5 - المُتوحشون—الفصل الخامس

الفصل الخامس

يشعر كاو دوماً بالتوتر حين يخرج في النهار. ففي الليل، عندما يجوب المدينة بحثاً عن الطعام والموارد، تحميه العتمة من الأعين المتطفلة. ويتيح له ذلك التحرك بحرية أكبر عبر الشوارع وفوق الأسطح. لكن على الأرض، وتحت وهج ضوء الشمس، يشعر أنه مكشوف. ازدحمت السيارات في الشوارع، وملأ مئات الناس الأرصفة والمتاجر. أخبر نفسه أن الناس لا ينظرون إليه، لكن هذا لم ينفع أبداً.

لكن هذه المرة، ومع ليديا إلى جانبه، شعر أنه طبيعي تقريباً. لا شك في أنه أبقى عينيه على السماء للتحقق من وجود سكريتش وغلام معهما. بقي ميلكي في العش بمفرده.

بلاكستون كبيرة، وشوارعها منظمة على شكل شبكة. لم يستطع كاو قراءة الأسماء على اللافتات، لكنه عدّ المباني. بهذه الطريقة، يعرف دوماً كيف يجد الطريق المؤدي إلى الحديقة العامة. وفيما غاصا أكثر فأكثر في المدينة، ازدحمت المباني على كلا الجانبين، وكانت شاهقة جداً؛ حيث بدت السماء مجرد خيط رمادي فوقها. قال لنفسه إن الناس الذين يعيشون في الأعلى يشعرون على الأرجح أنهم في عش أيضاً.

امتدت خطوط حديدية مفردة فوق الشوارع على شكل جسور، أو غاصت في أنفاق مدفونة تحت الأرض. كانت المحطات موزعة في المدينة، تفرغ الركاب من أحشاء الأرض. لم يغامر كاو أبداً بالنزول تحت الشوارع. ففكرة أن يعلق هناك كانت ترعبه كثيراً.

كانت ليديا تقول: «والدي متوتر جداً. يقول إن وظيفته قد تكون على المحكّ. كان أولئك السجناء تحت حراسة مشددة، لكنهم نجحوا في الهروب عبر أرض أحد الحمامات».

ترك كاو ليديا تتكلم طوال الطريق. إنها جيدة في الكلام. عرف أنها طفلة وحيدة، وأن كلبها بنجي يخاف من القططة، وأن مادتها المفضلة في المدرسة هي الرياضيات. كان يصغي، لكن أينما ذهب بحثت عيناه عن مهرب - ويستحسن أن يكون صوب الأعلى - مجاري صرف صحي، منافذ حريق، حواف نوافذ مع مساحة كافية ليلف أصابعه حولها. تساءل متى سيجد الوقت المناسب ليخبر ليديا أنه لم يدخل المكتبة يوماً من قبل.

أصبحا قريبين منها الآن، وهي عبارة عن مبنى عملاق قديم الطراز مع فناء أمامي عشبي، تقطعه مسارات ومنحوتات معدنية غريبة. أول مرة ذهب فيها إلى هناك كانت قبل أكثر من عام. عند غروب الشمس، هبّت عاصفة قوية على بلاكستون، واحتمى من المطر تحت الأعمدة الأنبوبية الكبيرة المحيطة بالجهة الأمامية للمكتبة. لم يعرف ماذا يوجد في الداخل، لكن الأضواء المنبعثة من النافذة أغرته بالنظر عن كثب. وفيما ضغط بأنفه على الزجاج وشاهد تلك الرفوف العملاقة المليئة بآلاف الكتب، شعر بافتتان كبير. ذكّرته تلك الكتب بالماضي؛ حين كان ولداً صغيراً في غرفة نومه في الليالي التي كانت أمه تختار له فيها كتاباً مصوراً عن الرف وتقرأه له إلى أن ينام.

فاجأته امرأة في خريف العمر، حيث ظهرت من الباب الرئيس، وسألته إذا كان يودّ الدخول. كانت أقصر منه قليلاً، مع بشرة سوداء وشعر أسود مجعد كثيراً تحول لونه إلى الرمادي في بعض الأنحاء. كانت تلك هي المرة الأولى التي يتحدث فيها كائن بشري معه منذ أشهر. ولو لم يكن المطر يتساقط بغزارة، لركض حتماً. وهكذا، تجمد في مكانه. ابتسمت له المرأة، وأخبرته أن اسمها الآنسة والاس، وأنها المسؤولة عن المكتبة. وسألته إذا كان يحب الكتب. لم يقل كاو أي شيء، لكن المرأة رأت على الأرجح تعابير التوق على وجهه.

قالت: «انتظر هنا!».

ورغم كل غرائزه ونصيحة الغربان، انتظر.

