8 - المُتوحشون—الفصل الثامن

الفصل الثامن

قالت مامبا: «لا يمكنكما الهروب إلى أي مكان أيها الولدان».

صرخ كاو وهو يشير إلى جثة الآنسة والاس: «لماذا قتلتها؟ إنّها لم تؤذِ أحداً في حياتها!».

قال جاوبون، وقد اتسعت ابتسامته: «اضطررنا لفعل ذلك. إلا أننا استمتعنا بالأمر». ونظر إلى الآخرين قائلاً: «فلننهِ المهمة، أليس كذلك؟».

ضحك الرجل القصير ضحكة نصف مكبوتة وطقطق أصابعه.

عندها، سمع كاو صوتاً غريباً، ثم تساقط شيء من طرف كم معطف سكاتل، واندفع على الأرض. صرصور.

ارتطمت ليديا بكاو عند تراجعها إلى الخلف قائلة: «مقرف!».

قال سكاتل: «هناك المزيد من هذا».

وأغمض عينيه كما لو أنه يصلّي، ثم بدأت الحشرات تتدفق من كلا الكمّين على شكل موجة مخيفة من القشور السوداء والأرجل الملتوية. مئات الصراصير خرجت من ملابسه، ونزلت إلى الأرض. شهق كاو وتراجع إلى الخلف، فيما استمرت الصراصير في الخروج من سروال سكاتل أيضاً، وتراكمت فوق بعضها على شكل موجة لامتناهية.

قالت ليديا: «كاو؟». وكان صوتها عبارة عن همس مذعور.

تمتم: «هذا غير ممكن. من أين تأتي؟».

انتشرت الصراصير على الأرض، وتوجهت مباشرة صوبهما، فيما صرخت ليديا عالياً. أمسك كاو بيدها ودفعها في اتجاه باب جانبي. لحقت بهما الصراصير ضمن كتلة مندفعة مصدرة صوتاً خفيفاً.

كادا يصلان إلى الباب عندما صرخت ليديا: «كاو، توقف!».

توقف كاو فجأة فيما سحبته إلى الخلف، ثم أحسّ بحركة في الممر خلف الباب، وظهرت ثلاثة أشكال عملاقة، ودخلت عبر الباب. إنها كلاب، وكانت أجسامها مليئة بالعضلات تحت شعر قصير مع عيون صفراء محدقة فوق أفواه مجعدة.

خرجت أصوات هدير عميقة من صدورها، وسال اللعاب من أفواهها السوداء التي كشفت عن أنياب مسننة.

فيما توجهت الصراصير صوبهما، قفز كاو إلى طاولة، وسحب ليديا قربه. أمسكت بذراعه بقوة، وامتلأت عيناها ذعراً.

قالت: «تستطيع الصراصير التسلق، أتعرف ذلك؟».

غطت الموجة السوداء للحشرات قوائم الطاولة، وبدأت تزحف فوق حافتها. ركلها كاو، فبعثر أول موجة على الأرض. لكن المزيد منها تدفق، وطوّقهما من كل الجهات. قفزت ليديا، وهبطت لتسحق مجموعة منها، ثم قفز كاو خلفها. غاصت قدماه فيها، لكن في اللحظة نفسها تقريباً، تسلقت الصراصير قدميه وساقيه، ضمن موجة موجبة للوخز والحكاك.

قفز كاو فوق الصراصير المهتاجة، ساحقاً المزيد منها مع كل خطوة. سمع ليديا تصرخ مجدداً، ثم ارتطم شيء بجانبه فوقع. ملأت أنفه رائحة أنفاس مقرفة، وأدرك أنه أحد الكلاب. نجحت قائمتا الكلب الأماميتان في تثبيت ذراعيه، فيما أخرج وزنه كل الهواء من داخله. انفتح فكا الكلب على مسافة سنتيمترات قليلة من وجهه. كان واثقاً من أن تلك الأنياب ستنغرز في أية ثانية في اللحم الطري لوجنته. أحس بالصراصير تهرب بعيداً عنه، كما لو أنها خائفة.

