⸻
كان ثقيلاً.
ليس في الوزن… بل في الصمت.
جسده نحيل، خفيف، تكاد تشعرين أن العظام وحدها من تمنع جلده من التفتّت.
لكنه كان أثقل من الهواء… من الحزن… من الخوف.
ساروا بين الأشجار، وميناتو يسنده من جهة، وهي من الأخرى.
يتنفّس بصعوبة… كل نفس منه كأنه يخرج من بئر مكسور.
نظرت إلى وجهه المُضمّد، المغطّى بضمادة داكنة، يقطر منها شيءٌ… ربما دم، ربما صديد.
لكن ما أقلقها أكثر هو وجهه خلف تلك الضمادة…
وجهه الهادئ… أكثر من اللازم.
“هل هو نائم… أم غائب؟”
سألت، بصوتٍ أقرب للرجاء منه للسؤال.
ردّ ميناتو بهدوء، دون أن يلتفت:
“كلاهما.”
كانت تمشي، ودموعها تتجمّع خلف عينيها، لكنها لم تسقط.
كانت عنيدة.
كما تعوّدت أن تكون.
لكن في داخلها… كل شيء يتشقق.
“هذا ليس سامورو…
ليس هو من قاتل إلى جوارنا،
من كان يبتسم في أصعب اللحظات،
ويثير غضبي ثم يعتذر بنظرة واحدة.”
صوت خطواتها على الأرض الرطبة كان متقطعًا، كأنها تمشي على ظهر ذكرى.
أرادت أن تقول شيئًا.
أن تسأله: “هل ما زلت تسمعني؟”
أن تهمس: “أنا هنا.”
لكن كل مرة كانت تنظر إليه، وتجد جسده يترنح بين أذرعهما،
تجد نفسها عاجزة عن الكلام.
عن التصديق.
عن التنفّس.
وفجأة…
تنهّد.
شهقة صغيرة خرجت من صدره، كأن روحه تثور للحظة.
“يا… را.”
خرج صوته مكسورًا، مجروحًا، لكنه واضح بما يكفي ليُذيب قلبها.
“أنا معك!”
قالتها بسرعة، كأنها تلتقطه من هاوية.
“نحن نعود إلى كونوها… أنت بخير، نحن بخير.”
لكنّه لم يجب.
عيناه تحت الضماد ظلّتا مغلقتين.
شفته ارتجفت للحظة، ثم سكن.
ميناتو قال بصوت منخفض، واثق، لكنه حزين:
“هو يشعر بك… لكنه لا يريد أن نتألم معه.”
يارا عضّت شفتها.
“إذن فلنسمح له أن يصمت… لكن ليس وحده.”
استمروا في السير.
طريق العودة إلى كونوها لم يكن طويلًا…
لكنه أطول طريقٍ مشت فيه يارا في حياتها.
كل دقيقة كانت تهمس لنفسها:
“لا تفقده… لا هنا. ليس الآن.”
وحين بدأت أسوار كونوها تتضح أمامهم…
اختنق صوتها في صدرها.
“عدنا.”
لكن سامورو لم يسمع.
لأنه فقد الوعي… مرة أخرى.
-
في بعض اللحظات، لا يقتحمك الألم كعاصفة، بل يتسلل إليك كظلٍّ صامت…
تمامًا كما فعل حين دخل ميناتو.
لم ينطق بكلمة.
لكن صمته حمل بين ذراعيه كل ما يمكن أن يُقال.
توقفتُ عن تقليب أوراقي، ورفعت بصري.
فرأيت ما يكفي لأن أترك كل شيء خلفي.
كان ميناتو واقفًا عند باب الجناح الطبي، يحمل جسدًا يتهادى بين الحياة والموت،
وعيناه تقرأني قبل أن أنطِق.
إلى جواره… يارا، بوجه شاحب، ويد تقبض على ذراع لا تريد أن تتركها.
لكن الذي بينهم…
كان سامورو.
نفس ذلك الفتى الوقح الذي كثيرًا ما تحدّاني بنظرته،
الذي يسخر من قسوتي، ويتعامل مع نصائحي كما لو كانت كلمات شاعر في ساحة قتال.
لكنّه الآن…
كان ممددًا، بلا حراك.
وجهه شاحب، وعيناه مغطّاتان بضماد غارق بالدم.
كأنّ الظلام قد سبقنا إليه… ورفض الخروج.
قلت بصوت منخفض، دون أن ألتفت:
“إلى غرفة العزل، فورًا.”
لم أحتج لشرح.
ميناتو فهم.
ويا را… كانت تمشي كالتي لا تصدّق ما ترى.
حين استلقى جسده فوق سرير العناية، اقتربت منه بخطوات هادئة.
ليس لأنني لم أشعر بالقلق، بل لأن الخوف الحقيقي… يُدخلني في صمت الطبيب، لا صراخ المرأة.
مددت راحتي، ووضعتها على جبينه.
كان بارداً… أكثر برودةً من المعتاد.
أغمضتُ عينيّ، وبحذر بدأت أضخ تشاكرا الشفاء.
أولى الموجات مرت بسلاسة…
لكني اصطدمت بشيء.
ليست جروحًا واضحة.
