الفصل 195: الوريث (21)
كان رايان الوريث الذي رزق به والده بعد أن تجاوز الأربعين بصعوبة.
كان لديه بالفعل ابنتان يحبهما إلى حد أنه لو وضعهما في عينيه لما شعر بألم، لكن للأسف، كانتا مجرد إنسانتين عاديتين لا تستطيعان استخدام الهاله.
ومن بين جميع أبنائه، كان رايان الوحيد القادر على استخدام الهاله، وكانت مهارته متميزة إلى حد أن سيّد السيف قبله كتلميذ له.
أما مظهره، فكان أي شخص يراه يستطيع القول إنه من السلالة المباشرة لدوق نونيمان، إذ ورث ملامح والديه بالتساوي، وكانت موهبته العظيمة تجعله مرشحًا لأن يصبح السيف الأول في المملكة، ليواصل إرث جده والكونت ديتوري.
لكن المشكلة أن رأس هذا الفتى كان حرًّا أكثر من اللازم.
فهو لا يملك ذرة تركيز إلا أثناء القتال، ويتعامل مع كل الأمور بعفوية مفرطة، وحتى الأشياء التي يصر على القيام بها بنفسه، يتركها لاحقًا مدّعيًا أنها مملة.
أن يرى هذا الفتى الذي لا يملك لا تركيزًا ولا مثابرة يصبح أكثر نضجًا قبل موته، كان ذلك هو أمنية دوق نونيمان الوحيدة.
"أبي، أنت تعرف، كان هناك ثقب بجانب سرّتي."
رفع الابن قميصه كاشفًا بطنه، مقرّبًا الندبة إلى وجه والده وهو يصرّ على أنه يجب تسليم إقليم ديتوري إلى كازار.
كل ما كان الدوق يعرفه هو أن هذا الفتى يريد قيادة جيش بحجة الانتقام لمعلمه لمهاجمة أكارون، وأنه حصل على شيء يُدعى الدرع الواقي، والآن يطالب بإقطاعية ديتوري بينما يعرض بطنه أمامه.
"ألم أقل لك من قبل؟ إن كنت تريد الحديث، فتحدث بترتيب! حين تتكلم بطريقة لا يفهمها غيرك، فهذا ليس حوارًا، بل ضوضاء!"
"وماذا تريد أن تعرف؟"
كان رايان معتادًا على طريقة والده هذه، لذلك لم يرمش حتى عندما انفجر غضبًا.
أطلق الدوق تنهيدة طويلة واتكأ بعمق على كرسيه المريح.
"من الآن، لا تقل أي كلام جانبي. أجب فقط على ما أسألك. ما هو هذا الدرع الواقي؟"
"إنه كازار."
"كازار؟ ومن يكون؟ آه، أحد التوأمين، أليس كذلك؟"
الصبي البطل من كليرون. المنقذ الذي أنقذ إندويل.
كان الدوق قد سمع بالفعل عن قصة إرنولف وكازار.
"نعم، التوأم ذو الشعر القصير! في البداية ظننت أنه باناياس!"
وأثناء حديثه عن كازار، تذكر رايان إرنولف فاشتعل حماسه مجددًا. تجاهل الدوق كلامه وتابع طرح الأسئلة، فقد كان عليه أن يقطع كل الفروع الجانبية إن أراد محاورة هذا الفتى بشكل سليم.
"ولماذا تريد إقطاعية ديتوري؟"
"سمعت أنه لا يوجد لها مالك حاليًا. قيل إن الابن والأقارب جميعهم تحولوا إلى مصاصي دماء."
"إذًا تنوي أن تحكم إقليم ديتوري بنفسك؟"
"لا! آه، كم هذا مزعج! لقد وعدت كازار أن أعطيه الإقليم! وإلا فسيظهر ثقب بجانب سرّتي..."
"كفى من رفع القميص. إذن، لقد وعدت كازار أن تمنحه إقليم ديتوري، وإذا أخللت بالوعد، سيظهر ثقب في بطنك؟"
أومأ رايان برأسه بقوة حتى تمايل الهواء حوله.
"ذلك الوغد، هل تجرأ على تهديد ابن الدوق؟"
"همم، هل يمكن اعتبار ذلك تهديدًا؟"
"قال لك إنه إن لم تمنحه إقليم ديتوري فسوف يثقب بطنك، أليس كذلك؟"
"لا، الثقب لن يصنعه كازار يا أبي، بل المُطلق نفسه."
على الرغم من ظهور كلمة المُطلق فجأة في الحديث، إلا أن دوق نونيمان لم يُبدُ أي ارتباك.