عندما ظهرت السيدة مجدداً، كانت تحمل كومة من الكتب الملونة، وكوباً كرتونياً ساخناً. قالت: «يبدو أنك تشعر بالبرد».

ارتشفه كاو بحذر؛ شوكولا ساخنة. أغمض عينيه مستمتعاً بالنكهة. كانت غنية وقشدية، وأشبعته بطريقة لم تفعلها يوماً مياه الأمطار. جعلته يختار الكتب التي يحبها؛ تلك التي تشتمل على أقل عدد من الكلمات. حزرت ربما أنه لا يستطيع القراءة، لكنها لم تقل ذلك.

قالت: «أحضرها الأسبوع المقبل في الوقت نفسه. اتركها قرب درج منفذ الحريق في الجهة الخلفية من المبنى إذا كنت تفضل عدم الدخول».

أومأ كاو برأسه، وحاول القول «شكراً»، لكنه كان متوتراً جداً حيث انتهى الأمر به وهو يتمتمها عوضاً عن ذلك.

في الأسبوع التالي، عندما أعاد الكتب، وجد كومة أخرى في انتظاره مع كوب آخر من الشوكولا الساخنة. وحصل الشيء نفسه في الأسبوع التالي، والأسبوع الذي بعده. بين الحين والآخر، كانت الآنسة والاس تخرج لتلقي التحية. اقترحت مرة واحدة فقط أن تتصل بشخص ما «لمساعدته»، لكن كاو هزّ رأسه بعنف، حيث لم تكرر العرض مجدداً.

«ماذا حدث لأهلك كاو؟».

أعاده سؤال ليديا إلى الحاضر.

أضافت: «لا أقصد التطفل. لكن معظم الأولاد الذين لا يملكون أهلاً يذهبون إلى ميتم».

قال كاو بحذر: «لا أعرف. لا أذكر».

لا يستطيع إخبارها عن أحلامه، فسوف تضحك عليه.

«لكن...».

توقفت. أحست ربما أنه لا يريد التحدث في الموضوع.

توقفا لاجتياز الطريق.

أطلق غلام صوتاً عالياً، وهبط صوب الأسفل، وحطّ على ضوء إشارة المرور، وقال: مزعجة هذه الفتاة!

برزت المكتبة أمامهما. بدت أكثر قدماً من معظم المباني في بلاكستون. توجهت ليديا بخطوات سريعة صوب الأبواب المزدوجة العملاقة، لكن كاو توقف. فبعد أن وصل إلى هنا الآن، لم يعد واثقاً جداً. هل يستطيع الدخول هكذا عبر المدخل؟

سألته ليديا: «ماذا تنتظر؟».

قال غلام، وهو يستقر على الدرج: سنبقى في الخارج. توخَّ الحذر.

عرف كاو أنه يبدو أحمق، ولذلك وطّد عزيمته وصعد الدرج. ابتعدت بضع حمامات عن طريقه، وتذكر كاو فجأة الرجل المشرد قبل يومين، خارج مطعم الوجبات السريعة.

ربما كان مجنوناً، مثلما قال سكريتش.

في أعلى الدرج، شعر كاو بوخز غريب في الجهة الخلفية لعنقه. شعر أنه مراقب، لكنه عندما استدار لم يجد أحداً. فقط العشب الذي تحرّكه الرياح في الفناء الأمامي، وبعض المقاعد الفارغة. لحق بليديا عبر الباب.

الجو دافئ في الداخل، وتصبب العرق من جبينه فوراً. جعله الصمت يدرك فجأة صوت تنفسه الخاص، وتأمّلت عيناه القاعة الكبيرة. في الطرف البعيد، ثمة صفوف من رفوف كبيرة تحمل آلاف الكتب، وفي الأعلى امتدت شرفة مع المزيد من الرفوف. في الجهة الأمامية، هناك بضعة مقاعد، حيث يجلس الناس للقراءة والكتابة بهدوء. وإلى اليسار، قرب المدخل، ثمة طاولة منحنية مع جهاز كمبيوتر والكثير من كومات الورق، وخلفه تجلس مسؤولة المكتبة. كانت منحنية فوق دفتر صغير، فيما نظارتها متكئة على أسفل أنفها، وعندما نظرت إلى الأعلى ورأت كاو، رسم وجهها ابتسامة عريضة.

قالت: «حسناً، مرحباً بك». انتقلت عيناها إلى ليديا، وارتفع حاجباها. «وأرى أنك أحضرت معك صديقة».

أومأ كاو برأسه.

قالت ليديا: «أنا ليديا ستريكهام. سررت بلقائك».

قالت مسؤولة المكتبة: «يمكنك مناداتي الآنسة والاس. والآن، كيف أستطيع مساعدتكما؟».

