كان الصباح هادئًا،
تنساب خيوط الشمس على أرضية الصالة برفق،
ورائحة الشاي تتصاعد من الكوب بين يديّ،
تبعث في النفس راحةً لا أعرف إن كنت أستحقها.
جلست عند المدخل الخشبي،
أراقب السكون خارج الباب المفتوح،
حتى لمحت حركةً مألوفة في الحديقة.
**
كاكاشي.
كان يتدرّب وحده.
يركض بخفة، يختفي فجأة،
ثم يظهر في موقع آخر،
حركة انتقال مفاجئة يعقبها هجوم بالسيف.
يحاول دمج أسلوبين مختلفين،
ويكرّر المحاولة مرارًا،
كأن شيئًا في داخله لا يقبل النقص.
**
رفعت حاجبي،
ورشفت من الشاي بهدوء.
ثم سألته بصوت واضح دون أن أرفع نبرتي:
“أليس الآن وقت الأكاديمية؟”
توقّف لحظة، ثم التفت إليّ وقال ببساطة:
“تخرّجت، قبل شهر.”
تجمدت للحظة.
“هاه؟!”
نهضت قليلًا، وقلت:
“لماذا لم تُخبرني؟ وأين حامية الجبين؟”
ردّ وهو يرفع كتفيه:
“لأنك لم تسأل…
ولم يُسلّموني الحامية بعد، لأن الفرق لم تُشكّل حتى الآن.”
ضحكت بخفة، وجلست من جديد.
**
قلت له وأنا أراقب خطواته:
“هل تعلم من كان في فريقي حين كنت في سنّك؟”
رد بثقة:
“أنت… أختي الكبرى يارا… وسينسي.
كنتم في الفريق ذاته، أليس كذلك؟”
هززت رأسي وابتسمت.
ثم سألته:
“يا كاكاشي… لماذا تريد أن تصبح أقوى؟”
سكت لحظة، ثم قال:
“لكي أحمي أمي، وأبي، وأختي الكبرى، وسينسي…
ونيسان.”
ابتسمت…
ثم، دون سبب واضح،
انفجرت ضاحكًا.
ضحكت كما لم أضحك منذ زمن،
ضحكة خرجت من أعماقي، حتى شعرت أنها تخلّصني من شيء ما كان عالقًا داخلي.
•
عندما هدأت،
نظرت إليه وقلت:
“إنك قوي يا كاكاشي…
قوي أكثر مما تظن.”
استدار برأسه نحوي، بدا عليه الاستغراب،
لكن لم يقل شيئًا.
عاد ليتابع تدريبه،
بنفس الإصرار… ولكن بثقةٍ أكبر.
وأنا جلست مكاني،
أحتسي ما تبقّى من الشاي…
وأبتسم.
⸻
كانت القرية أكثر هدوءًا مما توقعت.
خطونا أنا ويارا في طرقاتها،
بين البيوت القديمة، والمحال التي لم يتغيّر منها شيء.
يدها خلف ظهرها، وخطاها خفيفة.
أما أنا، فذهني كان بعيدًا جدًا…
بعيدًا حتى عن هذه الأرض.
•
كنت أفكر…
لا في الذين رأيتهم، بل في الذين اختفوا.
حان الوقت.
أجل… الآن هو الأنسب.
قبل أن تشتعل الحرب،
قبل أن يُصبغ كل شيء بالدماء،
يجب أن أبدأ أنا.
العدالة لا تنتظر إعلان الحرب…
ولا الانتقام كذلك.
•
قالت يارا فجأة، وهي تمشي بجانبي:
“في ماذا تفكر؟”
نظرت إليها سريعًا،
ثم قلت بصوتٍ خافت:
“لا شيء.”
رفعت حاجبها بشك، لكنها لم تعلّق.
•
غيرتُ الموضوع:
“كاكاشي… تطوّره مدهش.
صغير، عنيد، عبقري.
أشعر أنني فخور به كما لم أشعر من قبل.”
هزّت رأسها وهي تبتسم.
ثم فجأة، نظرت إليّ نظرة فيها مكر:
“فلتتمشى مع كاكاشي إذًا.”
كانت ابتسامتها عذبة…
لكن ملامح وجهها تقول شيئًا آخر.
تلعثمت، ثم قلت مرتبكًا:
“بالتأكيد، لكن هو في المرتبة الثانية بعدك…
هل تقارنين نفسك بطفل؟!”
ابتسمت.
تلك الابتسامة التي تحمل نصرًا داخليًا.
**
نظرت أمامها وقالت بهدوء:
“كنت فقط أختبرك.
أردت سماع مديحك لا أكثر.”
ضحكت بخفّة،
ثم سألتني:
“وماذا ستفعل في الأيام القادمة؟”
أجبت فورًا:
“خطتي الأولى: النوم.
الثانية: الأكل.”
توقّفت عن المشي لحظة، ثم نظرت إليّ بوجه عبوس:
“ماذا كنت أتوقّع منك؟”
ضحكت،
وشعرت أن هذه اللحظة،
وسط الشوارع المألوفة،
وفي حضورها…
منحتني ما يكفي من السكينة،
قبل أن أبدأ المرحلة القادمة.
⸻
كانت غرفتي غارقة في الصمت.
ضوء خافت يتسلّل من النافذة،
والريح تعبر بين ستائرها كأنها تهمس لي:
“لن تعود كما خرجت.”
وقفت أمام المرآة الطويلة.
الانعكاس لم يكن غريبًا…
لكنه لم يكن أنا أيضًا.
رفعت القناع البرتقالي من على الطاولة.
دوائر حلزونية متداخلة…
تتجمّع كلها نحو فتحة واحدة،
عين واحدة.
هي كل ما أحتاجه.
أمسكت به للحظة.
مررت أصابعي عليه،
كأنني ألمس شيئًا من الماضي…
شيئًا لا يعرف الرحمة.
**
ارتديته ببطء،
وحين ثبت على وجهي،
شعرت كأن الهواء صار أثقل…
كأن أنفاسي باتت تنتمي لشخصٍ آخر.
ثم أمسكت السترة السوداء.
واسعة، طويلة، تخفي جسدي كلّه،
كأنني أرتدي الليل نفسه.
**
وضعت سيفي أمامي.
كان صامتًا كعادته…
لكنه هذه المرة بدا منتظرًا.
مررت يدي على نصلِه ببطء.
ما زال حادًا…
وكأنه يعرف إلى أين نحن ذاهبان.
أعدته إلى غمده،
وربطته خلف ظهري.
ثم وقفت مستقيمًا.
نظرت إلى النافذة…
ثم تقدّمت نحوها.
**
وقبل أن أخرج،
توقفت للحظة.
أدرت رأسي إلى الخلف.
الغرفة ساكنة،
لكنها مليئة بالأشباح.
همسات معلمي،
صوت أنفاسه وهو يُعلّمني…
صرخته الأخيرة،
وسقوطه الذي لم أنسه أبدًا.
أغمضت عيني للحظة، ثم همست:
“سينسي…
اليوم، سأنتقم لك…
وأستعيد عينك الأخرى.”
قفزت من النافذة.
وظلّي…
لم يترك خلفه سوى الريح.
⸻