الفصل 189: إخضاع إد (12)
تألّق دبوسُ شعرٍ أحمرُ على هيئة فراشةٍ بنعومةٍ تحت ضوء القمر المتسلل عبر نافذة الزجاج الملون.
لم يكن غرضًا سحريًا، لكن دبوس شعر القديسة كلاريس أضفى عليها مزيدًا من الوقار والنبل.
انسدل شعرُها الأبيضُ على كتفيها وهي جالسةٌ في المقاعدِ المُعدّةِ لأعضاء الكنيسة.
كان شعرُها ورداؤها الكهنوتي الأنيق كلاهما بلونٍ أبيضَ ناصعٍ، يرمزان للبراءة والنقاء.
"آآآه... قديسة كلاريس. كـ-كنت قد سمعتُ أنكِ عدتِ إلى الأكاديمية، لكنني لم أكن على علم بأنكِ ستأتين إلى كاتدرائية الأكاديمية... أ-أنا أعتذر... لو أُبلغتُ مسبقًا..."
كان الوقتُ صباحًا باكرًا، قبل أن تشرق الشمس حتى.
كاد خادمُ الجوقةِ المجتهدُ الذي فتح أبواب الكنيسة في ساعة مبكرة أن يُصاب بنوبة قلبية.
بالنسبة لمؤمني جماعة تيلوس الدينية، كانت القديسةُ النبيلةُ شخصيةً قد يعيش المرءُ حياتَه بأكملها ممتنًا لمجرد رؤية وجهها مرةً واحدة... ومع ذلك، ها هي ذي، تجلس وحدها في الكنيسة.
"أوه. أنا آسفة لمجيئي إلى هنا دون إخبارك مسبقًا."
على النقيض من تصرفاتها كـ كايلي إيكنر، الابنة غير الناضجة لأحد النبلاء، بدت القديسةُ جليلةً ووقورةً في آنٍ واحد.
كانت الفجوة بين الشخصيتين شاسعةً لدرجة أنه كان من الصعب تصديق أنهما حقًا الشخصُ ذاتُه.
"أ-ألم تحضري صلوات دير كليدريك هذا الصيف؟"
"لقد تفهّم الأب المقدس الأمر وسمح لي بإعطاء الأولوية لحياتي الأكاديمية أولًا."
"أرى ذلك... إذن، اسمحي لي. أعتذر عن إزعاج صلواتكِ."
"لا داعي للاعتذار. أنا من دخلتُ دون إخبارك مسبقًا."
في الواقع، كانت كلاريس أيضًا مرتبكة.
كانت تخطط لتعطيل سحر التمويه المنقوش على قلادتها مؤقتًا لتصلي براحةٍ طالما لا يوجد أحدٌ آخرُ بالجوار.
لم يخطر ببالها أن شخصًا آخر قد يدخل... لذا، تصرّفت بما يقتضيه الموقف.
"أتيتِ فجأةً للصلاة في هذه الساعة، فهل هناك ما يثقل كاهلكِ؟ أو... هل ألمّ بكِ مكروه... ؟"
سألها الطالب المناوب، قبل أن يصرخ فجأة، عاضًا على لسانه.
"آآآه... أعتذر. لقد سألتُ سؤالًا خارج الموضوع. أ-أرجوكِ انسِ ما قلته... كـ-كنتُ متفاجئًا جدًا، لدرجة أنني قلتُ شيئًا غبيًا..."
"لا داعي لأن تقلق إلى هذا الحد. إنها فقط... بدايةُ فصلٍ دراسيٍ جديد. هذا كل ما في الأمر."
هدّأت كلاريس الطالب ثم شبكت يديها، وأغمضت عينيها برفق.
"إنه مجرد شعور غريب... ألا أحضر صلوات دير كليدريك بصفتي ممثلةً لجماعة تيلوس الدينية، وأن أعود بدلًا من ذلك إلى أكاديمية سيلفينيا، البعيدة عن هيكل الأب المقدس."
"أ-أرى ذلك..."
"لذا، أردتُ فقط أن أصلي لتيلوس، وأن أسأله أن ييسّر لي اجتياز هذا الفصل الدراسي دون أي مشاكلَ تُذكر."
بعد قول ذلك، خفضت كلاريس رأسها بهدوء.
وسرعان ما استحالتْ صورةً طبق الأصل للقديسة التي تحظى بأقصى درجات الاحترام من جماعة تيلوس الدينية.
تراجع الطالب المناوب بسرعة، حابسًا أنفاسه.
