الفصل 190: الوريث (16)
بدأ القتال عندما ضرب كازار وجه رايان بصحنٍ فضيّ.
"أيها الوحش اللعين!"
كان كازار يلوّح بالصحن بكل قوّته، وبما أنّ الأجواء كانت ودّية ولطيفة قبل لحظةٍ فقط، فقد جاء ذلك الهجوم مباغتًا تمامًا.
وكانت بداية الأمر مع التارت الذي صنعه إرنولف.
***
في صباحٍ متأخر، وعلى الرغم من انشغاله، قام إرنولف بخَبزِ تارت الفواكه.
لقد صنع تلك الحلوى ليُواسي الأطفال الذين كانوا حزانى لفقدان أناسٍ عزيزين عليهم، من أصدقاء ورفاق وسادةٍ وأفراد عائلة.
ومنذ أن علم إرنولف بأنّ رايان يُبدي اهتمامًا خاصًا بـ كازار، بذل جهدًا كبيرًا ليمنح الاثنين فرصةً ليصبحا قريبين من بعضهما.
"صديق؟ ولماذا عليّ أن أصبح صديقًا لذلك الوغد؟"
"لن يضرك أن تكون على علاقةٍ طيبة معه، أليس كذلك؟"
ولأنهم كانوا يخططون لمهاجمة أكارون، كانوا بحاجةٍ إلى قوّةٍ عسكريةٍ ضخمة لفتح الطريق حتى المعبد. ولهذا السبب، كان إرنولف سعيدًا بانضمام رايان، وريث دوقية نونيمان، إليهم.
لكن على الجانب الآخر، فإن كازار الذي سبّب له رايان صداعًا لا يُطاق في أكثر من موقف… لم يكن سعيدًا أبدًا بذلك.
'أتصدّق ذلك الرجل من دون أن تعرف ما هو عليه؟!'
كان ذلك في شتاءٍ قاسٍ جدًا.
حينها تلقّى كازار معلومةً استخباراتية تقول إنّ جيش دوق نونيمان سيعبر الحدود، فاندفع ليلًا ونهارًا على مدى ثلاثة أيام حتى وصل أولًا إلى الموقع، ونصَبَ معسكره وانتظر هناك.
لكن رغم أنّه تحمّل الرياح الباردة التي تنخر العظام وانتظر نصف شهرٍ كامل، إلا أن ذلك الرجل لم يأتِ أبدًا.
ولم تكن المعلومة خاطئة، السبب ببساطة أن الرجل قرر فجأة أن يعود بجيشه، لأن الطقس كان شديد البرودة، وقال إنه لا يرغب في القتال في هذا الجوّ.
ولم تكن تلك المرة الوحيدة التي اصطدم فيها كازار مع نونيمان.
فقد خاضا قتالًا طويلًا لسنوات حول السيطرة على بحيرة كليلرون لتأمين مصادر المياه.
وبعد معاركٍ مريرة ومفاوضاتٍ لا تنتهي لتقليل الخسائر في صفوف الجنود، توصلا أخيرًا إلى اتفاقٍ صعب.
لكن في اللحظة الحاسمة، ذلك الرجل لم يحضر الاجتماع.
والسبب؟ ببساطة، قال إنه لم يعد يريد تقاسم البحيرة بعد الآن.
وفي حرب أكارون، حين تحالفا سويًا للقضاء على مصاصي الدماء، حدث الأمر نفسه.
كان من المفترض أن يتجمع الجيش عند البوابة الأمامية للمعبد، لكن نونيمان نقض الاتفاق وجمع قواته عند البوابة الخلفية بدلاً من ذلك، بحجة أنّ "ذلك الطريق يبدو أسهل للهجوم."
هكذا إذًا، حتى كازار، الذي يُلقّب بـ الطاغية، لم يستطع احتمال التعامل مع شخصٍ كهذا، ونعته بأنه حثالة لا يمكن التعامل معها.
والآن، أن يُطلب منه أن "يتقرّب" من ذلك الرجل ويقدّم له حلوى؟!
أي مزحةٍ قاسية من القدر هذه؟
أمسك كازار بالصحن الفضيّ، لا بنية إهداء التارت إلى رايان، بل ليلتهمه كلّه وحده دون أن يترك له قطعة واحدة.
بينما كان كازار يسير في الممر، التقط قطعة من التارت وتذوّقها، وكما توقّع، بما أنها من صنع ذلك المجنون المهووس بفن الطهي، كانت ألذّ بكثير مما تخيّل.
العجينة المصنوعة من الزبدة كانت رقيقة وهشّة للغاية، لدرجةٍ أنّها كانت قابلة للكسر بأدنى لمسة.