قال جاوبون: «ما كنت لأتحرك لو كنت مكانك». برم كاو رأسه بعيداً عن الأنياب، ورأى أنه قد تم بطح ليديا أيضاً. أما الكلب الثالث فكان جالساً بشكل مطيع إلى جانب جاوبون، وهو يلعق يده. «تستطيع كلابي تمزيق حنجرتك إرباً».

الكلب المنبطح فوق كاو أخفض فمه وهدر، فتجمّد كاو في مكانه، وأغمض عينيه. أحسّ بجوع الكلب الكبير، وأدرك أنه لا يريد شيئاً أكثر من تمزيقه إرباً، لكنْ ثمة شيء يكبحه.

ثم جاء صوت المرأة: «لا غربان لمساعدتك هذه المرة».

فتح كاو عينيه مجدداً، ورآها واقفة قرب ليديا، تتأملها مثل عيّنة مثيرة للفضول. كان صدر ليديا يرتفع وينخفض بسرعة، فيما كشفت تعابير وجهها عن اشمئزاز. ثمة أفعى - تماماً مثل تلك التي قتلت بنجي - ملتفة حول ذراع مامبا. ارتاح عنق الأفعى ورأسها على معصم مامبا، فيما داعبت هذه الأخيرة حراشفها بأطراف أظافرها السوداء الطويلة. وخفق لسانها مرتعداً بسرور.

صرخ سكاتل: «ماذا فعلت بها!».

كان جالساً القرفصاء قرب مجموعة من الصراصير المسحوقة، يغرفها بيديه ثم يفلت قشورها المتكسرة عبر أصابعه، وانهمرت الدموع على وجهه. أما بقية الصراصير فقد اختفت بسرعة.

من هم هؤلاء الأشخاص؟!

حدّق الرجل محدّب الظهر في كاو وليديا، وكانت عيناه رطبتين بسبب الدموع وغاضبتين. صرخ: «اتركا لي مهمة قتلهما. اتركا صراصيري الصغيرة تزحف إلى داخل فميهما وتأكلهما من الداخل!».

توجه صوبهما، لكن الكلب الثالث قطع طريقه وزمجر، فيما تراجعت أذناه صوب الخلف.

قال جاوبون: «ليس الآن. تذكر سبب وجودنا هنا».

ليس لقتلنا إذاً. رغم خوفه، حاول كاو التفكير بوضوح. كنا بالتأكيد ميتين الآن لو كانت هذه خطتهم.

فجأة، قام الكلب المنبطح فوق كاو برفع رأسه، مع أذنين منتصبتين. وفعل الكلبان الآخران الشيء نفسه.

بعد هنيهة، سمع كاو صوت صفارات، ودخل الأمل قلبه.

صرخت مامبا: «الشرطة! كيف عرفوا بالأمر؟».

برم جاوبون رأسه الضخم في اتجاه جثة الآنسة والاس، وزمجر ثم قال: «لا بد أنها ضغطت على زر الذعر مباشرة قبل موتها».

توقفت السيارات فجأة في الخارج، وشاهد كاو عبر زجاج النوافذ وميض الأضواء الزرقاء والحمراء.

صرخت ليديا: «النجدة! ساعدونا!».

سأل سكاتل وهو يجول بعينيه في الأرجاء: «ماذا نفعل؟».

تحرّك باب المكتبة بقوة، وخشخشت السلسلة.

قال جاوبون بهدوء: «سنذهب». وقعت عيناه على ليديا فتابع قائلاً: «أحضرا الفتاة».