كل ما فعله هو النقر بأصابعه على ذراع الكرسي المريح، بينما يعيد ترتيب ما تفوّه به ابنه في ذهنه حسب التسلسل.
"إذًا، طلبت من كازار أن يكون درعًا واقيًا لك مقابل أن تمنحه إقطاعية ديتوري؟ وأقسمت أنه إن أخللت بالوعد فستتلقى عقابك من المُطلق نفسه؟"
"لا، ليس كذلك. كازار هو من قال أولًا إنه سينقذ حياتي!"
لم يكن الدوق يعلم تفاصيل القصة بدقة، لكن يبدو أن ذلك الفتى المسمى كازار وعد رايان بإنقاذ حياته، ومن فرط حماسه، أقحم رايان اسم المُطلق في الحديث ووعده بإقطاعية ديتوري مقابل ذلك.
'يبدو أن ذلك الصبي كازار ذو قلب طيب.'
لم يكن يعرف ما الذي رآه كازار في رايان ليعد بحمايته، لكن كأب، شعر الدوق ببعض الفخر عندما سمع القصة.
"هل يعجبك ذلك الفتى إلى درجة أنك وعدته بإقطاعية ديتوري؟"
"نعم! جدًا!"
"ولماذا؟ ما الذي أعجبك فيه إلى هذا الحد؟"
"إنه قوي."
"هاه، يبدو أنك كلما رأيت شخصًا أقوى منك أردت أن تمنحه الأرض بأكملها."
سخر منه الدوق قائلاً إنهم بهذه الطريقة لن يبقى لهم شبر واحد من أراضي عائلة نونيمان.
"أنت تقول هذا لأنك لم ترَ كازار بنفسك يا أبي!"
"كفى. سمعت ما يكفي، والآن غادر."
أراد دوق نونيمان طرد ابنه قبل أن ينسف حديثهما القليل من الفهم الذي توصّلا إليه.
لكن رايان أخرج من الحقيبة التي يحملها على ظهره شيئًا غريبًا، كان صينية فضية منقوشة عليها وجه إنسان.
"انظر إلى هذا يا أبي."
"ما هذا الشيء؟"
"إنه وجهي."
وضع رايان الصينية على وجهه ثم أبعدها وهو يضحك بخفة.
"لقد ضربني بها مباشرة على وجهي، ولهذا انطبعت ملامحي عليها هكذا."
ثم وضعها بعناية داخل حقيبته، قائلاً إنه سيُريها لوالدته أيضًا.
"كيف يجرؤ على ضرب ابن الدوق……."
"لذا أقترح أن نعطيه إقطاعية ديتوري! ذلك الذي لا يتردد في توجيه ضربة حتى لو كان يريد قتلني، هو الذي حمى حياتي! حتى لو كان من يريد قتلي هو أبي……."
حين تحرك حاجبا الأب بغضب، غيّر رايان كلامه بسرعة.
"حتى لو كان دوق باليان، أو الملك، أو أي شخص آخر، إن هم أرادوا قتلي فسيقطعهم فورًا. إذا لم يكن هذا النوع من الناس، فإلى من تمنح إقطاعية ديتوري إذًا؟"
هذا هو السبب الذي من أجله لم يقدر دوق نونيمان على التخلي عن ابنه الشارد وواصل تربيته كخليفة.
حتى لو تصرف الفتى كالمارِق في 99 مرة من 100، فثمة مرة واحدة فقط يفاجئ فيها الناس هكذا.
"لا يمكنك أن تقرر بمنح إقطاعية ديتوري هكذا ببساطة. علاوة على ذلك، لا يمكنني أن أمنحها فورًا لصبي لم أره قط."
"إن أعطيتوه لغيره فسأخبر أمي. أحسن الحكم كي لا يُثقب بطني، يا أبي."
"هذا الولد..…."
صرخ دوق نونيمان غاضبًا وطرد ابنه الذي يحاول أن يعلو على رأسه. لكن رغم طرده، لم يستطع الدوق محو كلام ابنه من فكره.
'كنت أظن أن أخصص مكافأة خاصة للصبي البطل الذي حفظ كليرون وإندويل. لا يمكنني أن أترك مثل هذا الموهوب يفلت، لمصلحة مستقبل المملكة.'
لكن، منح إقطاعية ديتوري هو أمر مختلف. قرر دوق نونيمان أولًا أن يرى التوأمين بنفسه قبل أن يحسم أمره.
***
منذ صغرها كانت لومينا باوَر بارعة في الرياضيات.
