ثقيل كفاية.

مشى صوب النافذة رافعاً الوعاء على مستوى الكتف. لا بدّ أن الغرابين عرفا بما يخطط له؛ لأنهما طارا صوب السماء.

تردد كاو. هل يستطيع فعلاً القيام بذلك؟ ثمة شيء يحدّق فيه من الجدار؛ صورة للسيد ستريكهام وهو يصافح امرأة شرطية ويبدو مزهواً بنفسه.

نعم، يستطيع.

صوت التحطم عند ارتطام الوعاء بالزجاج بدا عالياً جداً، ووقع كل لوح النافذة على الأرض على شكل شظايا مسننة.

صرخت السيدة ستريكهام: «ما هذا؟».

خفق قلب كاو بقوة، وتسلق عبر بقايا النافذة، ووضع كلتا يديه على الشرفة وقفز. هبط على العشب في الأسفل، ثم اندفع إلى الأمام صوب السور البعيد. فيما تسلق إلى أعلى السور، رأى الطريق الجانبي المؤدي إلى الحديقة العامة؛ إلى الأمان. نظر إلى الخلف فيما خرج السيد ستريكهام إلى الشرفة، ووجهه شاحب. صرخ عالياً: «عد إلى هنا».

استدار كاو وركض بعيداً، ونزل إلى الجهة الأخرى من السور، وركض صوب جدار الحديقة العامة.

بعد دقيقتين، دخل عبر الباب الأفقي في العش، وكان يلهث بقوة. جثم ميلكي على الغصن في الخارج، فيما انتظر غلام وسكريتش على الأرضية، جاثمين جنباً إلى جنب، وهما يراقبانه بحذر، كما لو أنهما عرفا مزاجه.

زحف كاو إلى حافة العش، ودفن رأسه بين يديه. لماذا وافق على الذهاب إلى منزل ليديا مجدداً؟ لم يكن يجدر به التخلي عن الحيطة والحذر. وها هو الآن قد خسر كل شيء. لقد تبددت أية فرصة لديه في الاحتفاظ بصديقته الجديدة؛ تماماً مثلما تحطمت النافذة.

قال غلام: لا تقلق. نحن هنا للاعتناء بك.

أضاف سكريتش: تماماً مثل الأيام الماضية.

نظر كاو إليهما، وهزّ رأسه. إنهما لا يفهمان. لا يستطيعان فهمه.

إنه لا يملك أحداً. والدا ليديا قد يحبسانها داخل المنزل لأسابيع، ولن يسمحا لها بالمجيء إلى الحديقة العامة مجدداً.

ستنتشر الشرطة في كل أرجاء المدينة بحثاً عنه، وبالتالي سيستحيل عليه تقريباً إيجاد الطعام بأمان.

قال كاو: «لا أصدق أنهما خاناني. لماذا لم يصغيا إلى ليديا؟».

قال غلام: إنها مجرد طفلة. من الأفضل أن تبقى بعيداً عن تلك العائلة.

شعر كاو بالإحباط وقال: «أنت محق ربما».

قال صوت رجل: «مرحباً أيها المتكلم مع الغربان».

كاد كاو يقفز في الهواء، ودفع نفسه إلى جانب العش. اهتاجت الغربان، وراحت تصرخ وتخفق بأجنحتها فيما تم سحب الستارة الموجودة في وسط العش. قال كاو باكياً: «ما...؟».

نظر إليه وجه ملطخ بالأوساخ. إنه الرجل المشرد، الرجل الذي أنقذه من العصابة خارج مطعم الوجبات السريعة. إنه هنا، يجلس القرفصاء في العش. لمعت عيناه الزرقاوان فضولاً، فصرخ كاو رافعاً قبضتي يديه: «اخرج من هنا!». حطّ سكريتش وغلام أمامه، مجهزين منقاريهما.

قال الرجل وهو يضرب الهواء بقفّازيه الخاليين من الأصابع: «لا تخف. لست هنا لأؤذيك».

قال كاو: «كيف وصلت إلى هنا؟». ونظر بغضب إلى سكريتش وغلام. «لماذا لم تنذراني؟».

قال غلام، مطلقاً مجموعة صيحات عدائية: لا بدّ أنه تسلل حين كنا خارج المنزل.

قطّب كاو جبينه، وبدا مذهولاً. «لكن ميلكي كان...».