جلست القديسةُ وحيدةً في الكنيسة، تناجي تيلوس بالصلاة.
وإذ بدا وكأن الزمن قد توقف، آثر الطالبُ المناوبُ عدم إزعاجها.
تردد صدى خطوات الطالب وهو يغادر الكنيسة، لكن كلاريس، المستغرقة في صلاتها بهدوء، لم تسمعه.
كانت الكلمات التي تُقال أثناء الصلاة مختلفة دائمًا.
فسواءٌ أكان الوقتُ نهارًا أم ليلًا، وسواءٌ أكانت الصلاةُ في هيكل الإمبراطور المقدس أم في كنيسةٍ عادية، وسواءٌ أكانت برفقةِ مؤمنين خالصين أم مع جمعٍ يضم غير المؤمنين، وسواءٌ أكانت في لحظات الفرح أم الصمت... فلكلِ حالٍ عبارتُه التي ينبغي أن تُقال.
لكن كلاريس، منذ نعومة أظفارها، كانت قد حفظتها جميعًا.
أما الكلماتُ التي كانت تتلوها في صلواتها الخاصة، فكانت دائمًا كما تستحسنه هي.
فعلى الرغم من كونها قديسةً تمثل جماعة تيلوس الدينية، ألم يكن من حقها على الأقل أن تشعر بالارتياح وهي تصلي منفردة؟
لقد مرّت بالعديد من الحوادث والتجارب المؤلمة أثناء التحاقها بأكاديمية سيلفينيا، لكن كلاريس كانت لا تزال متحمسةً كعهدها دائمًا لعودة حياتها الأكاديمية.
كان الأمر أشبه بحلمٍ تساءلتْ طويلًا إن كان مقدّرًا لها أن تعود إليه وتعيشه مرةً أخرى.
لقد أُتيح لها أن تختبر ألوانًا شتى من التجارب، ولأول مرةٍ في حياتها، وجدت شخصًا تودّ لو تقترب منه أكثر.
غير أن حياتها الأكاديمية لم تكن لتخلو من المنغصات، شأنها في ذلك شأن الخبرات التي اكتسبتها.
كانت القديسة كلاريس الشاهدة الوحيدة على إحياء التنين الأزرق المقدس فيلبروك برفقة إد.
وفيما يتعلق بـ فيلبروك، كان إد هو الشخص الوحيد الذي يصدّقها تمامًا دون أدنى ريبة.
فهو الذي استطاع أن يستوعب ما يحدث على الفور.
كانت تعي جيدًا قدر إد لديها... لذا، دعتْ له بأن تتيسر أمورُه كلها.
بيد أنها تعلمُ أن الأيامَ لن تكون كلها رخاءً.
بل ستأتي أوقاتٌ عصيبةٌ أيضًا.
وحتى لو اعترضتْ سبيلَه محنٌ عديدة، دعتْ له بأن يجد القوة والشجاعة للتغلب عليها جميعًا...
همست كلاريس بهدوء.
"يا حاكم، يا من تطلّ علينا من عليائك وترعانا بلطفك."
"أسألك أن تهبهُ إرادةً قويةً وشجاعةً يتخطى بها المحنَ العديدةَ التي تنتظره."
"هَبْهُ رجاحةَ العقلِ ليتعامل بهدوءٍ مع أي طارئٍ يعترضُ سبيلَه."
0 0 0
هطل المطر.
ما إن رأت إد ملقىً هناك ينزف، حتى ألقت الأميرة بينيا مظلتَها جانبًا وانطلقتْ تعدو تحت المطر.
لحق بها الخدمُ المذعورون بمظلاتهم، لكن بينيا لم تأبهْ وهي تسندُ جسدَ إد المصابَ، الذي غطّته الدماء.
كان الدمُ يسيلُ من جرحهِ، وقد بدأ يتجمّعُ على الأرضِ بفعل المطر المنهمر.
هرعَ الخدمُ المذعورون نحوها، لكن بينيا لم تلتفتْ إليهم.
وقد غرق فستانُها الثمينُ في مزيجٍ من الطين ودمائه.
حاولتْ وقف النزيفِ بتمزيق قطعةٍ من ثوبها، لكن النزفَ كان غزيرًا للغاية.
صرخت الأميرة بينيا في الجنود، آمرة إياهم بإحضار مسعف على الفور.
وهتفتْ فيهم بغضبٍ آمرةً إياهم بإبلاغ الأكاديمية أيضًا.