اندفعت مامبا وسكاتل إلى الأمام، وأحسّ كاو بوزن الكلب ينزاح عن صدره. برم في الوقت المناسب ليرى سكاتل يرفع ليديا عن الأرض ويرميها فوق كتفه. ركلت وصرخت، وانفلت شعرها الأحمر من ضفيرته. اندفع كاو خلفها، لكن ضربة قوية أصابته على وجنته، فوقع على مكتب الآنسة والاس مذهولاً. وقفت مامبا أمامه، لم يرها أبداً تتحرك، ولا حتى وهي تضربه. نظر إليها عن كثب، ورأى وجهها بتفصيل أكبر. وجنتان طويلتان، شفتان سوداوان تقريباً، عينان تلمعان مثل الجواهر النفيسة. ثم استدارت بسرعة ولحقت بالآخرين.

مدّ جاوبون يده إلى جيبه وسحب شيئاً بحجم تفاحة. نقر على زر في الأعلى ورماه ليبرم وسط الغرفة. خرجت سحابة من الدخان، وانتشرت بسرعة من الأرض إلى الأعلى.

صرخت ليديا: «أنزلني!».

تأمل كاو مكتب الآنسة والاس ورأى مثقّلة الورق، فأمسك بها، وصوّب على هدفه، ثم رماها عبر المكتبة. ارتطمت برأس سكاتل، فسقط الرجل على ركبتيه مفلتاً ليديا. تراجعت ليديا إلى الخلف، فيما أسرعت مامبا إلى جانب سكاتل. بعد لحظات، اختفيا وسط الدخان.

صرخ سكاتل: «تلك الحقيرة الصغيرة! أين ذهبت؟».

قال صوت جاوبون: «اتركها! لا يمكننا المجازفة بإلقاء القبض علينا».

سمع كاو دوياً، ورأى عبر ثغرة في الدخان المتصاعد البابين الأماميين يفتحان على مصراعيهما. ركع شرطي على ركبة واحدة، فيما تدفق الضوء إلى الداخل. أضاءت المصابيح الدخان، وملأ الصراخ الهواء.

«شرطة!».

«لا تتحركوا!».

تجمّد كاو قرب جثة الآنسة والاس، ولمح ظل ليديا يتحرك بين الرفوف على مسافة عشرة أمتار.

أبهره ضوء مصباح.

وصرخ شرطي: «ارفع يديك كي أستطيع رؤيتهما!».

أحنى كاو رأسه بسرعة، واختفى في سحابات الدخان. دوّى صوت رصاصة واحدة، وانفجر الرف قرب رأسه متحوّلاً إلى شظايا. انطلقت رصاصتان أخريان ودخلتا الجدار.

قالت ليديا: «انتظر!».

وعندما وصل إلى جانبها، بالكاد استطاع رؤية أي شيء. تنشق الكثير من الدخان وسعل، واحترقت رئتاه من الداخل.

قال: «هيا». ودفع ليديا صوب الباب الذي دخلت منه الكلاب.

انطلق المزيد من الرصاصات في الهواء فوق رأسيهما.

صرخ صوت: «أوقف نيرانك، قد يكون هناك رهائن!».

توقف أزيز الرصاص، فيما سحب كاو ليديا في الممر. اجتازا أبواباً عدة قبل أن يصلا إلى مجموعة من السلالم المؤدية إلى الأسفل. نزل السلالم بمعدل ثلاث درجات في كل مرة، ولحقت به ليديا. في الأسفل، دفع كاو باباً عليه صورة رجل، ووجد نفسه في حمام. ثمة نوافذ على مستوى الرأس فوق الأحواض.

قالت ليديا: «كاو، توقف! الشرطة إلى جانبنا».

أجاب كاو: «لا، هذا ليس صحيحاً». صعد فوق مرحاض وفتح مقبض النافذة، لكنه لم يستطع تحريك لوح الزجاج، فضربه براحة يده.

قالت ليديا: «سوف نشرح لهم ما حصل، وسوف يصدقوننا». ولم تصعد معه.

قال كاو: «ساعديني!». ودفع إطار النافذة مجدداً، فتزحزح قليلاً.