قال الرجل: «يعرف الغراب الأبيض أني هنا».

قال كاو: «ماذا!؟».

«شريكي بيب كان يراقبك. أرجوك أيها المتكلم مع الغربان، هناك الكثير من الأمور التي يجب مناقشتها».

«توقف عن مناداتي هكذا! اسمي كاو».

قال الرجل وهو يبتسم بغرابة: «حقاً؟ لكنك تتكلم مع الغربان، أليس كذلك؟».

كان كاو يتنفس بقوة، وقال: «نعم. وماذا إذاً؟».

«بالفعل ماذا إذاً؟ تقول إنه ليس شيئاً مميزاً. أنت تعرف آخرين يستطيعون التحدث مع الحيوانات، أليس كذلك؟».

بدأ قلب كاو يخفق بسرعة أقل، واعترف قائلاً: «لا». لكنه فكّر في السجناء في المكتبة. تلك الكلاب والصراصير والأفعى...

طقطق الرجل براجمه، وقفزت حمامتان أمامه.

قال سكريتش: اخرجا من عشنا!

قال الرجل: «تعرّف إلى صديقيّ. إلى يساري بلو، وإلى يميني سليكتايل. كنت محظوظاً لأنهما لمحتاك قبل أن تصادف أولئك الأولاد خلف مطعم الوجبات السريعة. أنت محظوظ أكثر مما تظن». قرقر طائرا الحمام. «وأنا اسمي كرامب».

قال كاو: «أيمكنك التحدث إليهما؟».

قال سكريتش: طبعاً لا يستطيع. طيور الحمام تفهم فقط شيئاً واحداً. بيك، بيك، بيك. طوال اليوم.

قال كرامب: «منذ أن مات أبي، سمعت أصواتها. قبل اثني عشر عاماً تقريباً. بالمناسبة، هذا المكان جميل». دفع الباب الأفقي بأطراف أصابعه. «يمكنك تحسين الديكور، لكن الجو حميم».

خفق ميلكي بجناحيه تحت الفتحة عند طرف القماش المشمّع، وصاح عالياً.

قال غلام: أحدهم قادم!

جلس كرامب القرفصاء بسرعة؛ أسرع مما تصوّر كاو أنه ممكن. تراجع بصمت إلى حافة القماش المشمّع ونظر إلى الجانب.

اقترب كاو من الفتحة الصغيرة ونظر إلى الأسفل. رأى عبر شبكة الأغصان ليديا عند جذع الشجرة.

نادته: «كاو؟».

وضع كرامب إصبعاً متسخة على شفتيه.

قالت ليديا: «كاو، هل أنت فوق؟ أريد فقط التحدث إليك».

همس كرامب: «من هي؟».

هدلت إحدى الحمامتين، ونظر كرامب جانبياً إليها.

قال: «من المكتبة؟».

هزّت الحمامة رأسها وهدلت مجدداً. قطّب كرامب جبينه.

قالت ليديا: «أرجوك كاو. أريد فقط القول إني آسفة. كان سوء تفاهم».

استعر غضب كاو، وفتح الباب الأفقي صارخاً: «أراد والدك تسليمي إلى الشرطة!».

أخفضت ليديا رأسها. «أعرف. لقد ارتكب خطأ كبيراً. ظنّ أن هذا للأفضل».

صرخ كاو: «الأفضل لمن؟». لا يصدّق أنها تحاول إيجاد الأعذار. «ليس لي طبعاً».

سألت ليديا: «هل أستطيع الصعود؟».

قال سكريتش: مستحيل!

قال غلام: أبداً!

قال كاو: «لا أعتقد أنها فكرة جيدة. لا يثق والداك بي». نظر إلى الجميع؛ كان غلام يومئ برأسه راضياً، وأضاف كاو: «لا يمكننا أن نكون صديقين ليديا». أحسّ أن كل كلمة يقولها خاطئة.

صمتت ليديا لفترة طويلة، ثم قالت أخيراً: «أرجوك كاو، أنت لا تفهم. والدي لم يتصل بالشرطة. وعد بأنه لن يفعل. هل أستطيع الصعود؟».

قال غلام: لا تثق فيها.

ألقى كاو نظرة على كرامب، فقال هذا الأخير:

«ما كنت لأفعل، لكنه عشك».

