مر اسبوع
ولم يعد.
كانت السماء فوقهم صافية على غير العادة.
رياح خفيفة تعبث بأطراف الأشجار… لكن لا شيء يعبث بالوقت، ولا بالقلق الذي نما في قلب يارا كمرض لا يُرى.
كانت واقفة على طرف التل، تراقب البقعة التي افترقوا منها، كأن عودته مرهونة بنظراتها.
وراءها، جلس ميناتو بصمتٍ مرير، يشحذ سكينًا صغيرة بحافة حجر… ليس لأنه يحتاجها، بل لأن الأصوات الحادة تُبقيه يقظًا.
قالت يارا أخيرًا، بصوت منخفض لكنه ممتلئ بالضيق:
“ميناتو… كم يومًا مرّ؟”
ردّ دون أن يرفع رأسه:
“سبعة.”
قالت ببطء:
“ونحن تأخرنا… فقط يومًا واحدًا.”
أغلق سكينه ووضعها جانبًا، ثم نهض واقفًا.
“العدو الذي واجهناه لم يكن عاديًا يا يارا.”
استدارت نحوه بحدة، عيناها تلمعان بين الغضب والدموع:
“أعرف.
لكن سامورو ليس عاديًا أيضًا.
وهو لم يعد.”
أرادت أن تقول أكثر… أن تصرخ، أن تطلب منه أن يتحرّك، أن يبحث، أن يفعل شيئًا.
لكنها سكتت.
قال ميناتو بهدوء:
“بحثنا في كل نقطة قريبة.
تتبعنا ختمه… ولم يُظهر شيئًا.
إذا فعّل ختم الطوارئ، فذلك يعني أنه انتقل إلى أبعد نقطة غير معلنة… وللأسف، لا يمكن تعقبه منها.”
قالت وهي تعضّ شفتها:
“يعني ذلك أنه ما زال حيًا… لكنه لم يُرد أن نجده.”
هزّ رأسه ببطء:
“أو… أنه لا يستطيع.”
سقط الصمت مرة أخرى.
وبينما كانت يارا على وشك أن تدير ظهرها وتغادر، جاء صوت جديد…
صفير خافت.
رفّة جناحين.
ثم ظلّ فوق رؤوسهم.
“ما هذا؟” سألت.
رفع ميناتو عينه، وقال فورًا:
“غراب.”
“هل… هو؟”
قال وهو يراقب مساره:
“قد يكون. لا يتحرك كأي طير.
يطير بدقة… يقترب، ثم يبتعد. كأنه… يريد منا أن نتبعه.”
قالت يارا بحدة:
“إنه لا يهرب منا.
إنه يقودنا!”
قفزت من فوق الصخرة، ركضت خلف الغراب، لم تنتظر حتى يُؤكد لها أحد.
“هوجِن! إن كنت تسمعني… قُدنا إليه!”
ميناتو تبعها بخطى سريعة، قال من خلفها:
“إن كان هذا أحد غرابي سامورو، فسيتصرف بناءً على الأوامر.
إن كان يقودنا… فهذا يعني أن سامورو حيّ.”
قالت وهي تلهث:
“بل هذا يعني… أنه بحاجة إلينا.”
الغراب لم يكن يطير عشوائيًا.
كل مرة يبتعد، يتوقف وينتظر، ينظر إليهم، ثم يطير مجددًا لعشرين مترًا.
وكأن بينه وبينهم خيطًا لا يُرى… يربطهم بنقطةٍ لم يصلوا إليها بعد.
ركضت يارا بصمت هذه المرة.
عينها تتبع جناحي الغراب، وقلبها ينبض بما يشبه الرجاء… والخوف معًا.
همست:
“كن بخير يا سامورو… فقط كن بخير.”
-
الغراب اختفى داخل ممر ضيّق بين الأشجار.
وقفت يارا أمامه، أنفاسها تتلاحق، ويدها قابضة على مقبض كوناي كما لو كانت على وشك دخول ساحة قتال.
لكن هذه المرة… عدوها لم يكن أحدًا بالخارج.
بل شيء مجهول ينتظرها بالداخل.
قال ميناتو من خلفها، وهو يلتقط أنفاسه:
“الطريق ينحدر… كهف.”
أومأت بصمت، وخطت للأمام.
كل خطوة داخل الممر كانت أبطأ من التي قبلها.
الصوت تغيّر.
الهواء تغيّر.
حتى ضوء الشمس، الذي كان يتسرّب عبر أوراق الأشجار، انكسر عند فم الكهف كأنّه لا يجرؤ على الدخول.
تقدمت، وكأن الأرض تبتلعها.
رائحة الكهف كانت أول شيء ضرب أنفها.
رائحة ماء راكد، ممزوج بطين ميت.
كأنّ الكهف لم يُفتح منذ قرون، وكأنّ أنفاسًا قديمة ما زالت تسكن داخله.
“سامورو؟”
نادت بصوتٍ خافت.
صدى صوتها ارتدّ ثلاث مرات.
ميناتو قال خلفها:
“لا أسمع حركة.”
لكنها لم تكن بحاجة لسماع شيء.
لقد شعرت.
الهواء تغير أكثر كلما تقدمت.
الرطوبة التصقت بثيابها.
كل نفسٍ تتنفسه صار أثقل من الذي قبله.