"هَبْهُ ثباتَ الجأشِ ليحافظ على رباطة جأشه، حتى عندما يستبدُ به غضبٌ لا يُطاق."
تدفقت قوةٌ سحريةٌ من اليد التي قبضتْ على تايلي من تلابيبه.
وإذ نظرتْ لوسي إلى تايلي، الذي شُلّت حركتُه تمامًا، استعرَ في صدرها غضبٌ لا يوصف.
استمر المطر في الهطول.
تذكرتْ يوم أنْ تخلّى عنها معلمُها، غلوكت.
لقد تجاوزتْ جُلّ العبء الذي أثقل كاهلَها ذلك اليوم، وحلّت علاقةٌ جديدةٌ محلّ الحنين الذي استوطن قلبَها.
لم يعدْ في قلبها متّسعٌ لفراغ.
فذلك الفراغُ قد امتلأ منذ أمدٍ بعيد. لذا، آلتْ على نفسها ألا تفقد صوابَها وتجمح، وألا تأتيَ فعلًا تحرّكه نزعةُ غضب.
بيد أن ذلك لم يعنِ أن الغضبَ المتأججَ في دواخلها سيتلاشى بهذه البساطة.
رمقته تلك العيونُ الباردةُ بنظراتٍ جعلته يرتعد.
وخلف لوسي، كانت بضعةُ رماحٍ جليديةٍ تحومُ في الهواء.
كان "رمح الجليد" سحرًا من المستوى المتوسط، وهو سحرٌ غالبًا ما يلجأ إليه الطلابُ النوابغُ في قسم السحر، ممن أتقنوا هذه التعويذة.
غير أن نطاقَ وقوةَ طاقتِها السحرية كانا على صعيدٍ آخرَ تمامًا.
فحتى إلقاءُ رمحٍ واحدٍ من تلك الرماح كان كفيلًا بإنهاك أي طالبٍ يؤديه.
أما لوسي، فقد ألقت العشراتَ منها، بما يكفي ليغطيَ المنطقةَ برمتها.
وحينما رفع تايلي بصرَه إلى لوسي... لم يستطع حتى أن يلمح السماءَ من خلفها.
لم تحتجْ حتى إلى ترتيل تعويذتها، ولم يبدُ عليها أي أثرٍ لحشدِ طاقتِها السحرية.
فسحرٌ بهذا الحجم لا يمكن إطلاقه إلا كفعلٍ انعكاسيٍّ، وليدِ لحظةِ غضب.
كان جليًا مدى اتساع الهوة بين لوسي مايريل وتايلي ماكلور.
فحتى لو كان في أتمّ عافيته، لما استطاع تايلي مجابهةَ لوسي.
لم تلوحْ أدنى بادرةِ رحمةٍ على محيّا لوسي الغاضب.
لقد كان غضبًا صقيعيًا لا ناريًا؛ فلا دموعَ، ولا سبابَ، ولا شرور.
وذاك الصقيعُ الذي هيمن على الأجواء من حولهم... تحوّل تدريجيًا إلى ذعرٍ عظيم.
"هَبْهُ الحكمةَ ليتفحص الموقفَ بعقلانيةٍ أولًا، مهما اشتدتْ ضرورته."
انطلقت السكرتيرة ليينا تعدو عبر ردهة المتجر المدمّر، وقد أطبقتْ جفنيها بإحكامٍ وعضّتْ على أسنانها.
لم يكن لـ دون أثرٌ قرب المتجر. والموظفون الذين شهدوا دمار المتجر الشامل كانوا يفتقدون قائدهم... وهكذا، عمّتهم فوضى عارمة.
فلا نظامَ يُرتجى، ولا مفرّ سوى الهرب. لقد تجاوز متجر إلتي بالفعل نقطة اللاعودة.
لم تستطعْ أن تجزم بما يحدث، لكنْ راودها شعورٌ بأن من المحال على دون أن يحقق نصرًا كاملًا على لورتيل كيهيلاند.
لقد ظنوا أنهم أحكموا أسرَ تلك الفتاة الشبيهة بثعلب النار، لكنها كانت لا تزال تملكُ مخرجًا للنجاة.
تذكرت السكرتيرة ليينا فجأة وجه ينيكا، التي رأتها في قاعة انتظار كبار الشخصيات.
الفتاةُ التي كانت تحرس الغرفة قد ملأت الفضاءَ بأكمله بأرواحٍ متجسدة. لقد كانت تلك الفتاةُ تجسيدًا للخوف بالنسبة لـ ليينا.