حتى حين قضَم كازار طرف القشرة فقط، شعر وكأن غبارًا سحريًا يتلألأ في فمه ويتفتّت برقةٍ براقة.
أما الحشوة، فكانت أكثر من رائعة.
العطر الذي لامس أنفه حمل معه رائحة الفواكه الناضجة تحت الشمس، بكل ما فيها من حلاوةٍ مركّزة وطبيعية.
حين امتزجت حموضة التوت العليق المنعشة مع قِرمشة العجينة الذهبية، ارتجف كازار من شدّة اللذة.
'كما توقعت… من المؤسف أن أقدّم شيئًا كهذا لتافه مثل نونيمان.'
وأثناء نقله للتارت، كان قد التهَم نصيبه بالكامل بالفعل.
ثم رمق تارت رايان الموضوع على الصحن بنظرةٍ متردّدةٍ عميقة.
في حياته السابقة، كان دوق نونيمان، بتقلّباته وطباعه المقيتة، قد سبّب للمملكة بنغريل خسائر لا تُحصى.
صحيح أن بضع قطع من التارت لن تُعوّض تلك الخسائر،
لكن إن لم يُسلّم له هذه الحلوى اللذيذة، فسيضمن على الأقل ألّا يخسر لذّتها بنفسه.
'سآكلها أنا كلّها.'
وبينما كان قد عقد العزم تمامًا على التهام التارت المخصّص لرايان،
خطر بباله فجأة فِكرٌ آخر.
لقد كانت الأطعمة التي يصنعها تيري تحمل سحرًا خاصًا يجعل الناس يتوقون إليها بلا وعي.
فمن يتذوّقها مرة، يشتهيها مجددًا، حتى أنه يراها في أحلامه من شدّة اشتياقه لها.
"هاهاهاها… أنا أستطيع أن آكل متى ما شئت، لكنك أنت… لا يمكنك ذلك، هاهاهاها."
في حياته السابقة، كان كازار قد حاول مرارًا غزو بحيرة كليلرون التي كانت تحت سيطرة مملكة هيلام، لرغبته الشديدة في امتلاكها.
لكن في كل مرة، كان يفشل ويعود بخفيّ حنين، دون أن يحقّق شيئًا.
وبسبب تلك الذكرى، راوده فضولٌ شديد لرؤية وجه رايان وهو يتعذّب شوقًا لتذوّق التارت بعد أن جرّبه لمرة واحدة فقط.
"هيه، خذ، كُل."
"حلوى؟ آه، شكرًا! لكن متى سنهجم على أكارون؟ غدًا؟ أم بعد غد؟ أم ربما..."
كان رايان يُنظّف سيفه حين لمح كازار، فاستقبله بحماسة، وبدأ يتحدث بحماس عن الذهاب لقتل أبانوس.
لكن ردّ كازار لم يكن بالكلام، بل بالصحن الفضيّ نفسه.
"أيها الوحش اللعين!"
ضربه بكل قوّته، حتى إن وجه رايان انطبع على الصحن من شدّة الضربة.
لو كان شخصًا عاديًا، لمات على الفور، لكن للأسف، رايان كان محارب هاله.
صرخ رايان وهو يمسك وجهه:
"لماذا مجددًا؟!"
لقد عاش رايان حياته وهو يُغضب الآخرين دائمًا، لذا كان معتادًا على تلقّي الضرب.
لكن أن يُضرَب دون سببٍ واضح كهذه المرة، فذلك أمرٌ لم يألفه.
فعندما كان والده أو معلمه يضربانه، كان هناك دائمًا سبب واضح لذلك.
"لماذا تضربني في كل مرة تتلاقى فيها أعيننا؟! على الأقل أخبرني بالسبب قبل أن تفعل!"
صرخ رايان محتجًّا، لكن كازار زأر في وجهه:
"قلت لك تذوّقها ببطء واستمتع بالنكهة أيها المتوحش الغبي!"
كان سبب غضب كازار بسيطًا للغاية، رايان التهم التارت كله دفعة واحدة، دون أن يمضغه أو يتذوّقه حتى.
"هاه؟! أهذا هو السبب؟!"
نظر رايان إلى الصحن الفارغ أمامه،
ثم أخيرًا أدرك ما أثار غضب كازار.
"تارت هو تارت، ما الفرق؟ ليس بالأمر العظيم."
"أيها النبيل المتغطرس المليء بالزبدة على لسانك…"
في تلك اللحظة، تذكّر كازار السبب الحقيقي الذي يجعله يكره رايان بعمق.
لم يكن الأمر فقط لأن هذا الأحمق كان يوقعه في المشاكل باستمرار أو يسبب الخسائر لمملكة بنغريل.
