2 - الطوفان الثاني


{أحيانا يتطلّب الأمر فقط، أن تستسلم للموج . .
لا تفكّر، لا تتحّرك، لا تقاوم، ودع الأجسام المتصادمة تكمل دورتها..}


♦♦♦♦


قبل سبعة عشر عاماً

لطالما كان جو ميتم القديسة تريزا الذي ترعرعت به كئيب و مظلم، الأمطار تزل معظم الوقت من السنة لذلك لا يستطيع احد اللعب في الخارج، و اللعب داخل المنزل محظور تماماً؛ و الأم مارثا تقتل طفولة الجميع باجبارهم على الدراسة طوال الوقت، كان الأكل قليل و العقوبات قاسية للغاية، و لكن رغم ذلك ظلت كاثرين تحارب كل الظروف لكي تسعد شقيقتها الصغرى ذات الاعوام الثلاثة.

كلمات والدتها الاخيرة كانت اكبر محفز لها لكي تتحمل المسؤولية، و تنضج قبل اوانها، كانت تعمل بالاعمال الإضافية داخل الميتم لتشتري الطعام الإضافي لشقيقتها، و احيانا تنجح بصعوبة بشراء هدية عيد ميلاد لأجلها.

كانت حياة كاتي مقبولة و لكن كاثرين كانت تريد الأفضل لأجلها على الدوام و كانت تفكر، لو أنها امتلكت المزيد من الأموال لتمكنت من ادخال كاتي لدروس رقص البالية التي اشتركت بها سيلفا الفتاة التي تعيش في اخر الحي الذي يوجد به الميتم، أو ربما دروس البيانو الخصوصية التي تقدمها الأنسة جوان مقابل مئة يورو شهرياً، أو حتى دروس اللغة الفرنسية التي قد تفيد كاتي مستقبلاً.

اذا كان كل ذلك لاجل كاتي اذا ماذا عن كاثرين؟
ايعقل بانها لا تملك اي احلام كسائر الفتيات؟
الكل كان يتسائل كلما شاهد تفاني تلك الفتاة ذات العشرة اعوام، لم يعرفوا بان احلامها تلك احترقت يوم غادر والديها هذه الحياة و لم يتبقى لديها سوى شقيقتها الصغيرة كاتي.

ما زالت تذكر ذلك اليوم حينما طلبتها الأنسة مارثا الى مكتبها في الطابق الثاني حيث لا ينام سوى المسؤولين، تتذكر رائحة العطر الثقيلة و طلاء المكتب المتشقق، الظلمة الحالكة و الأمطار خارجاً و شكل ظلال الشموع التي تضيء الغرفة بصعوبة، و بالتأكيد البرودة القارصة، تلك التي احرقت جلدها فورما نطقت الأم مارثا بكلماتها الثلاث.

- وجدنا عائلة لكاتي.

تتذكر مقولة قراءتها في كتاب علمي، البرودة القارسة قد تتسبب في اصابات و الام تشبه تلك التي تسببها الحروق، و بالفعل شعرت بالبرودة ترتفع لدرجة انها باتت تتسائل ما اذا كانت النار تشتعل على جسدها؛ أم أن تلك مخيلتها التي تأثرت بالكتاب فقط؟

لم تجواب، حاولت الحفاظ على بصيص أمل ضعيف يخبرها ضاحكاً و يقول: إن الأم مارثا قررت ان تجرب المزاح و بدأت مسيرتها بمزحة سيئة و ثقيلة جداً هذا كل شيء لا داعي للقلق.

- أعلم بأن ذلك صادم، و لكنهم يريدون طفلة صغيرة لكي يربوها، و انتي... حسنا اكبر من المطلوب، أستمعي لي كاثرين، أنت دائما تحاولين تحقيق كل احلام كاتي صحيح؟ صدقيني هم سيفعلون ذلك لأجلها، ستتعلم البالية و البيانو حتى انها ستتعلم الفرنسية! لا يمكنك ان تحرمي شقيقتك تلك الحياة المثالية صحيح كارثرين؟.

و هنا بكت بصمت، لأول مرة منذ زمن طويل، لانها كانت تعرف في قرارة نفسها بانها ستوافق، لان كل مسعاها هو حصول كاتي على حياة مثالية.

و لما طال بكائها هزت الأم مارثا رأسها مشيرة بيدها صوب الباب قائلة

- لنتحدث في الغد.

بعد تلك الليلة بيومين غادرت كاتي باكية و لم تودعها كاثرين حتى، و يا ليتها فعلت..

فقط لو علمت بان تلك كانت ستكون اخر مرة تراها بها.

♦♦♦♦


الوقت الحالي في احد المستشفيات الحكومية

- كاثرين.