نظرت ليديا إلى الخلف في اتجاه الباب. «كاو، سيظنون أننا مذنبان إذا هربنا!».

سحب كاو يده إلى الخلف وضرب النافذة مجدداً، فانفتحت مسافة نصف متر تقريباً، وتقشر الطلاء اليابس عن الإطار. مدّ لها يده قائلاً: «أرجوك ليديا. ألا تفهمين؟ إذا ألقوا القبض عليّ، فلن أخرج أبداً مجدداً. سيضعونني في ميتم».

حدّقت ليديا فيه، وسكتت. عرفت أن هذا صحيح.

أخذ كاو يدها، وساعدها على الصعود، ثم قال لها: «أنت أولاً».

صدحت أصوات مرتبكة من الخارج: «ادخلوا غرفة واحدة في كل مرة!».

«توخوا الحذر الشديد، قد يكونون مسلحين».

«غرفة خالية!».

خرجت ليديا عبر الفتحة، ودفع كاو نفسه خلفها. سمع باب الحمام يغلق بقوة، فسحب جسمه صوب الطريق في الخارج. لم ينظر إلى الخلف فيما ركضا عبر مرأب السيارات، مروراً أمام سيارة الآنسة والاس.

صرخ صوت: «هاي أنت! توقف!».

هدر محرك سيارة، واعترضت سيارة شرطة طريقهما. خرج منها شرطيان، وحاول أحدهما رفع مسدسه. لكن قبل أن يخرج المسدس من قرابه، انقضّ سكريتش على ذراعه، فتراجع الشرطي إلى الخلف بدهشة كبيرة، فيما نزع غلام القبعة عن رأسه. ركضت ليديا في اتجاه ممشى. فتح الشرطي الآخر ذراعيه للإمساك بكاو الذي أحنى جسمه قليلاً.

قال: «لن تذهب إلى أي مكان أيها الولد». لكن كاو ركض بكل قوته صوبه، وشعر لوهلة أنه من دون وزن، كما لو أنه غراب أيضاً. قفز عالياً، فارتطمت ساقاه بكتف الشرطي، وانقلب العالم رأساً على عقب فيما وقع على الأرض.

هبط كاو على ظهره فوق غطاء محرك السيارة، ثم انزلق نحو الجهة الأخرى. استدار الشرطي، وقد فتح عينيه بذهول، فيما ركض كاو خلف ليديا ومعطفه منتفخ خلفه.

بعد لحظات، سمع أصوات أقدام رجال الشرطة تقترب منهما.

كان ثمة سرب عملاق من طيور الحمام يأكل على الأرض أمامهما، فاندفع كاو مباشرة صوبها. حلقت الطيور إلى الأعلى وهي تشعر بذعر شديد. وعندما نظر كاو إلى الخلف، رأى رجال الشرطة وهم يحاولون شق طريقهم عبر الأجنحة الخافقة.

فوقهما، حلّق شكلان أسودان؛ غلام وسكريتش.

قالت ليديا: «أي طريق نسلك؟».

أشار سكريتش وغلام إلى اليسار، فقال كاو وهو يشير بيده: «اتبعي الغرابين».

سلكا الممرات الملتوية عبر الأنحاء المجاورة للنهر في بلاكستون، فيما الغرابان يطيران مباشرة أمامهما.

وعندما توقفا عن الركض، أصبحا أمام تقاطع تمتد منه إحدى الطرق الرئيسة صوب الشمال. صدحت صفارات الإنذار بين الحين والآخر في الضواحي المجاورة، لكنهما أضاعا رجال الشرطة. كاد نَفَس كاو ينقطع، وانحنت ليديا إلى الأمام قائلة: «كان هذا... ركضاً مهماً. هل أنت واثق من أنك لا تمضي بعض الوقت في السيرك؟».

هزّ كاو رأسه. لا يعرف كيف فعل ذلك، إلا أنه... فعله.