كانت تشعر بالطمأنينة وسط انسياب الأرقام المنظم، ولم تكن تشعر بأنها حية حقًا إلا عندما تُنهي تقريرًا ماليًا معقدًا على أكمل وجه.
بالنسبة لها، لم تكن الأرقام مجرد أداة، بل كانت لغة الحاكم التي تُثري حياة البشر، ونافذةً أكيدةً لقراءة العالم من حولها.
لكن مؤخرًا، بدأت تيارات مختلفة تمامًا تتدفق داخل لومينا.
فالتي كانت تؤمن أن الأرقام وحدها هي لغة الحاكم، بدأت تسمع الآن لغة أخرى، لغة تنبع من أنامل البشر.
وبأمر من سيدتها، كان عليها أن تسرع كل فجر إلى موقع صناعة الملابس، لتراقب سير العمل وتسجّل كل الملاحظات بدقة.
على جدار مكتبها، كانت ورقة تحمل قائمة مرتبة أبجديًا لمعاني لهجة سومون، أما دفترها الجلدي الملطخ بآثار الأصابع فكان يحتوي على تفاصيل مراحل العمل، وأنواع وكميات وأسعار المواد المستخدمة في الإنتاج، بالإضافة إلى شهادات حيّة من العمال المشاركين في كل مرحلة.
「بصراحة، عندما وصل التصميم الأول، كان أول ما فكرت به: هل هذا ممكن حقًا؟ لقد تغيّر المخطط خمس مرات، وحتى بعد إنهاء إعداد القالب، كان ارتفاع الياقة يتبدل كل يوم. حتى هذا الصباح، قالت لي: أريد أن ترفعي زاوية خط العنق قليلًا أكثر. حينها فكّرت: آه، يبدو أنني سأتخطى وجبة العشاء مجددًا اليوم.」
「أمم… في البداية بدأت العمل بحماس أيضًا. لكن بعد القصّ، ثم القصّ مجددًا، ثم القصّ مرة ثالثة… اضطررنا إلى إعادة الخياطة ثلاث مرات! القياس التجريبي بعد ثلاثة أيام فقط، أليس هذا جنونًا؟」
「سَهِرت طوال الليل بسبب زرٍ زخرفي واحد. وإن طلب تعديلًا آخر، سأطعن نفسي بهذا الإزميل الصغير!」
「أليس من طلب كل تلك التعديلات هو اللورد نفسها؟」
「آه… في هذه الحالة، يبدو أنني يجب أن أطعنه أنا إذًا!」
فترة تصنيع قاتلة. وطالب أوامر شديد الدقة. وعمل طويل يتطلب تركيزًا عاليًا. ومواد يصعب التعامل معها. وحرفيون يُطلب منهم تجاوز حدود تقنيات صناعة الأزياء المعروفة حاليًا.
كان الضغط والتعب الذي شعر به العاملون في المشروع هائلًا إلى درجة لا يمكن وصفها بالكلمات.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد.
فبسبب استقدام أفضل الخبراء من كل مجال للمشاركة في العمل، نشأت داخل الورشة صراعات حادة على السيطرة والقيادة.
حتى لومينا، التي لم تكن من أهل هذه الصناعة، بدأت تشعر بالقلق، متسائلة إن كانت الأمور ستنتهي بجريمة قتل في النهاية.
لكن الشخص الذي كان يُهدّد حياتهم لم يكن بينهم.
「قاتلوا بعضكم كما تشاؤون، بشدّ الشعر أو بقطع الرقاب بالمقصّ، لا يهمني. لكن إن لم تُكملوا العمل قبل وصول التوأمين… فسأقتلكم جميعًا.」
كانت سيلينا قد سمعت بالتقرير، فاشتعل غضبها من بطء التقدم ومن أجواء النزاع الداخلي بين الحرفيين.
أما لومينا، فقد حاولت أن تنقل كلماتها إلى الصناع بأكثر طريقة ممكنة لطفًا وتحفظًا.
「السيدة سيلينا تشيد بجهودكم الكبيرة، وتقول إنها تتطلع لرؤية العمل مكتملاً بأي ثمن. الفشل غير مسموح. فبموهبتكم وجهودكم، أنتم قادرون على إنجازه بالكامل بإتقان تام.」
توتر العاملون جميعًا.
فمهما أضفت لومينا من كلمات مشجعة وناعمة، لم يتغير الواقع، كان عليهم أن يُنجزوا العمل، مهما كلف الأمر.