حاول كاو التفكير بوضوح. طبعاً، لا شك في أن والدَي ليديا لا يحبانه، لكن ليديا نفسها... حسناً، لقد حاولت أن تكون صديقته.

قد يندم على الأمر لاحقاً، لكنه لا يستطيع صدّها.

قال: «هيا، اصعدي. أنتِ تعرفين الطريق».

قالت: «شكراً!». واستطاع كاو سماع الارتياح في صوتها. انكمش كرامب إلى الخلف صوب الجهة الأخرى من العش مع حمامتيه، فيما بدأت الأغصان تتحرك برفق. أخيراً، ظهرت ليديا من الباب الأفقي، وسحبت نفسها إلى الداخل.

وعندما لمحت كرامب، صرخت واندفعت صوب كاو.

قالت: «من هذا؟».

قال كاو: «ليديا، هذا كرامب».

فتح كرامب أصابعه الطويلة ومدّ يداً، كانت أظافرها مليئة بالأوساخ. أخفض رأسه في انحناءة صغيرة وقال: «سررت بلقائك ليديا».

نظرت ليديا إلى يده لجزء من الثانية قبل أن تصافحها. «هل أنت صديق كاو؟».

أجاب: «مجرد معرفة. هل أنت صديقة كاو؟».

نظرت ليديا إلى كاو وقالت: «أتمنى ذلك. كاو، أعرف أنك لا تثق في الشرطة، لكن يجدر بنا ربما التحدث إليها».

قال كاو: «قلت لك، لا أستطيع. سوف يأخذونني بعيداً. بعيداً عن الغربان، وعن العش. هذه حياتي».

قال سكريتش: أخبرها! مع إيماءة مشددة من منقاره.

قالت ليديا: «لكن الشرطة لن توقف البحث عنك. ستظهر صورتك في جرائد الغد، وفي نشرة الأخبار المسائية». كانت عيناها تتوسلان إليه. «ستتم مطاردتك».

قال كاو بتعاسة: «إذاً يجدر بي المغادرة، والعثور على عش آخر في مدينة أخرى». نظر إليه غلام وسكريتش بدهشة.

قالت ليديا: «وكيف ستصل إلى هناك؟ لا يمكنك قيادة سيارة، ولا يمكنك استعمال وسائل النقل العامة. لن تتمكن من اجتياز مايل واحد من دون أن يتصل أحدهم بالشرطة».

انهار كاو. عرف أنها محقة. بالإضافة إلى ذلك، إنه يشتاق إلى حديقته بعد أن يغيب عنها ساعات قليلة فقط، وبالتالي مغادرة بلاكستون فكرة سخيفة.

فجأة، اندفعت حمامة داخل العش وهي تصرخ عالياً.

قال كرامب: «ماذا؟ أين؟». فيما تيقظت عيناه الشاحبتان.

استوعب كاو فجأة حقيقة مريعة. لماذا جاءت ليديا إلى هنا؟ فوالداها يراقبانه مثل الصقر. قال لها بوحشية: «كيف حصل أن سمح لك والدك بمغادرة المنزل ليديا؟».

نادى صوت من الأسفل: «هيا، انزلا».

اتسعت عينا ليديا نتيجة الصدمة وقالت: «بابا؟».

أحسّ كاو أن قلبه قد انفطر. «لقد جئت به إلى هنا!».

قالت ليديا وقد أصبح وجهها شاحباً: «لا، لا لم أفعل».

حدّق كاو فيها، لكنها هزّت رأسها. «أقسم لك كاو. لا بدّ أنه لحق بي».

نظر كاو خارج عشه، وأحسّ أن قلبه قد تحول إلى حجر. هناك رجال شرطة أيضاً. على الأقل ثلاثة منهم يحيطون بالشجرة، بالإضافة إلى السيد ستريكهام.

قال أحد رجال الشرطة: «رأيت الصبي!». واضعاً يده على مسدسه.

قال السيد ستريكهام بصوت عالٍ: «اترك هذا. إنه مجرد ولد. وابنتي فوق في الأعلى، بالله عليك».

ترك الشرطي المسدس في قرابه.

وصرخ السيد ستريكهام: «كاو، هؤلاء الرجال أصدقائي. لن يلحقوا بك الأذى، أعدك. يمكننا تسوية الأمر معاً، لكن عليك النزول».

