لا أعلم أين أسقطتني التقنية.

لا ضوء.

لا ظلال.

ولا حتى أثر لمحيطٍ أتلمّسه بعيني.

العالم انتهى عندي.

ما بقي… فقط ما يمكنني أن أشعر به.

الهواء هنا أبرد.

رائحته تذكرني بالحجارة الرطبة… بالليل قبل المطر.

الأرض تحت يدي خشناة، وفيها حصى صغير جرح راحة كفي دون رحمة.

أنفاسي تنعكس على صدري… كأن الصوت لا يجد طريقه للخارج.

لكنّي كنت أعلم…

لا يمكنني البقاء في العراء.

بيدي المرتجفة، تحسّست الأرض.

أصابع تلامس التراب، تبحث عن أي علامة… عن زاوية آمنة.

وجدت سطحًا أملس، رطبًا، يعلوه حجر بحافة حادة.

كأن المكان… مغارة صغيرة.

تنفست ببطء، ثم رفعت إصبعي — المصاب، النازف — وسحبت به على الأرض.

شكّلت دائرة متعرجة، خطوطها غير متقنة… لكني رسمت هذا الختم بما يكفي من المرات لأحفظه.

ثم ضغطت براحتي على الأرض، وسط الرسم.

الدم اختلط بالتراب.

“هوجِن…”

همست، وصوتي بالكاد يُسمع.

“أجب نداء الوريث…”

لحظات مرت…

لا شيء.

ثم…

هبّة هواء خفيفة.

أجنحة تمزّق السكون.

خطوات صغيرة… قريبة مني.

توقفت أنفاسي.

شعرت بالريش وهو يلامس كتفي.

“هوجن.”

ضحكت بخفة… ضحكة مشقوقة من الألم.

“لم أستدعك منذ أن ورثتك من معلمنا.

كنت أُؤمن أنني لن أحتاجك إلا في المهمّات التي لا أعود منها.”

سحبت من جيبي الداخلي لفافة صغيرة…

دفنتها في الدم على الأرض، ثم قلت:

“خذ هذه الورقة… بها ختم، مخصص لمكانٍ لا أعرفه بعد.

ابحث عن مكان آمن… بعيد عن العيون.

سأنتقل إليه عبر هذا الدم حين تجهّزه.”

مرت لحظة من الصمت.

ثم سمعته…

“شكرًا.”

لم يكن مجرد صوت غراب.

بل وعد… حزن… ووداعٌ مؤقت.

تَحركت الأجنحة… واختفى الصوت.

وعدت أنا، إلى ظلامي.

لا أعرف كم مرّ من الوقت.

الظلام… ما عاد زمنًا ولا مكانًا، بل هو ما تبقّى لي من الوجود.

أتنفّس فيه، أتحرك ببطء داخله… لكني لا أخرج منه أبدًا.

الهواء هنا لا يتغير… رطب دائمًا، كأن الكهف يتنفس معي.

صوت تقاطر الماء خلفي أصبح أنيسي الوحيد.

وأحيانًا، أسمع نفسي… أسمع قلبي ينبض على شكل خفقاتٍ مجروحة.

كنتُ ممددًا على صخرة غير مريحة، ظهري متيبّس، والضماد الذي لففته حول وجهي صار قاسيًا من الدم الجاف.

لم أتحرك منذ يومين.

كلما حاولت، خانني جسدي.

ساقاي لا تقويان على حملي.

وكل نبضة من عيني المصابتين تشبه سكينًا تنغرس أعمق فأعمق.

لكنّي بقيت هنا.

أتنفس.

أسمع.

أنتظر.

ثم…

حدث.

خفقانان متتابعان مزقا سكون المكان.

رفرف أجنحة… صوت ناعم، مألوف.

ابتسمت رغم الألم.

“هوجِن…؟”

ثم جاء صوت ثانٍ، أضعف، لكنه أكثر دفئًا.

“مونِن…”

اتسعت ابتسامتي… لم أراهم، لكنّ قلبي عرفهم.

“هل… عدتما؟”

لم يأتني جواب بشري.

فقط خربشة مخالب فوق الصخور ، وبعض الهمسات التي تُشبه همس الريح في ممر ضيق.

ثم…

شيء سقط في حضني.

لم أفهم في البداية.

بيدي المرتجفة، تحسّست ما هو.

سطح خشن… ثقيل بعض الشيء…

مستدير… وله طراوة من جهة.

فاكهة.

ابتسمت أكثر… وضحكت ضحكة خفيفة خرجت من أنفي، كأنني أتهكم على حياتي كلها.

“جلبتما لي الطعام؟”

مرّت لحظة.

ثم، صوتا الغرابين، بشكل متزامن، كما لو أن لحنهما واحد:

“هل اصطدنا شيئًا؟”

نعم…

اصطدتُ الصمت.

بيدي حاولت أن أتناول الفاكهة، لكنها سقطت.

سمعت ارتطامها على الأرض، ثم خربشة مخالب تلتقطها وتُعيدها إلى يدي.

“شكرًا…”

همست، وأنا أضمّها بيدي.

مرت دقائق.

صمت، ثم سؤال في داخلي بدأ يتمطّى كوحشٍ منسي:

“كم سأبقى هكذا؟

يومًا؟ أسبوعًا؟ شهرًا؟”

زفرت، وقلت لنفسي:

“لا أظن أنني سأقدر على الحراك قريبًا.

ميناتو ويارا… عليهم أن ينتظروا أشهر قبل أن يروني مجددًا.”

ضحكت، سخرية واضحة هذه المرة، رغم الألم.

“من كان يظن أن نهاية سامورو… ستكون تحت حجر، بفاكهة في حضنه، تحرسه طيور؟”

ثم رفعت رأسي قليلًا، خاطبت الظلام من حولي:

“هوجِن…

ابحث عن وغدٍ بشعرٍ ذهبي…

وفتاةٍ صاخبة، ملامحها تشبه الأولاد، وشعرها أسود.”

ثم تمتمت بابتسامة نصفها ألم ونصفها أمل:

“أخبرهم… أنني ما زلت أتنفس في هذا الظلام.”

2025/05/12 · 52 مشاهدة · 581 كلمة
m6
نادي الروايات - 2025