بل لأنه ببساطة… كان من أولئك المحظوظين الذين وُلدوا في نعيمٍ لا يستحقونه.
ابنُ دوق، تعلّم فنون السيف على يد سيّد سيوفٍ أسطوري، وحصل على السلطة والمكانة من دون أن يواجه أي معاناة حقيقية.
تجمّعت طاقة الهاله على الصحن الفضي في يد كازار،
تلمع كوميضٍ خطير استعدادًا للهجوم.
"تريد القتال؟ جيد! يناسبني!"
ضحك رايان بحماس، وسحب سيفيه الاثنين بسرعة البرق.
فما هي إلا لحظة حتى بدأت نصلان يدوران بعنفٍ كالعاصفة، يضربان الصحن الفضي في وابلٍ من اللمعان والشرر.
كاغاغاغاغانغ!
تردّد صوت الاصطدام المعدني الصاخب داخل غرفة الاستقبال التي امتلأ نصفها بالدخان والسخام، وصوت الصحن الفضي وهو يتلقى الضربات دوّى في المكان.
صرخ رايان وهو يقفز من الشرفة متفاديًا الصحن الذي رماه كازار نحوه.
"كما توقعت! أنت تكون في أفضل حالاتك عندما تغضب!"
التقط كازار كرسيًّا بيده وقفز من الشرفة خلفه.
"كل ما أأكله سيتحوّل إلى براز على أي حال!"
"تقيّأه فورًا أيها الوغد!"
وانطلق الاثنان في حديقة القصر يتقاتلان بجنون،
يتبادلان اللكمات والضربات كوحشَين فقدا عقولَهما.
وفي تلك اللحظة، كان إرنولف يمرّ بالقرب منهم،
فتوقف قليلًا وهو يراقب المشهد بابتسامةٍ راضية.
"كما توقعت… الصبي يحتاج دائمًا إلى صديقٍ من عمره."
صحيح أن لدى كازار أصدقاء مثل جيفروي وألبرت ووال، لكنهم لم يكونوا كافين بالنسبة له.
كان إرنولف يرى أن شابًا ناريّ الطباع ومندفعًا مثل كازار بحاجةٍ إلى صديقٍ يكون على مستواه من القوة، شخصٍ يمكنه مجاراته في القتال، وخاصة من مستخدمي الهاله مثله.
والآن بعد أن ظهر مثل هذا الشخص، لم يكن هناك أي سبب ليمنع نفسه من الشعور بالرضا.
وبابتسامةٍ هادئة، اتجه إرنولف نحو ورشة الكيميائيين.
في هذه الأيام، أصبحت الورشة مجهّزةً تجهيزًا كاملاً بحيث يمكنها الاكتفاء الذاتي حتى لو حوصرت القلعة.
كان إرنولف يقضي معظم وقته هناك يصنع الأسلحة بيديه، لكن منذ انضمام سيرابيون إلى القلعة، أصبح يجد القليل من الوقت الفارغ، وقتًا كافياً ليخبز التارت بنفسه كما فعل ذلك الصباح.
بحسب ما قالت ماريتا، فإن جهاز إنذار مصاصي الدماء الذي صنعه سيرابيون كان محكمًا للغاية وخاليًا تمامًا من العيوب.
وبالمقارنة مع الأجهزة التي صنعها إرنولف بمهارته المحدودة في الأشغال الدقيقة، كان الفارق بينهما كالفرق بين السماء والأرض من حيث الإتقان.
ولهذا فكّر إرنولف في أنه ربما يعلّم سيرابيون بعض التقنيات المتقدمة التي لم يُفصح عنها لأيٍّ من الكيميائيين الآخرين من قبل لكنّه تردّد، إذ لم يكن يعلم ما الذي قد يحدث لو كشف عن تقنياتٍ من المستقبل لإنسانٍ يعيش في العصور الوسطى.
وأمام ورشة الكيمياء، رأى إرنولف مجموعةً من الأطفال يدخلون الورشة، ثم يخرجون منها بعد قليل يحمل كلٌّ منهم لعبة صغيرة في يده.
ورغم أنّ سيرابيون كان مشغولًا جدًا إلى حدّ أنه يعمل حتى أثناء الليل، إلا أنه ما زال يجد وقتًا ليصنع ألعابًا للأطفال.
"بيون، أنا أحبّ الدمى! هل يمكنك صنع دمية لي أيضًا؟"
"بالطبع! أي نوعٍ من الدمى تريدين؟"
"أريد واحدةً ذات شعرٍ أحمر مربوط مثل شعري بالضبط!"
"حسنًا، تعالي قبل النوم بقليل، وسأكون قد انتهيت من صنعها."