ومع كل خطوة… كانت رائحة الدم تقترب.
كانت تكره الرائحة.
أيام الأكاديمية، كانت تشعر بالغثيان منها.
لكن هذه المرة… لم تشعر بالغثيان.
بل بالخوف.
ثم رأت شيئًا… لا، لم ترَ ، بل شعرت بوجوده.
ظلٌّ مرمي في الزاوية.
لم يتحرك.
ترددت.
خطوة واحدة بعد، ثم تجمدت.
فجأة، سمع ميناتو أنينًا… ضعيفًا جدًا، بالكاد يُسمع:
“لا تقتربي.”
يارا لم تسمع.
أو ربما لم تفهم.
ركضت نحوه.
وما إن اقتربت… حتى جمد الدم في عروقها.
جسد نصف حي… ممدد كأنه منسيّ.
ظهره مستند إلى الجدار، صدره يرتفع بصعوبة، رأسه مائل، وضماد دموي مغطّي وجهه.
لكن ما خرق قلبها لم يكن الجروح… بل الثقبان في عينيه.
عينا سامورو…
غير موجودتين.
قطعت آخر خطواتها، سقطت على ركبتيها، اقتربت منه، أطلقت صرخة قصيرة لكنها مذبوحة:
“ساااامورو…!”
جسده لم يتحرك.
لكن صوته خرج… خافتًا، متكسرًا:
“يارا… لا تبكي.
الأمور… بخير.”
هزّت رأسها ببطء، وانهارت دموعها على وجنتيها:
“بخير؟ أنت…
نُزعت منك عيناك!!”
اقتربت أكثر، مدّت يديها، ترددت لحظة، ثم احتضنته.
كان جسده باردًا… نحيلًا أكثر مما تتذكّر.
كأنّ الأيام سرقت من وزنه، والظلام أكل من قوّته.
قالت وهي تبكي:
“أين كنت؟ كنا ننتظرك… كل يوم!”
لكنّه لم يجب.
فقط رفع يده ببطء، ووضعها على رأسها.
“كنت هنا.”
“أحارب ظلامًا لا تراه أعينكم.”
قالت بانهيار:
“أنت… لست بخير، لا تكذب عليّ!”
وقبل أن تتابع، جذبها إليه ببطء، وضمّها إلى صدره.
“يكفي.
صوتك… وحده يكفيني الآن.”
تجمدت، ثم بدأت تبكي بصمت.
مرت ثوانٍ، ربما دقائق.
حتى قال، دون أن يفتح عينيه، دون أن ينظر:
“ميناتو… أعلم أنك هناك.”
رفع رأسه قليلًا، ووجهه لا يزال مغطى بالضماد.
“حتى لو لم أرَك…
فأنا… أشعر بك.”
⸻
“جمر تحت الرماد”
صوت يارا ما زال قريبًا.
دفء جسدها المرتجف يصلني من ذراعها حولي.
أنفاسها متقطعة، وكل نَفَسٍ منها يشبه وخز إبرة في صدري.
لكن عينيّ… لا تريان شيئًا.
ولم تعودا تشتعلان، ولا حتى بالذكرى.
ميناتو اقترب.
خطواته من يعرفها جيدًا، خطوات لا تحمل خوفًا… بل قلقًا مدفونًا.
قال بصوت هادئ، مكسوّ بالحذر:
“سامورو…
من الذي فعل هذا بك؟”
يارا رفعت رأسها عن صدري، كانت ستسأل ذات السؤال، لكن تركته له.
صمتُّ لحظة.
رأيت في ذهني وجهًا… لا، ظلًّا .
يبتسم وهو ينتزع عينيّ… لا بغضب، بل بنية .
ذلك الظل لم يكن يريد قتلي.
كان يريد… أن يتركني أعيش.
وذلك ما أرعبني أكثر من الموت.
لكنني لم أقل هذا.
رفعت وجهي قليلًا، وجعلت صوتي هادئًا، مفرغًا من كل نبض:
“لا شيء حدث.”
يارا شهقت خفيفة.
ميناتو سألني مجددًا، بلهجة أقرب إلى الهمس:
“سامورو… من الذي كان هناك؟”
أجبت بنفس البرود:
“لا أحد.”
“لكن كيف…؟” قالت يارا، وعيناها تلمعان بالحيرة والغضب.
قاطعتها، بصوتٍ قاطع:
“انتهت المهمة.
بطريقتي.
وهذا… كل ما هناك.”
مددت يدي، لم أدرِ إن كنت أمسك بها أم بالهواء، لكنّي أردت أن أُنهي هذا.
ليس لأنّي لا أثق بهم.
بل لأنّي أخاف عليهم .
إن قلت لهم الحقيقة… إن نطقت باسم ذلك الشبح، مادارا…
إن أخبرتهم أنه تركني حيًا لا لأنه فشل، بل لأنه أراد شيئًا …
فهذا يعني أنه يخطط لما هو أسوأ.
وأنا…
لا أريد أن تكون يارا هي “اوبيتو” أخرى…
ولا أريد أن أرى ميناتو يموت على يد من ظنّ أنه صديقه.
إنّه يريد تنفيذ خطته.
لكنّي… لن أسمح له بذلك.
حتى لو كان الثمن… هو أن أتحمل كل شيء وحدي.
⸻