ففي الأصل، كانت السكرتيرة ليينا جبانةً بطبعها. وبينما اصطكتْ أسنانُها وهي تعدو في الردهة، شعرتْ وكأنها بلغتْ أقصى ما تحتمل.
غير أن الجدارَ على جانب الردهة انفجر فجأةً، فتناثر الحطامُ في كل حدبٍ وصوب.
انكمشت السكرتيرة ليينا على نفسها بقوةٍ بينما قُذفتْ عبر الأرض. ومَنْ حطّم الجدارَ... كان هو ذاتُه الذي فرّتْ منه للتو.
بدأ المطرُ يهطلُ داخل المتجر المدمّر.
"ها أنتِ ذي."
قالت ينيكا بالروفر وهي تخرجُ من الجدارِ المحطّمِ وتنظرُ إلى السكرتيرة ليينا:
"وحتى إنْ وقع في مأزق، فامنحهُ القدرةَ على إيجادِ مخرجٍ منه."
اصطحبت الأستاذة المساعدة كليو، لورتيل كيهيلاند إلى مكتب نائبة المديرة في قاعة تريكس.
لم تبدُ فكرةُ السماحِ لـ لورتيل وراشيل بالالتقاء في تلك اللحظةِ صائبةً.
فالعلاقةُ بين شركة إلتي والأكاديمية قد تدهورتْ بالفعل، وبدا في تلك المرحلةِ أن الأمورَ لن تزداد إلا سوءًا.
وفوق ذلك، فإن لورتيل، التي تظاهرتْ بأن الأمر لا يعدو كونه أزمةً عابرة... كانت لا تزال ترغبُ في مقابلة نائبة المديرة راشيل للتفاوض على صفقة ما.
وأمام إصرار لورتيل، اتصلوا بمكتب نائبة المديرة راشيل.
ولدهشتهم، قُوبل طلبُها بالقبول على الفور. مما أذهل الأستاذَ المساعدَ كليو تمامًا.
وفي نهاية المطاف، تُرك الأستاذ كاليد، المشكوكُ في ولائه، وحيدًا في مكتب المناوبة الليلية، بينما ولجَ الأستاذُ المساعدُ كليو ولورتيل إلى قاعة تريكس جنبًا إلى جنب.
سارا في الردهة حتى بلغا باب مكتب نائبة المديرة ففتحاه. وفي الداخل، كانت امرأةٌ عجوزٌ ذاتُ شعرٍ أحمرَ قانٍ، تجلسُ إلى مكتبها.
لم يكن زيُّ نائبةِ مديرةِ سيلفينيا باذخًا، لكنه لم يكن متقشفًا أيضًا.
عباءةٌ ضاربةٌ إلى الزرقةِ تنسدلُ فوق زيّها المرتب.
شَهِدَتْ تجاعيدُ يديها على السنين الطوال التي انقضتْ من عمرها... ومن المؤكد أنها لم تكنْ امرأةً يافعة.
لقد كانت على الدوام في خلافٍ مع المدير أوبل فورسيث، ورسّختْ باطرادٍ علاقةً عدائيةً مع شركة إلتي.
عندما لمحتْ راشيل لورتيل تسيرُ خلف الأستاذ المساعد كليو، اعتلى وجهَها تعبيرٌ غيرُ متوقع.
ورغم أن الأكاديمية قد شاركتْ في مخططات دون للاستيلاء على شركة إلتي، إلا أن دورَها لم يتعدَّ غضَّ الطرفِ عما كان يجري.
لقد اكتفوا بقطعِ وعدٍ بأن تتخلى شركةُ إلتي عن احتكارها لبعض السلع.
ما إن وقع بصرُ راشيل على لورتيل، حتى استطاعتْ أن تستشفَّ الوضعَ الراهنَ إلى حدٍّ ما.
بيد أن المحادثةَ التي دارتْ بين لورتيل وراشيل خرجتْ عن المألوف.
فمفاوضاتٌ بين مَنْ هي على رأسِ هرمِ الأكاديمية وتلك التي تتربعُ على عرشِ شركة إلتي... لا يمكنُ أن تُحسمَ بمجردِ استدرارِ العواطف.
تبادلت الاثنتان النظراتِ عبر طاولة المفاوضات.
وحتى في خضمِّ هذا المأزق، لم تفارق الابتسامةُ الماكرةُ شفتي لورتيل.