وضع كرامب يداً على كتف كاو وقال: «لا يستطيع هؤلاء الأشخاص مساعدتك. الأعداء الذين نواجههم... إنهم من جنسنا. إنهم خارقون».

علقت الكلمة في الهواء، حاملة معها شيئاً قديماً؛ شيئاً قوياً. بدت مألوفة بشكل غريب، رغم أن كاو واثق تماماً من أنه لم يسمعها أبداً من قبل.

قال كرامب: «أولئك الذين يتحدثون إلى الحيوانات. أعتقد أنك التقيت ثلاثة منهم لغاية الآن، رغم وجود العديد منهم».

قال كاو: «السجناء».

قالت ليديا: «طبعاً؛ الكلاب والصراصير وتلك الأفعى المخيفة!».

قال السيد ستريكهام: «ليديا؟ حبيبتي، انزلي أرجوك».

احمرّ وجهها غضباً، فيما انحنت فوق حافة الأرضية وصرخت: «لقد كذبت عليّ. قلت إنك ستسمح لي بالتحدث إليه».

قال السيد ستريكهام: «انتهى وقت الكلام! انزلي إلى هنا الآن!».

قال سكريتش: ماذا الآن؟ الفرصة الأخيرة؟

قال كرامب: «لا تستطيع الشرطة إيقاف أولئك الأشرار الذين يتكلمون مع الحيوانات. أصغ إليّ أيها المتكلم مع الغربان. ثمة طريقة أخرى للخروج من هنا».

قالت ليديا: «كيف؟». ورفعت يديها ونظرت إلى حدود العشّ. «الطيران؟».

وجّه إليها كرامب نظرة سريعة، ثم قال ببساطة: «نعم».

برمت ليديا عينيها، لكن كرامب لم يكن يبتسم.

قال: «أنا جدّي». ونظر إلى كاو، وقد اتقدت عيناه الزرقاوان. «اطلب من غربانك أن تحملك».

أشار كاو إلى ميلكي وسكريتش وغلام وقال: «هناك فقط ثلاثة منها. وهي لا تستطيع رفعي».

قال كرامب وهو يهز رأسه بإحباط: «إذاً، اطلب المزيد. هيا!».

قال كاو: «لا... لا أستطيع. لا أعرف كيف».

أمسك كرامب بذراعه بقوة وقال: «هل جرّبت؟». وقد انحنى قريباً جداً منه حيث رأى كاو الشق في سنه الأمامية. بيده الطليقة، مزّق كرامب القماش المشمع الموجود وسط العش، سامحاً بدخول ضوء النهار. قال: «راقب وتعلّم».

رفع كرامب ذراعيه وصفر. وخلال ثوانٍ، ظهرت بقع سوداء في السماء لجهة الشرق. إنها طيور حمام، المئات منها! حدّق كاو بذهول فيما عبر سرب الحمام فوق الحديقة العامة متجهاً صوبهم، ثم انخفضت الطيور إلى مستوى الأشجار، وحطّت الواحدة تلو الأخرى، على ذراعي كرامب وكتفيه.

صرخ السيد ستريكهام: «ماذا يجري في الأعلى؟».

ومع وصول المزيد والمزيد من الطيور، لاحظ كاو أن ليديا مذهولة مثله تماماً. إنه المنظر الأكثر غرابة الذي رآه في حياته، وإنما هو مألوف في الوقت نفسه. كابوسه؛ تلك الليلة حين دفعته أمه من نافذة غرفة نومه فجاءت الغربان وحملته. المشهد مماثل تماماً.

قال أحدهم من الأسفل: «من أين أتت؟».

نظر كاو إلى الأسفل، ولمح شرطياً يرتدي معطفاً ويقف بالقرب من السيد ستريكهام يعطي أوامر صامتة بيديه لرجال شرطة آخرين. كانوا يقتربون أكثر فأكثر من قاعدة الشجرة.

قال كرامب: «والآن، حاول!». خفقت طيور الحمام بأجنحتها وهدلت فيما استقرّت فوق جسمه.

قال كاو، فيما خفق قلبه بقوة داخل صدره: «لن ينجح الأمر».

صرخ كرامب بقساوة: «افعل ذلك».

بعد إزاحة ستارة القماش المشمع إلى الجانب، وقف كاو منتصباً في العش. كانت ليديا تراقبه، مع بريق كبير في عينيها.