هبط غلام على الأرض عند أقدامهما، فيما حطّ سكريتش على مظلّة مقهى في الجهة المقابلة.

قال كاو: «لقد جئتما».

قال غلام وهو يرفع منقاره بكبرياء: «لم أشأ ذلك، لكن سكريتش أقنعني. لحسن حظك».

قالت ليديا: «فل لهما شكراً».

قال غلام: أخبرها أننا لا نحتاج إلى شكرها. كاو، ألا ترى أنها خطيرة؟

سألت ليديا: «ماذا قال؟».

كذب كاو: «قال إنه لا داعي للشكر».

قال غلام: هذا يكفي كاو. تؤدي هذه الطريق إلى الحديقة العامة. قل لها وداعاً.

قالت ليديا: «يجدر بنا الذهاب إلى والدي. سيعرف ما يجب فعله».

قال غلام: طبعاً لا. لا تصغِ إليها.

قال كاو: «لا أستطيع. لن يفهم».

أبعدت ليديا خصلة من شعرها عن وجهها وقالت: «سوف نشرح له. ليس من رجال الشرطة، وهو ليس ضدك. إنه والدي!».

قال غلام: لا يمكنك الوثوق فيه.

وجهت ليديا نظرة منزعجة إلى الغراب، كما لو أنها فهمت تقريباً صيحاته.

قالت: «والدي ليس مهتماً بك، إنه يريد فقط أولئك السجناء».

عرف كاو أن السيد ستريكهام ليس رجلاً سيئاً، لكنه ليس صديقاً أيضاً.

ألحّت ليديا بالقول: «ألا تفهم؟ نحتاج إلى أشخاص معنا. لا يمكننا مواجهة هذا بمفردنا».

قال غلام: لست بمفردك. نحن معك.

هزّ كاو رأسه وحدّق في الغراب قائلاً له: «لقد أنقذتنا غلام. أعرف أنك فعلت ذلك، لكن ثمة شيء كبير يجري هنا. لقد قتلوا الآنسة والاس. وذلك العنكبوت في كابوسي له علاقة بالأمر. كان مرسوماً على الجدار، و... وضعوا شبكة عنكبوت فوق فمها». أحسّ بانقباض في حنجرته، فتمتم: «لا بدّ أنها خافت كثيراً».

أمال غلام رأسه ونظر إلى الأعلى. لحق كاو باتجاه نظراته، وشاهد ميلكي للمرة الأولى جاثماً على حافة صحن قمر صناعي.

سأل كاو: «متى وصل إلى هناك؟».

أجاب غلام: كان يراقبنا طوال الوقت.

أصدر ميلكي صوت قرقرة ناعمة لم يسمعها كاو من قبل.

طار سكريتش وحطّ على كتف كاو، وقال: هل رأيت كيف نلت من ذلك الشرطي؟ الله!

قال كاو: «نعم رأيت». وابتسم بخجل. «أنا آسف على ما قلته قبلاً. لا أستحق مساعدتك».

فيما خرج الولدان برفقة الغربان إلى الشارع الرئيس، رأى كاو حمامة فوق مصباح الشارع.

قال وهو ينظر إلى العينين الجامدتين للطائر: «لقد ساعدتنا طيور الحمام أيضاً، أليس كذلك؟».

قال سكريتش: مجرد صدفة. وأطلق صيحتين قاسيتين فطارت الحمامة.

تاه كاو في أفكاره فيما أسرعا صوب منزل ليديا. وفيما بدأ أدرينالين المطاردة يختفي من جسمه، أصبح قلبه ثقيلاً.

قالت ليديا: «تعرف جيداً أنك لست المسؤول». كما لو أنها حزرت ما يفكر به. كانا كلاهما ينتبهان إلى أي دليل يشير إلى تواجد الشرطة فيما نزلا مسرعين في شارع جانبي مقفر. حلقت الغربان أمامهما عند مفترقات الطرق، وصاحت مرتين إذا كانت الطريق خالية، أو مرة واحدة إذا لم تكن خالية. اختبأ كاو وليديا مراراً خلف السيارات المركونة؛ فقط لتوخي الحذر.