صوت جوي تسلل إلى مسامعها لتفتح عينها على مصرعيهما

- أين أنا؟!.

سألت و هي تدفع بنفسها لتنهض من على من على الفراش.

- لا تتحركي ارجوك لقد كنتي في حالة صدمة، حالياً نحن في مشفى توكسيرد شمال العاصمة.

تلتفت حولها بينما بدات ذكريات الاحداث الأخيرة التي عاشتها تتدافع الى رأسها

كاتي إنتحرت!

- اختي!.

صرخت بينما تنزل ابرة المغذي من يدها و تهض من السرير لتهب واقفة على قدميها و لكن موجة من الدوار افقدتها توازنها و كادت ان تسقط لولا ان جوي سندها في اللحظة المناسبة.

- إهدئي لقد كنت نائمة ليومين تحركك الان لن يفيد، اجلسي لاحكي لك القصة.

نائمة ليومين تلك الكلمتين قبضت قلبها بكلاليب من لهب، كيف امكنها النوم!

- ليومين!.

همست بغير تصديق و سرعان ما تدارك الاخير الموقف قائلاً

- لم يكن بيدك لقد امر الطبيب بتخديرك، لكي ترتاحي، و الان ارجوك استمعي لي.

- ماذا هنا جوي؟! اختي انهت حياتها و انت تردد استمعي الي! ما الذي تريده مني؟!
اقسم بانه لو تفوهت بكلامك الابله عن التماسك او اي لعنة لمواساتي فسالقي بك من تلك النافذة!
الم تكن تقول بان الامور الجيدة ستحدث اذا ما فكرت بها؟!
حسنا انظر للامور الجيدة التي حدثت!، لا اريد ان اعرف شيئاً عن اي شيء!
الا يمكنك ان تفهم؟! لقد ماتت كاتي!
الشيء الوحيد الذي تبقى لي في الدنيا!.

تحدثت صارخة بوجع بسرعة بين شهقاتها بعد ان جهشت بالبكاء ليتنهد الاخير في اسى و هو يحدق بوجهها الذي احتقن بالدماء ليمسي بدرها المنير احمر اللون قاني.

- ربما لم تقم بالانتحار.

في لحظات كلماته انتشلتها من اعمق سراديب الياس لتفظها على شواطئ الأمل!

ايعقل ان التي كان اسمها كاتي و انتحرت، لم تكن كاتي شقيقتها بل فتاة اخرى؟

هل هناك فرصة في ان المحقق اخطاء تسجيل العنوان؟

ربما كان يقصد المنزل 802 و لكنه فقط اخطاء في كتابة الثمانية لتبدوا كالثلاثة!!

- ما قصدك؟.

سالته و هي تحاول حبس كل تلك التخيلات بقلبها في محاولة منها للوقوف على ارض اشبه بقشرة رقيقة

- حسنا فقط استمعي لي جيدا، لقد قمت باستغلال شهادتي كصحفي و قمت ببحث مكثف حول القضية، لم اتمكن من الحديث مع عائلة كاتي لكنني تواصلت مع عدد من سكان الحي و اصدقائها في الجامعة، علمت ان كاتي كانت في الفترة الأخيرة تعمل على متن سفينة سياحية تعود ملكيتها الى عائلة ادواردز الشهيرة، كانت سعيدة جداً كونها حصلت على فرصة عمل كبيرة كتلك، خصوصاً و ان الراتب كبير و يكفي لسد ديون جامعتها، لكن ما لم تكن تعرفه كاتي هو ان تلك السفينة بالذات لديها سمعة سيئة تحاول اخفائها جيداً؛ فقد حدثت فيها مئة و واحد و سبعون حالة اختفاء، أخرها كان قبل اربعة اعوام حيث اختفت شابة في السادسة و العشرين تدعى ريبيكا واتسن، و من قبلها شابه تدعى اميليا بارك، عدد اخر من النساء بالاضافة الى بضعة رجال ايضا، المهم أن شقيقتك اختفت على متن نفس تلك السفينة المشؤومة قبل يومين، و لقد ادعت شركة ادواردز بانها قد انتحرت مثلها مثل بقية اولائك الذين يعملون في شركتهم، و الذين يقدمون 'حسب إدعائهم' على الانتحار هناك فقط من اجل قضاء اخر ايامهم في مكان جميل و من ثم الموت بسلام في المحيط، و لكنهم لا يملكون اي حجة على تلك الاقوال، و بصراحة الامر غير منطقي ابدا فلما ستحاول الانتحار و هي كانت تعمل هناك من اجل اكمال دراستها الجامعية؟! ، على العموم ما يزال هناك بعض التكتم حول الامر حتى ان ركاب السفينة لم يتحدثوا مطلقاً و الان السفينة محجوزة في المكسيك ريثما تصل الحكومة البريطانية و تفتشها، فحسب القانون ملكية السفينة حررت من قبل بريطانيا، لذلك سياخذ التحقيق في الامر من قبلهم مدة طويلة.