قالت وهي تومئ له بطريقة تشجيعية: «هيا، يمكنك فعلها. أعرف أنك تستطيع فعل ذلك».

مدد كاو ذراعيه، وقال كرامب: «اطلب منها أن تأتي!».

حاول كاو الصفير مثلما فعل الرجل الكبير، وقفزت غربانه الثلاثة إلى ذراعه. هذه المرة، لم يتفوه سكريتش أو غلام بأية كلمة، ولاحظ كاو أنهما كشفا عن تعبير غريب وفارغ، كما لو أن نشوة سيطرت عليهما. أغمض عينيه، وألح بالقول: تعالي إليّ! تعالي إليّ!

قال كرامب: «هذا صحيح. أنت تفعلها!».

أطبق كاو كفّيه وتخيل القوة في ذراعيه. تخيّل نفسه يجذب الطيور صوبه. فتح عيناً واحدة، ورأى في البعيد، فوق السجن، الطيور وقد بدأت تحتشد.

همست ليديا: «هذا مذهل!».

ركّز كاو على الشعور. وبعد ذلك، لم يعد مضطراً إلى التخيل لأن الأمر بات يحصل فعلاً. ليس فقط على ذراعيه، بل أحسّ بكرة دفء داخل معدته، راحت تكبر وتكبر إلى أن تمددت إلى أطرافه، ووصلت إلى أطراف أصابعه وما بعدها. انتصبت نصف دزينة من الغربان على ذراعيه، وكان واثقاً من أنه لم يرَ هذه الطيور أبداً من قبل. أغمض كاو عينيه مجدداً، فيما سيطرت عليه الطاقة، وجعلته يشعر بالخفة، كما لو أنه لا يزن أكثر من ريشة. أحسّ بالمزيد من الغربان، بعدد غير متناهٍ منها، وضعت مخالبها على سترته. وكل طائر جثم عليه جعله يشعر أنه أقوى من قبل؛ أقوى وأكثر خفة.

أدرك كاو أنه لم يعد بوسعه الإحساس بالعش تحت قدميه وفتح عينيه. كان يطفو، فيما خفقت الغربان بأجنحتها معاً. عادت به الذاكرة إلى كل تلك الأعوام الماضية عند النافذة، وبدت الذكرى واضحة أكثر من أي وقت مضى. إلا أنها لم تكن هي نفسها البتة. في ذلك الحين، شعر فقط بالخوف والارتباك. أما اليوم، فهو يشعر بالسيطرة. أحسّ بالأجنحة الخافقة للغربان كما لو أنها جزء منه.

قال كرامب لليديا: «لتشبثت به لو كنت مكانك». لاحظ كاو أن قدمي المتكلّم مع طيور الحمام لا تلامسان العش أيضاً. كان عالياً مسافة نصف متر... لا بل متر كامل... فوق الألواح الخشبية.

سألت ليديا: «هل أنت جدي؟».

قال كاو وهو غير واثق من كلماته: «تشبثي بي جيداً». طوّقت ليديا خصره بذراعيها. ثمة جزء من دماغه عرف أنه ما من أحد عانقه هكذا طوال الحياة التي يذكرها، لكنه لم يشعر بالغرابة، بل شعر بالدفء والقوة. منحه ذلك المزيد من القوة.

قال السيد ستريكهام بصوت مذعور: «سنصعد. إذا ألحقت الأذى بابنتي، كاو...».

سأل كرامب وهو يقف على حافة العش: «هل أنت جاهز للانطلاق؟ عندما أعدّ حتى الرقم ثلاثة سنقفز. ثق في الطيور كاو، ولن تخذلك».

قال كاو لنفسه: أنا أثق فيها.

ثبّت قدميه قرب قدمي كرامب، فيما ظهر رأس شرطي عبر الباب الأفقي.

«واحد...».

استدار الشرطي صوبهم وفتح فمه مدهوشاً. نعقت مئات الغربان صيحات احتجاج.

قالت ليديا: «انطلق! بسرعة!».

«اثنان...».

نظر كاو إلى الأسفل عبر الأغصان. السقوط سيقتلهم من دون شك، لكنه لن يسقط. لا يستطيع.

قال كرامب: «ثلاثة!».

اندفع الشرطي إلى الأمام، فيما قفز كاو في الفراغ.

2020/03/06 · 273 مشاهدة · 2316 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024