وضع كاو كتبه على المكتب، وتمتم وقد تورّدت وجنتاه بشدة: «أنا... هل يمكنك...». شعر برغبة شديدة في الركض صوب الباب والخروج إلى الهواء البارد. قال أخيراً: «أريد إيجاد كتاب».

صفقت الآنسة والاس بيديها مسرورة، وقالت: «حسناً، لقد حان الوقت لذلك! لم أعرف أبداً إن كنت قد أحببت الكتب التي اخترتها لك أم لا. والآن، عمّ تبحث؟».

نظر كاو في أرجاء القاعة الضخمة، وقال: «أريد معلومات عن العناكب». أضاف، كما لو أنها فكرة متأخرة: «العناكب غير الاعتيادية».

أحسّ بليديا تقطّب وجهها، لكنها لم تتفوه بأي شيء.

ابتسمت الآنسة والاس وقالت: «اتبعاني».

مشى كاو خلفها بين كومات الكتب، محاولاً عدم لفت انتباه أيّ من القرّاء الآخرين. كان واثقاً من أنهم ينظرون إليه، بمعطفه الأسود المتسخ وحذائه المهترئ. نظرت مسؤولة المكتبة إلى الرفوف، ثم أبطأت سرعتها وتوقفت في منتصف الطريق. قالت وهي تشير إلى قسم من الرف: «سوف تجدان هنا التاريخ الطبيعي. فلنرَ». نظرت عن كثب، ثم سحبت كتاباً، وقالت وهي تعطيه إيّاه: «إنه موسوعة حول أنواع العناكب. هناك بعض الكتب الأخرى حول المفصليات أيضاً. العناكب نوع من المفصليات، هل فهمت؟ سأكون أمام مكتبي إذا احتجت إلى أي شيء آخر».

جلس كاو على الأرض، مسروراً لكونه بعيداً عن مرأى الآخرين، وجلست ليديا قربه. تمتمت قائلة: «ظننتُ أننا أتينا إلى هنا كي أعلّمك القراءة. لكنك تفكر في السجين، أليس كذلك؟ الرجل الضخم في الممشى صاحب الوشم المخيف».

أومأ كاو برأسه، وفتح الكتاب قائلاً: «تعرّفت إليه».

«من أين؟».

أجاب كاو: «من كابوس رأيته؛ كابوس عن أهلي».

أحنت ليديا رأسها. «ظننتُ أنك لا تذكر أي شيء عن أهلك».

تنهد كاو. بالكاد عرف ماذا يقول لها. بالكاد عرف ماذا يعرف فعلاً. قال: «لا أستطيع أن أشرح. يبدو وكأنه ذكرى. حلمت به بضع مرات. إلا أنه كان مختلفاً في المرة الأخيرة. كان هناك ذلك الرجل... رجل شرير... وضع خاتماً عليه صورة ذلك العنكبوت».

قطّبت ليديا حاجبيها، وبدت مذهولة: «العنكبوت نفسه؟!».

قال كاو: «نفسه بالضبط. هل ستساعدينني في البحث؟».

جلسا جنباً إلى جنب، وقلّبا صور العناكب. إلا أن أياً منها لم يكن مثل العنكبوت الذي رأياه؛ مع جسمه المعقوف، وأرجله الطويلة والضيقة، والشكل M على ظهره.

بعد نصف ساعة، وقفت ليديا وتمددت، ثم قالت: «ليس هنا. فلنسأل الآنسة والاس إذا كانت تستطيع المساعدة».

سألتهما مسؤولة المكتبة بفرح، فيما توجها صوب مكتبها: «هل وجدتما ما كنتما تبحثان عنه؟».

هزّ كاو رأسه.

قالت ليديا: «نحن نبحث عن عنكبوت معين، لكنه غير موجود في أي من الكتب».

قالت الآنسة والاس: «ممم. هل يمكنك رسمه؟».

أجابت ليديا: «أظن ذلك». أعطتها الآنسة والاس ورقة وقلم رصاص. تمتمت ليديا فيما رسمت: «كان الجسم شبيهاً بالشكل S». رسمت الشكل بطريقة مثالية تقريباً. مجرد رؤيته جعلت كاو يرتعد.

قال: «لا تنسي الشكل M في الوسط». أخذ قلم الرصاص وأجرى التعديلات اللازمة.

تأملته الآنسة والاس عبر نظارتها ثم سألتهما: «هل أنتما واثقان من أن هذا عنكبوت حقيقي؟ لم أرَ شيئاً كهذا من قبل».

قال كاو: «أريد فقط أن أعرف من أين يأتي. هذا مهم».