"شكرًا لك، بيون!"
"وإن رغبتِ في شيءٍ آخر، فقط أخبريني، آنا."
بعد أن غادرت آخر طفلة الورشة، نظر سيرابيون نحو العجوز التي كانت تنظّف المكان وقال:
"في المخزن توجد بعض الأكياس الفارغة. وجدتي جيني العجوز بارعة جدًا في الخياطة، أليس كذلك؟ سأطلب منها أن تساعدنا."
"هاها، شكرًا لك. لقد أنقذتني حقًا."
"في هذا الوضع الفوضوي… ما حاجتنا إلى الألعاب أصلاً؟"
"لكن لا بدّ من وجود بعض المتعة، ولو كانت بسيطة كهذه."
"صحيح… فالأطفال لا ذنب لهم في كل هذا."
ثم أخذت تجمع الأدوات المبعثرة على طاولة العمل، محاوِلةً إعادة النظام إلى الورشة.
في تلك اللحظة، دخل إرنولف وقال بهدوء:
"لحظة من وقتك، هل يمكننا التحدث قليلًا؟"
وما إن رأته العجوز، حتى أمسكت المكنسة وسرعان ما خرجت من الورشة مع القمامة.
ففي نظر اللاجئين، كان إرنولف، رغم صِغَر سنه، أرفع شخصٍ مقامًا في هذا المكان، ولذلك كانوا يشعرون بالرهبة أمامه.
حتى سيرابيون نفسه كان يشعر بالصعوبة في التعامل معه، ليس لأنه يخافه، بل لأن معرفته تتجاوز حدود الفهم البشري تقريبًا.
كان يظنّ في نفسه 'لو وُجد حاكم للخيميائيين، فسيكون بالتأكيد مثل إرنولف.'
"كنتَ تصنع ألعابًا للأطفال، على ما يبدو."
"آه، هذا...... فقط أقوم بذلك أحيانًا عندما أجد وقتًا فراغًا بسيطًا. تصميمها بسيط جدًا، وبما أن المواد متوفرة، فلا يستغرق الأمر وقتًا طويلًا. حقًا، لا يؤثر على عملي أبدًا، لذا أظن أنه لا بأس بذلك......."
ظنّ أن إرنولف جاء ليوبّخه على إضاعة وقته، فبدأ يبرّر بشغف.
"لا تقلق. سأوفّر لك من يساعدك في صنع الألعاب. العمل الجماعي أفضل من العمل وحدك، أليس كذلك؟ هل هناك شيءٌ آخر تحتاجه؟ أخبرني فقط."
"سيدي إرنولف… أنت مختلف حقًا عن باقي السادة."
إرنولف فهم ما كان يقصده سيرابيون تمامًا في هذا العصر، كانت الحياة قاسية جدًا على الأطفال.
"أنت أيضًا شخصٌ مميّز، لإنقاذك الأطفال والشيوخ وسط تلك المخاطر. لماذا فعلت ذلك؟ حتى لو كنتَ قد هربت وحدك، كان من الصعب أن تنجو."
"لو كنتُ قد هربت وحدي...... هل كنتُ سأعيش بسلام؟ لا…... لكن، في الحقيقة، هذا لا يهم. لقد فعلت ما كان يجب أن أفعله، لا أكثر."
نظر إليه إرنولف طويلًا، متأملًا.
لم يكن يتوقع أن يسمع من شخصٍ من هذا العصر المليء بالحروب كلماتٍ تنبع من رحمة خالصة ومنطقٍ إنساني نادر.
ومع ذلك، كان سيرابيون يتحدث وكأن حماية الضعفاء أمرٌ طبيعي.
"سيرابيون....… لو أنك استطعتَ أن تحصل على قوةٍ عظيمة للغاية، قوةً تجعل الجميع يحسدونك، ويخاطرون بحياتهم من أجل امتلاكها…... ففيما كنتَ ستستخدمها؟"
"ها؟ ما الذي تعنيه، سيدي؟"
"لقد رأيتَ الجهاز الذي صنعته، أليس كذلك؟ إذن، لا بدّ أنك أدركت ما أقصده. أنا أستطيع أن أُنتج أسلحة تفوق مستوى التقنية في هذا العصر بأشواط. وإن شاركتك بذلك العلم…... فما الذي تودّ فعله به؟"
بدت الصدمة واضحة على وجه سيرابيون،
حتى إنه نسي أن يتنفس للحظة.
كانت فكرة أن المعرفة الخارقة التي يمتلكها إرنولف، والتي لا يمكن تصديق أنها خرجت من عقل بشري، قد تصبح ملكَه هو، تجعله يشعر بالذهول والارتباك الشديد.