قال كاو: «كانت ستبقى على قيد الحياة لولاي. شعرت أنه تمت ملاحقتنا في أول مرة ذهبنا فيها إلى المكتبة. لا بد أنهم أولئك السجناء. لو لم أطلب منها المساعدة، لربّما...».

برز سؤال آخر في باطن عقله. من أو ما هو كوايكر؟ ولماذا كانت الكلمة مهمة جداً لدرجة أن الآنسة والاس أبقتها في يدها، حتى عندما قتلت؟

أمسكت ليديا بذراعه. وعندما نظر إلى الأعلى، رآها تتوسل إليه بعينيها. «كاو، أولئك السجناء قتلوا الآنسة والاس وليس أنت. وحين تلقي الشرطة القبض عليهم، سوف يسجنهم أبي ويحرص على ألا يخرجوا أبداً من جديد. اتفقنا؟».

شعر كاو بالامتنان لكلماتها، حتى لو لم يكن مقتنعاً بها تماماً. أحسّ بغضب قوي ومفاجئ يشتعل في صدره. أولئك المجرمون يستحقون ما هو أسوأ من زنزانة سجن؛ أسوأ بكثير.

بعد بضع جولات إضافية، ظهرت أخيراً جدران الحديقة العامة في نهاية الطريق، ومن ثم ظهر منزل آل ستريكهام.

سأل كاو وهو يشعر فجأة بالارتياب: «هل أنت واثقة من هذا؟ أقصد، لا يحبني والداك، أليس كذلك؟».

قالت ليديا: «ليس هذا بالضبط. أنت فقط مختلف قليلاً».

قال غلام وهو يندفع أمامهما: ساحر. سوف ننتظر هنا.

حطّت الغربان الثلاثة على الأغصان في شجرة الزان. اختار ميلكي غصناً أعلى من الغصنين اللذين حط عليهما الآخران. بدت عيناه الشاحبتان كما لو أنهما تلاحقان كاو. أصبح بعد الظهر بارداً، مع غيوم رمادية متلبدة في السماء.

فتحت السيدة ستريكهام الباب بقوة قبل أن يصلا إلى منتصف الممشى.

سألت: «أين كنت أيتها الآنسة الصغيرة؟».

أجابت ليديا: «ماما، نريد التحدث إلى بابا».

قالت السيدة ستريكهام: «يتحدث والدك عبر الهاتف. وماذا يفعل هذا الصبي هنا مجدداً؟». حدّقت عيناها في شيء خلف كاو، وأصابها الشحوب. استدار كاو ورأى أنها كانت تنظر إلى الغربان. قالت: «ادخلي».

صعدت ليديا الدرج.

قالت أمها فيما حاول كاو اللحاق بها: «فقط أنت ليديا».

توقفت ليديا وقالت: «إنه صديقي. لن أدخل من دونه».

أحسّ كاو ببعض الكبرياء. لم يقل عنه أحد إنه صديقه طوال حياته.

فتحت السيدة ستريكهام فمها، ولكنها ترددت، أو لم تعرف ماذا تقول. تبدّل تعبيرها، وبدت فجأة حزينة أكثر مما هي غاضبة.

ظهر السيد ستريكهام خلفها، واضعاً الهاتف على أذنه. كان يقول: «شكراً جون، أبقني على اطلاع بما يجري». بدا منهكاً فيما أنهى المكالمة، لكن وجهه عاد إلى الحياة عندما رأى ابنته. «ليديا. الحمد لله أنك بخير». انتقلت عيناه صوب كاو بعصبية، ثم استدار صوب زوجته. «يقول المحقق ستاغ إنه حصل نوع من... حادث في المكتبة. يبدو أن المحقق مهتم جداً في ذلك».