「بهذه الوتيرة، سنحتاج يومًا إضافيًا فقط لمطابقة الأنماط. لا أعلم إن كنا سننتهي قبل موعد القياس التجريبي أم لا.」
「الخيط يستمر في التشابك، الخياطة أصبحت صعبة للغاية! القماش كثيف أكثر من اللازم!」
「لقد أعدنا العمل عدة مرات بالفعل، ومع ذلك لا نرى النهاية بعد!」
「لا أعلم إن كانت أجسادنا ستتحمل أكثر من هذا.」
تمنّى العاملون من أعماق قلوبهم أن يضلّ التوأمان الطريق في الجبال، فيتأخر وصولهما عشرة أيام على الأقل.
لكن الشمس واصلت شروقها وغروبها دون اكتراث، وفي النهاية حلّ اليوم المنتظر.
بعيون متعبة وأجساد منهكة، اجتمع العاملون في قاعة الاستقبال.
هناك، كان ممثلان يقفان بانتظار القياس والتجربة، بينما جلست سيعينا على مقعدها المريح تحت ضوء الفجر، تنتظر لحظة عرض الملابس المكتملة.
كان الممثلان يرتديان شعرًا مستعارًا أسود، وكانا من أكثر الرجال وسامة في إندويل.
أحدهما كان مشهورًا بأنه يحصل دائمًا على أدوار البطولة رغم أدائه الصوتي والتمثيلي الرديء، وذلك بفضل جماله الفائق وغير الواقعي.
أما الأزياء التي صُنعت من قماش خاص، فكانت من نوعين:
أحدهما زيّ رسمي للحفلات والمناسبات، والآخر درع قتالي يُرتدى أثناء المعارك.
ارتدى الممثلان الزيّين بالترتيب، ومثّلا مشاهد من حفلة ومن ساحة قتال، ليتمكن الحاضرون من ملاحظة مدى حرية الحركة أثناء ارتدائهما، وكيف تتغيّر الطيات وانسيابية القماش أثناء الحركة الفعلية.
في جو من التوتر الخانق، كان صنّاع الثياب ينتظرون التقييم النهائي بأنفاس محبوسة.
وأخيرًا، وصلت الكلمة الحاسمة إلى آذانهم.
"رائع. إنه مثالي."
عندما وقفت سيلينا وصفّقت ببطء وهي تبتسم، انفجر العمّال بالبكاء وهم يعانقون بعضهم بعضًا بفرح غامر.
منحتهم سيلينا مكافأة خاصة بسخاء، ثم غادرت المكان لتتابع أعمالها الأخرى.
فاليوم هو اليوم الذي سيعود فيه التوأمان أخيرًا، وكان هناك الكثير من الأمور التي يجب التحضير لها.
"لقد انتهى الأمر أخيرًا! انتهى كل شيء!"
"لقد نجحنا!"
"كل هذا بفضلكم جميعًا!"
رغم المنافسة والصراعات التي سببت الكثير من التوتر، إلا أنهم تمكنوا من إنجاز هدفهم على أكمل وجه.
لكن في تلك اللحظة، وصلت إلى مسامعهم كلمات كانت كالصاعقة.
"هاهاها، يبدو أن السيدة سيلينا معجبة بك حقًا. لم ترفع عينيها عن وجهك طوال الوقت!"
"آه، ماذا يمكنني أن أفعل؟ يبدو أن وجهي يسطع أكثر من الثياب نفسها!"
عندما سمع العمّال حديث الممثلين وهما يخلعان الملابس، شحبَت وجوههم من الصدمة.
"صحيح... أولئك لم يكونوا رجالًا عاديين، بل وسيمون من مستوى آخر تمامًا......"
حتى لو كانت الثياب هي نفسها، فإنها تبدو مختلفة كليًا عندما يرتديها ممثلون بوجوه وسيمة وأجسام مثالية، مقارنة بشخص عادي تمامًا.
أهل هذه الصناعة كانوا يدركون جيدًا أن هناك أشخاصًا قد تطغى عليهم جمال الثياب نفسها، حتى تبدو الثياب وكأنها تبتلع من يرتديها.
عندها أدرك العمّال أنهم طوال هذا الوقت كانوا يصممون الثياب على أجساد الممثلين، لا على التوأمين الحقيقيين.
'ماذا لو لم تُحدث الثياب نفس الانطباع أو الإحساس عندما يرتديها التوأمان؟'
تخيلوا المشهد، الثياب المهيبة تطفو بلا روح لأن من يرتديها لا يستطيع مجاراتها بجماله وهيبته.
ومع هذه الفكرة، شحبَت وجوه الجميع، وقد غمرهم القلق والخوف مما سيحدث لاحقًا.