"وحتى إنْ سارت الأمورُ على غير ما يُرام، فامنحهُ الحكمةَ ليلتمس سبيلًا آخرَ لإتمامِ ما بدأه."
تلاشتْ قوةُ السحر السماوي التي كانت تحيطُ بجسد آيلا.
فبعد أن أُصيب إد روثستايلور وفقد السيطرةَ على قوته السحرية... عادتْ آيلا إلى رشدها.
داخل الكوخ الخشبي المغلق.
كان كوخًا خشبيًا بسيطًا، مفروشًا بفراءٍ كثيفٍ، استخدمتْه لوسي مايريل ذات مرةٍ مكانًا للقيلولة.
ولأن المدخلَ كان موصَدًا تمامًا، فقد غرِقَ المكانُ في ظلامٍ دامس.
فتحتْ آيلا عينيها، وهزّتْ رأسَها وهي تتطلعُ إلى الأعلى.
بالكاد استطاعتْ أن تلتقطَ الأصواتَ من الخارج، فقد طغى عليها صوتُ المطرِ المنهمر، لكنْ خُيّل إليها أن ثمة جلبةً ما.
كان الظلامُ دامسًا، فلم تستطعْ تحديدَ موقعِ المخرج. ومع ذلك، تحسستْ آيلا طريقَها بجسدها على طولِ جدرانِ الكوخ.
ضجيجُ صياحِ أناسٍ في الخارج. وبعد أن تلمّست طريقَها بمحاذاة الجدار وهي تسمعُ صياحَهم، اهتدتْ أخيرًا إلى البابِ، وأخذتْ تدفعُه لينفتح.
لقد عانتْ لدفعِ المقبضِ في العتمة، ولم يكن البابُ يستجيبُ بسهولة. ومع ذلك، بدا أنه يتزحزحُ قليلًا، فاستمرتْ آيلا في دفعه.
0 0 0
"و..."
ثم توقفتْ كلاريس عن الدعاء للحظة.
أرادتْ أن تلتمسَ عونَ الحاكمِ ليتجاوزَ كلَّ كربٍ محتملٍ قد يواجهُه، لكن محنَ الدنيا أكثرُ من أن تُحصى، ويستحيلُ الإلمامُ بها جميعًا.
فالمحنةُ إنما تكونُ محنةً لأنها تأتي على غيرِ ميعاد. وكانت كلاريس تعي هذه الحقيقةَ جيدًا، لذا فتحتْ عينيها، وهمستْ ويداها معقودتان بإحكام:
"فامنحهُ الشجاعةَ ليواجه أي محنةٍ تستعصي على التجاوز... هذا ما أرجوه منك، يا حاكم."
0 0 0
"كُه...!"
تغلب تايلي على خوفه.
فهناك صنفٌ من الناس لا يعرفُ الاستسلامَ أبدًا، مهما كانت المحنةُ التي تعترضُ سبيلَهم، وحتى عندما ينعدمُ الأملُ في تجاوزها.
ربابنةُ سفينةٍ توشكُ على الغرق.
جنودٌ يواصلون الذودَ عن العاصمة، رغم يقينهم بأن الهزيمةَ واقعةٌ لا محالة.
عُمّالٌ يُرمّمون سدًا دون أن يولّوا الأدبار، حتى بعد أن داهمهم الطوفان.
آباءٌ يُخبّئون أطفالَهم خلف ظهورهم، حتى وإنْ كانُوا وجهًا لوجهٍ مع قاتلٍ مُدجّجٍ بالسلاح.
كان يجمعُهم قاسمٌ مشتركٌ واحد؛ لم يكنْ فلسفةً عميقةً باعثةً على الذهول، ولا شجاعةً تستدعي الإعجابَ الخالص.
بل كان ذلك الشيءُ هو أن لكلٍّ منهم ما يجبُ عليه أن يحميَه.
تلك الحقيقةُ البسيطةُ وحدَها كانت كفيلةً بأن تجعلَ المرءَ يتجاوزُ خوفَه الذي لا يُحتمل. وهي ما دفعتْهم للقتالِ حتى الرمقِ الأخير.
أمسكَ تايلي بيدِ لوسي الضئيلةِ بيدِهِ هو المضرّجةِ بالدماء.
ورغم أنها لم تزدْ عن نصفِ حجمهِ ووزنِه، إلا أنه لم يقوَ على زحزحتِها قيدَ أُنملةٍ رغم استنفادِهِ كلَّ ما أُوتي من قوة.
ومع ذلك، صرّ تايلي على أسنانه وقاومَها بمحضِ قوةِ الإرادة.