قالت الآنسة والاس: «حسناً، لدينا كل أنواع الخبراء والأكاديميين في المكتبة. دعني أجري بعض الاتصالات. هل يمكنكما العودة غداً؟».

أومأ كاو برأسه وقال: «شكراً لك».

أجابت: «لا مشكلة. هل تريد أخذ بعض الكتب الإضافية نظراً لوجودك هنا؟».

قالت ليديا: «نعم، من فضلك». قبل أن تتاح لكاو فرصة الإجابة.

عندما غادرا المكتبة، كانت حقيبة ليديا مليئة بكتب جديدة، واشتمل معظمها على كلمات أكثر من تلك التي اعتاد عليها كاو. إلا أن كاو لم يكترث كثيراً. إذ كان لا يزال يفكر في العنكبوت. إذا لم يستطع العثور عليه في كل تلك الكتب، فأي أمل يملك في اكتشاف حقيقة حلمه؟

وجدا سكريتش وغلام جاثمين على الدرج في الخارج، ويراقبان رجلاً جالساً على مقعد في الجهة المقابلة من الشارع ويتناول البرغر.

قال سكريتش بمرارة: هذا الرجل لم يوقع فتاتة واحدة.

قال غلام: هل وجدت شيئاً مثيراً؟

هزّ كاو رأسه: «فلنذهب».

قالت ليديا: «لا تيأس. قد تتوصل الآنسة والاس إلى شيء ما».

ركل كاو حجراً على الرصيف. «ربما. شكراً لك على المساعدة في أية حال».

قالت ليديا: «كنت أفكر. هل للعنكبوت علاقة بعصابة ما؟ أتفهم ما أعنيه؟ إنه رمز وليس عنكبوتاً حقيقياً. هل كان والداك يواجهان المشاكل؟».

قال غلام وهو يحطّ أمامهما: يستحسن نسيان المسألة. عد إلى الحياة الطبيعية.

قال كاو: «لا أظن ذلك. لا أعرف». هناك الكثير من الأمور التي لا يعرفها عنهما.

وصلا إلى طرف الحديقة العامة عند منتصف النهار تقريباً.

قالت ليديا: «اسمع، عليّ الذهاب الآن. لماذا لا تأتي إلى منزلنا لتناول العشاء الليلة؟».

قال سكريتش: مستحيل!

أضاف غلام: فكرة سيئة جداً.

قال كاو: «إيمممم...».

قاطعه غلام قائلاً: لقد تخطت الأمور حدودها. تسللت هذه الفتاة إلى عشنا أولاً، ثم جرّتك عبر منتصف المدينة، والآن هذا!

قالت ليديا: «هيا. هذا أقل ما نستطيع فعله لك بعدما أنقذتنا من أولئك السجناء. فكِّر في الأمر؛ وجبة ساخنة! يبدو أنك تستطيع تناول واحدة».

قال سكريتش، وهو يخفق بجناحيه: لا نحتاج إليها. لاحظ كاو الجبيرة على رجل سكريتش. لم يتذمر الغراب من الإصابة مطلقاً بعدما وضعت له ليديا الجبيرة.

قال كاو: «دعيني أفكر في الأمر».

برمت ليديا عينيها: «حسناً، فكر في الأمر. تعال عند الساعة السابعة». لوّحت له بيدها، وأسرعت صوب منزلها، ثم توقفت للقول: «أوه، وقد ترغب في الاستحمام».

«لا أملك...».

لكنها رحلت.

تسلّق كاو بوّابة الحديقة العامة، ومزّق شبكة عنكبوت تلألأت بين قضيبين. التصقت الخيوط بأصابعه. عندما أصبح بمفرده مجدداً، شعر بالقليل من الغرابة. إنه معتاد على أن يكون بمفرده - قال لنفسه - ولذلك يجدر به الشعور بالارتياح. إلا أنه لم يشعر بالسرور لأن ليديا رحلت. أبعد خيوط العنكبوت عن أصابعه.

قال غلام: الحمد لله أننا تخلصنا منها. فلنعد إلى العش ونأخذ قيلولة. هيا بنا!

عندما وصل إلى أسفل شجرته، لمحت عيناه حركة، كما لو أن شيئاً ما هرب داخل أجمة صغيرة.

قال سكريتش: هل هذا جرذ؟

قال كاو: «أعتقد أنها فأرة».

قال غلام: الأمر نفسه؛ وجبة عشاء.

رفع كاو ياقة قميصه القطني إلى أنفه وشمّها. «ما الذي قصدته بالاستحمام؟». قال غلام بعد أن استقر على غصن منخفض: لن تذهب، أليس كذلك؟

قال كاو، فيما بدأ يتسلق الشجرة: «لا. حسناً، ربما».

2020/03/05 · 303 مشاهدة · 1903 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024