قالت ليديا: «أعرف. كنا هناك».

نظر السيد ستريكهام جيداً إلى ابنته، ثم صرخ: «كنت ماذا؟».

تقدم كاو محاولاً أن يبدو جريئاً، وقال: «رأينا القتلة. إنهم السجناء الفارون».

صرخت السيدة ستريكهام: «طوني! هذا الصبي...».

قال السيد ستريكهام: «دعيه يدخل. يبدو أنكما تملكان بعض التفسيرات».

لاحظ كاو لوحاً خشبياً إضافياً مثبتاً فوق الفتحة الهوائية في الممر.

تمتم السيد ستريكهام شيئاً أمام زوجته، ثم استدار صوب كاو، وقال: «هل تمانع الانتظار في غرفة الجلوس قليلاً ريثما أتحدث مع ليديا وحدها؟».

أومأ كاو برأسه، ورافقه السيد ستريكهام إلى غرفة أخرى كبيرة مليئة بأرائك فخمة جداً وموقد مشتعل. ثمة بابان مزدوجان يؤديان إلى شرفة مؤطرة بالحديد ومطلة على الحديقة الخلفية، وبعدها على السجن. أشار السيد ستريكهام إلى أريكة، وأدار جهاز التلفزيون، فيما جاءت السيدة ستريكهام مع كوب ماء. قدّمته إلى كاو من دون التفوه بكلمة، ثم غادرت مجدداً. ضغط السيد ستريكهام على جهاز التحكم عن بعد، وأصبح الصوت أعلى. كانت ثمة امرأة تتحدث عن أسعار الوقود.

قال السيد ستريكهام: «سأعود بعد دقيقة». ثم غادر الغرفة، وأغلق الأبواب خلفه.

ارتشف كاو الماء، محاولاً تركيز أفكاره. ما الذي أراد أولئك المجرمون فعله في المكتبة؟ ليس قتلهما؛ هذا مؤكد. لكن ما فعلوه مع الآنسة والاس أظهر كم يمكن أن يكونوا عديمي الرحمة. ما هي علاقتهم بالعنكبوت؟

ماذا عن كوايكر؟

المرأة التي على الشاشة لمست أذنها، وتم تسليمها قصاصة ورقية من قبل شخص خارج حقل التصوير.

قالت: «وردنا الآن. تتحدث الشرطة عن موت مريب في مكتبة بلاكستون. الضحية هي الآنسة جوزفين والاس، مسؤولة المكتبة طوال العقد الأخير. لا تزال الشرطة تحاول معرفة الحافز، لكن يجدر بأي شخص يملك معلومات أن يتصل...».

سمع نقرة على النافذة جعلته ينظر إلى الأعلى. إنهما سكريتش وغلام يجثمان على درابزون الشرفة في الخارج.

توجه كاو بسرعة صوب النافذة. كانت مقفلة ومن دون مفتاح في القفل. وضع فمه على الفتحة الصغيرة، وقال: «ما الأمر؟».

قال سكريتش: ميلكي قلق بشأنك. لا يثق فيهما.

قال كاو: «من؟ آل ستريكهام؟ هل قال ذلك؟».

أجاب سكريتش: نوعاً ما.

قال كاو وهو يبرم عينيه: «نوعاً ما؟ اسمع، أعرف أنك لا تحب ليديا، لكنها تقف إلى جانبي. وأعتقد أن والدها يفعل ذلك أيضاً».

قال غلام: حقاً؟! في هذه الحالة، لماذا سجنك في الداخل؟

تجمّد دم كاو في عروقه. «لم... لم يفعل».

قال غلام: إذاً حاول فتح الباب.

ابتعد كاو عن النافذة، واستدار حول الأريكة، ووضع أصابعه على مقبض الباب. وعندما ضغط عليه لم يتحرك.

2020/03/06 · 245 مشاهدة · 2695 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024