"فيلا لورتيل كيهيلاند هناك... القافلة جاهزة للدخول...!"
"وفقًا للمعلومات التي وصلتنا، فتّشوا المنطقةَ السفلية! إنْ لم نتحركْ بسرعة، فمن يدري أيَّ خدعةٍ قد تلجأ إليها...!"
في غضون ذلك، كانت الأميرةُ بينيا، التي تضغطُ على جراحِ إد، تستريبُ مما يناهيها من حديث.
تون، مدربةٌ كبرى أُوفدتْ مع فريق حراستها بأوامرَ من بيرسيكا. وبينما كان كلُّ ذلك يجري، كانت هي تخططُ لمداهمةِ فيلا لورتيل بفريقِ قافلتِها.
كان تعدادُ أفرادِ القافلةِ محدودًا.
فعند دخولهم سيلفينيا، خلّفوا وراءهم أفرادًا للعنايةِ بالإجراءاتِ وآخرين لحراسةِ العربة.
وبما أن الغابةَ ذاتَها كانت وعرةَ المسالكِ إلى حدٍّ ما، لم يكنْ بمقدورِ القوةِ بأكملها التحرّكُ دفعةً واحدة.
لقد كان موقفًا لا يُستحسنُ فيهِ المزيدُ من تشتيتِ القوات.
"ماذا تعتقدين أنكِ تقولين؟ ألا ترين أن الدماءَ تُستنزفُ من الناس؟"
فلم يكن إد وحدَه، بل كان تايلي أيضًا مثخنًا بالجراح.
كان تايلي غارقًا في دمائه وجراحه البليغة، كما أن نزيفَ إد لم يكنْ طبيعيًا هو الآخر. وقد طغتْ رائحةُ الدمِ النفاذةِ على المكان.
لم يدرِ أحدٌ ما الذي سيؤولُ إليهِ حالُ إد لو تركوه وشأنَه.
"هذا أمرٌ إمبراطوري. أفسِحي الطريقَ حالًا."
"الأميرة بينيا."
"الآن، أرواحُ الناسِ في خطرٍ مُحدِق. ألا تعينَ ما أقول؟"
نهضت الأميرةُ بينيا من مكانها، وحدّقتْ مباشرةً في تون.
كان شعرُ الفارسةِ الأحمرُ ينسدلُ على كتفيها، وقد خلعتْ خوذتَها.
ورغم ما اتسمتْ به من شموخٍ وجدارةٍ بالثقة، إلا أن ولاءَها لم يكنْ للأميرةِ بينيا.
لقد كانت من أقربِ المقرّبين لـ بيرسيكا بين الفرسان.
ورغم أنها أُوفدتْ ظاهريًا كحارسةٍ للأميرةِ بينيا، إلا أن غايتَها الحقيقيةَ كانتْ تنفيذَ أوامرِ الأميرةِ بيرسيكا.
بيد أن عصيانَ أمرٍ إمبراطوريٍّ كان سيُفضي إلى عقابٍ وخيم.
الفارسةُ، التي وجدتْ نفسَها عالقةً بين أوامرِ الأميرةِ بيرسيكا وأوامرِ الأميرةِ بينيا... أغمضتْ عينيها وهي تقول:
"الأميرة بينيا."
"المدربةُ الكبرى تون. لا تجعليني أحفظُ هذا الاسم."
"إنْ لم نتحركْ، فالمجرمةُ سوف..."
لم تُنهِ تون جملتَها، فقد دُفع وجهُها جانبًا فجأة. اتسعتْ عيناها ذهولًا.
أميرةُ الإحسان، بينيا إلياس كرويل.
لقد كان طبعُها السمْحُ هو ما دفعها إلى احتضانِ حتى أقلِّ الناسِ شأنًا والاعترافِ بهم، وهو ما أكسبها ذلك اللقب.
فحين كانت في قصر الورد، لم تكنْ تحكمُ على الناسِ إلا بناءً على قدراتِهم وطبائعِهم؛ من عاملِ النظافةِ الذي يمسحُ الأرضياتِ، إلى مساعدِ الطاهي، إلى الخادمةِ المستجدّة...
كيف يمكنُ أن يوجدَ شخصٌ كهذا بين أفرادِ العائلةِ الإمبراطورية؟
وكانت الأقاويلُ والآراءُ المتداولةُ عنها بين الخدمِ تصبُّ جميعُها في هذا الاتجاه.