بين التفاجوء و الدهشة فالصدمة فالذهول تقافزت تعابير وجهها مع كل كلمة كان يلقيها على اذنيها.

- جوي.. عذرا و لكن هذا كثير، انا لم اعد افهم، هل ماتت شقيقتي؟ .

- لا علم لي ما كانت حية او ميتة المهم انها لم تنتحر في اسوء الأحوال قد تم اغتيالها او قد تكون مختطفة، و ان كانت ما تزال حية فشقيقتك في ورطة كبيرة بلا شك.

- حسنا حسنا حسنا... لحظة... يعني انه هناك احتمال بان كاتي ما تزال على قيد الحياة، حسنا كيف سنعرف ما حدث لها؟! مالذي نستطيع فعله؟.

- حسب الوضع الحالي، اقترح التنقيب اكثر في الموضوع لربما نحصل على معلومات اخرى.

و رغم انه كان صادق الا ان كلامه و تعابيره البائسة اثارت غضبها

- جوي! الوقت هو اخر شيء قد نملكه، فحياة كاتي قد تكون في خطر!.

- أعلم، لكن فقط ما الذي يمكننا فعله؟ لا يمكننا التحرك دون تخطيط.

- حسنا استمع لي! لنتواصل مع ذلك المحقق الذي عينته لإيجاد كاتي سابقا من المؤكد بانه يستطيع الوصول إلى مقدار اكبر من المعلومات، أنا ساذهب للبحث عن امر عائلة إدواردز تلك، و انت حاول الوصول الى عائلة كاتي الثانية بصفتك صحفي او اي شيء المهم تواصل معهم و احصل منهم على معلومات قد تفيدنا، لا بد و ان كاتي قد عرفت شيئاً مهماً بشان اولائك الذين اختفوا على متن السفينة و لذلك تعرضت للخطر من قبل اي من كان خلف حالات الإختفاء تلك!.

حادثته بحماس وقوده الغضب، و قد تفطن على الفور بانها قد وصلت لحالتها المزاجية تلك.

فكاثرين و على الرغم من كونها فتاة لطيفة و هادئة طوال الوقت الا انها تملك نزعة عصبية جنونية، لطالما واجهت مشاكل مع الغضب الشديد، و لم تفد دروس اليوغا او العلاج النفسي التي اجبرها عليها، لقد كانت فقط طبيعتها، لن ترضى بان يأذي احدهم شخص تحبه، يتذكر كيف كسرت يديها لاجل مساعدته و حمايته من المتنمرين في المدرسة الإعدادية لدرجة أنها اصبحت منبوذة من وقتها، لذلك هو قد عرف فور النظر لعينيها الزرقاوتين التي تعصف الرياح بامواجها بان طوفان كاسح سيضرب كل من حاول الحاق الضرر بكاتي...

فقط من الذي تسبب بأذية أهم شخص لديها في الحياة ؟ شقيقتها التي هي مستعدة للتضحية بحياتها من اجلها!!

لقد شاهد الأمواج تتلاطم و الدماء تفور و قد عرف، بان حرب كاثرين ضد ايا من كان الذي تسبب بأذية كاتي ستكون مدمرة.

- كاتي لا تنفعلي هكذا ما تزالين متعبة و...

حاول تهدئة عاصفتها و لكن شعلة الإصرار التي في صدرها ازدادت وهجا لتنهض فجاة مقاومة لتعبها و كانها لم تكن طريحة الفراش منذ دقائق و تقول

- كلا!، لقد عرفت للتو بأنه هناك امل في نجاة كاتي لذلك لا بد و ان نجد شيئاً في اخر الطريق طالما نور المنارة يصل الينا ، و انا اقسم لك بدماء والدي و والدتي، سوف اجد الشخص الذي اذى كاتي و ساذيقه طعم الزقوم بيدي.

الطوفان الثاني إنتهى


❃❃❃❃


{هل حاز هذا الفصل على اعجابك؟ إن فعل ما رأيك بالتصويت و اضافة تعليق لطيف لدعم القصة
ما النقاط التي اعجبتك و ما النقاط التي تحتاج إلى تعديل؟
كل تعليق مهم حتى و ان كان ناقد فهو مهم}


2017/10/22 · 371 مشاهدة · 1570 كلمة
Jska12
نادي الروايات - 2024