بل اضطراب في مسار التشاكرا ذاته.
كأنّ هناك من أطفأ النور داخله… عمداً.
ثم…
تحرّك جسده قليلاً.
صوتٌ خافت، متكسر، خرج من حلقه:
“تسو… نادي.”
فتحت عيني، همست:
“أنا هنا، يا فتى. لا تتكلم كثيرًا.”
لكنه أصر، كأن لديه شيئًا لا يحتمل التأجيل:
“نيسان… لدي طلب.”
نظرت إليه، لم أُعلّق على اللقب الذي لم ينادِني به من قبل.
“قل ما تريد.”
مدّ يده المرتجفة، وفتح جزءًا من ردائه.
أخرج شيئًا صغيرًا، ملفوفًا بعناية داخل قطعة قماش داكنة.
صندوق.
وضعه في راحتي، وأغلق أصابعي عليه.
همس:
“افتحيه… فقط إذا عشت.
واذا مت فاحتفظي به لكاكاشي"
حاول التنفس… بصعوبة.
ثم قال، بصوتٍ خافت لا يكاد يُسمع:
“هذه أمانة…
ما تبقّى… منّا.”
ثم سقط رأسه للخلف، وغرق مجددًا في إغماء عميق.
نظرت إلى الصندوق في يدي.
كان صغيرًا، خفيفًا.
لكنّه بدا لي… أثقل من الحقيقة.
⸻
كان أول ما شعرت به… هو الدفء.
لا دفء النار، ولا أشعة الشمس.
بل دفء خافت، ناعم، كأن الهواء نفسه قرر أن يحتويني بهدوء.
أدرت رأسي قليلًا.
لم أشعر بألم.
لكن شيئًا في رأسي كان مختلفًا.
ضغط بسيط خلف الجفن.
نبض خفيف… كأن نقطةً جديدة من الحياة بدأت تنبض في داخلي، بهدوءٍ يشبه التمهيد لا الانفجار.
استنشقت بعمق.
رائحة أعشاب طبية…
قطن معقّم…
خشب قديم.
“مستشفى كونوها.”
تحسست الفراش.
لينه مألوف.
لكني لم أكن وحدي.
شعرت بها قبل أن ألمحها.
تنفس منتظم… جسد صغير… رأس مستند إلى حافة السرير.
يارا.
كانت نائمة، يدها تمسك بأطراف غطائي، وكأنها تخشى أن أختفي إن لم تُبقِ عليه.
ابتسمت.
“إذا كنت أراها… فأنا… أرى.”
فتحت عيني ببطء.
ضوء خافت من مصباح صغير في زاوية الغرفة.
لون باهت للجدران.
ظلّي على السقف.
أنا أرى.
رفعت يدي إلى عيني اليمنى، لمستها.
لم تكن عيني… بل كانت عيني سينسي لكن مغموسة بذاكرة تلميذه.
همست لنفسي، بشيءٍ من الحذر والذهول:
“إذًا… نجحتِ، تسونادي.”
جلست على حافة السرير، ببطء.
أصوات أنفاسي تتكرر في الغرفة، وكأن الصمت يرحّب بي من جديد.
نظرت إلى يارا مجددًا.
ملامحها مرتاحة… لكنها مرهقة.
تبدو كمن قاتل في حلم، واستراح في كابوس.
نهضت بصمت، وخرجت من الغرفة.
ممر المستشفى كان خاليًا، إلا من صرير ناعم لمصابيح النيون.
دخلت الحمام القريب.
كان ضيقًا، لكن فيه مرآة.
وقفت أمامها.
ببطء… رفعت رأسي.
رأيت وجهي لأول مرة بعد كل شيء.
كان شاحبًا.
شعري مائل للفوضى.
ندبة رفيعة تمتد على الجفن الأيسر، وتوقّفت أسفل الحاجب.
لكن ما لفتني… لم يكن الوجه.
بل العين.
عين سوداء.
نظرت إليها…
وفي لحظةٍ صامتة، تقلّصت البؤبؤ.
ثم… بدأ التشاكرا تدور.
توموي أولى.
ثانية.
ثالثة.
شارينغان.
نظرت بذهول.
لم أُحرّك شيئًا.
لكنها استجابت لذاتي.
ثم… تحوّلت.
الحلقات الدوّارة تمزقت،
واندمجت في شكل حلقة مركزية
تحمل خطوطًا دقيقة… كعقارب ساعة
تدور بهدوء، دون صوت.
مانجيكيو.
لم أشعر بالقوة.
بل بالثقل.
كأن هذه العين تحمل أكثر مما تحتمله الأيام.
اقتربت من المرآة.
همست:
“ما الذي خبأته لي، سينسي…؟”
لكن قبل أن أفكر أكثر…
“سامورو.”
صوت.
دافئ.
مألوف.
يارا.
استدرت ببطء.
لكنها لم تُمهلني أن أنطق.
خطت إلى الداخل، ثم…
احتضنتني من الخلف.
يداها تلتفّان حول خصري، وجهها على ظهري، ونفسها يلمس عنقي.
لم تقل شيئًا.
ولم أقل.
لكن قلبي…
كان يطرق داخلي، كأنّه يريد أن يسمعها هو أيضًا.
⸻