تلك الفتاةُ عينُها هي مَنْ صفعتْ للتوِّ خدَّ مَنْ هي أدنى منها مرتبةً، على مرأى ومسمعٍ من الناس.
لقد كان مشهدًا لا يكادُ العقلُ يصدّقه.
ولم تكنْ تون وحدَها، بل إن الجنودَ الآخرين الذين كانوا يرقبونَ الموقفَ قد ابتلعوا جميعًا أنفاسَهم.
وبما أنها كانت تصفعُ خدَّ فارسةٍ أمضتْ سنواتٍ في التدريب، فمحالٌ أن تكون لصفعتِها تلك قوةٌ حقيقيةٌ تُذكر.
بل إن يدَ الفتاةِ الناصعةَ بدتْ أشدَّ احمرارًا من خدِّ تون.
غير أن العيونَ التي رمقتْ تون تحت وابلِ المطرِ كانت لا تزالُ تشعُّ تصميمًا.
شواااا!
تناثرتْ قطراتُ المطرِ على وجهِها. ثم فتحت الأميرةُ بينيا فمَها قائلةً:
"أرجوكِ... لا تتجاوزي حدودكِ."
"إنسان... إنسانٌ سقطَ مصابًا بجرحِ سيف."
كانت الأميرةُ بينيا أيضًا على درايةٍ تامةٍ بتاريخِ إد؛ ذاك الذي كان يواجهُ الموتَ مرارًا وتكرارًا.
وأقسى حقيقةٍ كان عليها أن تتحمّلها هي أن الأميرةَ بينيا نفسَها كانتْ أكبرَ عبءٍ وعقبةٍ في طريقِ إد.
"هناك أناسٌ يصارعونَ من أجل البقاء... فهل هذا ما يجدرُ بكِ قولُهُ الآن؟"
الكلماتُ التي تفوّهتْ بها بينيا كانتْ تجرحُ بينيا نفسَها.
لقد كانتْ هي أولَ مَنْ أقصاه، وهي مَنْ وقفتْ في وجههِ عند كلِّ منعطفٍ حاسم.
نقدٌ ولوم، شكٌّ وازدراء، مشقةٌ وألم. لو تتبّعنا مصدرَ كلِّ ذلك، لوجدنا أن معظمَه يُشيرُ بأصابعِ الاتهامِ إلى الأميرةِ بينيا ذاتِها.
ظلماتُ عائلةِ روثستايلور. معاناةُ البقاءِ وحيدًا في العراء. حياةٌ أكاديميةٌ لم يسلمْ فيها من سخريةِ الجميع، أينما حلَّ وارتحل.
رجلٌ صرّ على أسنانه، آبيًا الاستسلام، رغم أن كلَّ ما في حياتهِ كان ألمًا. والشخصُ الذي كان يقفُ دائمًا في الضفةِ المقابلةِ له لم يكنْ سوى الأميرةَ بينيا.
بيد أن ثمة حقيقةً واحدةً لا يمكنُ لأحدٍ أن ينكرَها.
إد روثستايلور لم يحملْ ضغينةً قط تجاه الأميرة بينيا.
ورغم أنه ربما مرّتْ به لحظاتُ إحباطٍ أو لا مبالاة، إلا أنه لم يكنْ قطُّ متشائمًا حيالَ حياتِه، ولم يُلقِ باللائمةِ أبدًا على الآخرين بسببِ ظروفِه.
ألقتْ تون نظرةً مفاجئةً أخرى على الأميرةِ بينيا وهي تحبسُ أنفاسَها.
لم يكن المطرُ وحدَه ما كان يسيلُ على وجهِها.
شهقتْ، محاولةً التمسكَ بملامحِها الصارمة. لكنْ، لو أمعنتَ النظر، لرأيتَ فتاةً يافعةً ضعيفةً بدأتْ تطلُّ برأسِها.
"إنْ تركناه هكذا... سيموت... كيف لي أن أواصلَ حياتي بعد ذلك...؟"
فبسببِ نسبِها وسلطانِها، كانت هناك حقيقةٌ كثيرًا ما تُنسى.
حتى وإنْ وُلدتْ من أعرقِ السلالات، واستطاعتْ ارتداءَ أبهى الحللِ في قصرِ الوردِ الفخم، وحضرتْ شتى حفلاتِ العشاءِ الباذخة...
ورغم أنها كانت فردًا من العائلةِ الإمبراطورية، تستطيعُ ركوبَ عربةٍ تضاهي في حجمِها منزلَ أحدِ العامة، أو تحريكَ جيشٍ جرّارٍ بمئاتِهِ بمجردِ إيماءة...
خلف قناعِ تلك الأميرة، لم تكنْ تختبئُ سوى فتاةٍ عاديةٍ يافعةٍ لا تزالُ في طورِ النماء.
تلك الحقيقةُ اخترقتْ وعيَ تون كالرمح.
أدركتْ أنها قد أساءتْ الأدبَ تمامًا وتجاوزتْ هيبةَ العائلةِ الإمبراطوريةِ التي خدمتها لسنواتٍ طوالٍ كفارسةٍ في فرسان المعبد الإمبراطوري.
فأفرادُ العائلةِ الإمبراطوريةِ بشرٌ أيضًا. تلك الحقيقةُ الجليةُ التي غابتْ عن ذهنِها باغتها على حينِ غرة.
"...سوف نجمع أفراد القافلة للتوجه نحو الأكاديمية."
قالتْ تون ببطءٍ وصوتٍ مرتعش:
"المدربةُ تون! إنْ لم نفعلْ ذلك الآن...!"
وعندما همَّ الشخصُ الواقفُ بجانبِها بالكلام، رفعتْ تون يدَها لتُسكِتَه.
رأتْ تون الأميرةَ بينيا تهرولُ نحو إد وتضغطُ على جرحهِ، فترددتْ برهةً قبل أن تقول:
"في الوقتِ الراهن، سنمتثلُ لأوامرِ الأميرةِ بينيا."
"لـ-لكنْ إنْ فعلنا ذلك، إذن...!"
"بوسعِنا أيضًا الإمساكُ بـ لورتيل كيهيلاند. غير أن الأولويةَ الآن هي للتعاملِ مع الموقفِ الراهنِ أمامَنا."
قالتْ ذلك، ثم جمعتْ تون الجنود.
سيكونُ استقدامُ الطاقمِ الطبيِّ أمرًا عسيرًا. لكنَّ المعضلةَ كانتْ تكمنُ في لوسي مايريل، التي كانت تُطبقُ على عنقِ تايلي.
لقد كانت فتاةً ذاتَ قوةٍ جبارةٍ بوسعِها أن تضعَ حدًا لأيِّ شيء.
وبسببِ تلك القبضةِ الوحيدةِ التي أحكمتْ عليه، كان إسعافُ تايلي ضربًا من المستحيل.
والشخصُ الوحيدُ القادرُ على ردعِها كان في تلك اللحظةِ فاقدًا للوعيِ والدماءُ تنزفُ منه.
وعلى هذا النحو... حجبتْ طاقتُها السحريةُ السماء.
0 0 0
"هذا ما أسألك إياه، يا حاكم."
"آمين."
بعد أن فرغتْ من صلاتِها، رفعتْ كلاريس رأسَها.
من خلفِ الزجاجِ الملون، كان ظلامُ الليلِ ينجلي تدريجيًا، وقد بدأتْ تباشيرُ الصباحِ الباكرِ تلوحُ في الأفق.
كما أن السُحُبَ الحمراءَ القاتمةَ قد انقشعتْ إلى حدٍّ كبير، ونسيمٌ عليلٌ داعبَ النافذةَ من الخارج.
كان الوقتُ لا يزالُ معتمًا جدًا أن يُعدَّ صباحًا، لكنه أكثرُ إشراقًا من أن يُحسبَ ليلًا... لحظةٌ بين بين.
هزّتْ كلاريس رأسَها، وهي تستنشقُ عبيرَ الصباحِ مستمتعةً.
تمطَّتْ وهي تنهضُ بتمهّل. ولدى مغادرتِها الكنيسة، ارتطمتْ قدمُها بأحدِ المقاعدِ دون قصد.
وبينما أفلتَ منها أنينٌ خافت، أومأتْ برأسِها متلفتة. ثم قبضتْ على قلادتِها ومضتْ مبتعدة. كاد الألمُ في إصبعِ قدمِها أن يدفعَها للبكاء، لكنها تماسكتْ بطريقةٍ ما وغادرت المبنى، محافظةً على سمتِها المعهود – قديسةً جليلةً ونبيلة.
أخذتْ نفسًا عميقًا، ثم زفرتْه بهدوء.
كان هواءُ الفجرِ الذي ملأ رئتيها منعشًا.
وإنْ كان في تلك اللحظةِ، قد خُيّل إليها أنه هواءُ الصباحِ بالفعل.