الفصل 197: الوريث (23)
عندما لامس ضوء الثريا المتوهج بالسحر جسديهما، بدا قماش حرير الويفرون وكأنه سطح الماء يلمع ويتماوج تحت ضوء الفجر.
كان رداء الحفل الذي يرتديانه جميلاً إلى حد أن المرء يكاد يظن أن السحر ذاته قد تحول إلى ثوب. تم إرشاد الصبيين، اللذين يرتديان تلك الملابس الفاخرة، إلى المقاعد الأقرب إلى الليدي سيلينا، حاكمة القصر.
كما هو الحال في حفلات العامة، فإن حفلات النبلاء أيضًا تخضع لعادات صارمة في ترتيب المقاعد. عادةً ما يجلس ممثلو العائلات ذات النفوذ بجوار اللورد. لكن هذه المرة كانت مختلفة.
كان هناك مقعدان فارغان، وقام الخدم بإرشاد التوأمين للجلوس فيهما. ساد جو من التوتر في قاعة الحفل حتى لحظة جلوس التوأمين، وعندما استقرّا أخيرًا في مقعديهما، انطلقت همهمات منخفضة من بين الحاضرين، وهم يتبادلون النظرات والدهشة.
ذلك الفعل كان بمثابة إعلان مسبق عمّن اختارته سيلينا وريثًا لعائلة إندويل.
تحت الطاولة، قبض ليون بيرساد على طرف ثوبه بقوة وارتجف غضبًا. بصفته من نفس عائلة سيلينا، كان يؤمن تمامًا بأنها ستختاره وريثًا لتبقى إندويل خاضعة لبيت بيرساد.
أما إدمون بنهايم، الذي رشحته عائلة اللورد السابق، فكان يفكر بالطريقة نفسها.
فمن غير بنهايم، العائلة التي حكمت إندويل لأربعة أجيال متتالية، يمكنه أن يرثها؟
كلا الرجلين كانا مؤمنين إيمانًا راسخًا بأن سيلين* ستختارهما وريثًا، على الأقل بدافع روابط العائلة.
'هل تعتزم الليدي سيلينا خيانة عائلة بيرساد حقًا!'
رغم كون إندويل مدينة حدودية، إلا أنها مدينة تجارية ضخمة تتدفق فيها الأموال بشكل هائل.
لقد بذلت عائلة بيرساد جهودًا طويلة للسيطرة عليها، ومن أجل ذلك زوّجت ابن بنهايم من ابنة بيرساد لتقوية الروابط بين العائلتين.
لكن الآن، كانت سيلينا تمحو كل ذلك الجهد بقرار واحد منها.
'أتريدين أن يُراق الدم حقًا؟'
بالنسبة لعائلة بنهايم، التي حكمت إندويل لأجيال متتالية، لم يكن اختيار سيلينا سوى إعلان حربٍ صريح.
كل أفراد عائلة بنهايم أظهروا امتعاضهم علنًا، وقد بدا الغضب على وجوههم بوضوح، يزفرون بشدة وكأنهم على وشك الانفجار.
وحين همَّ إدموند وعدد من الشبان بمغادرة قاعة الحفل غاضبين، أسرع الشيوخ لإيقافهم.
"سيأتي صاحب السمو قريبًا. وسيعيد بنفسه تصحيح هذا الوضع الظالم بما يتفق مع العدل، فانتظروا قليلًا."
تحدث شيخ بنهايم بوضوح كافٍ لسماع سيلينا.
لحسن الحظ، كان من المقرر أن يحضر دوق نونيمان فقط حفل هذا اليوم.
عائلتا بيرساد وبنهايم كانتا تتطلعان بشدة إلى ظهوره، آملتين أن يبدد ضيقهما ويحل الموقف.
لكن الانتظار لم يدم طويلًا.
"بطل تأسيس المملكة! حامي هيلام! صاحب السمو دوق نونيمان قد شرفنا بحضوره!"
مع إعلان رئيس الخدم، دوّى في القاعة صوت أبواق عالية لم يعتد عليها أحد، حتى اهتزت أرجاء قاعة الحفل.
توقفت الموسيقى، ووقف الجميع احترامًا.
حتى إرنولف وكازار نهضا من مقعديهما، ووجّها أنظارهما نحو المدخل الذي سيدخل منه الدوق.
وبين أنظار الحاضرين، ظهر دوق نونيمان، يجر عباءته الثقيلة وراءه، وقد دخل برفقة ابنه.
وما إن لمح رايان وجود كازار بالقرب منه حتى أغمز له بعينه، ثم شكّل بيديه إشارة سهم وهمي وأطلقه نحوه بخفة، مما أثار بعض الارتباك والضحك، قبل أن يمسكه الخدم من ذراعيه ليوقفوه عن التصرّف بعفوية.
"لقد مر وقت طويل، أيها السادة النبلاء."
رنّ صوت الدوق الجهوري في أرجاء القاعة الواسعة، يتردد صداه قبل أن يخفت تدريجيًا.
ألقى دوق نونيمان نظرة أولاً على النبلاء الجالسين على جانبيه، ثم مسح بنظره سريعًا باقي الحاضرين.
وأخيرًا، التقت عيناه بعيني سيلينا، السيدة الجديدة لعائلة إندويل، فبادلها تحية قصيرة بنظرة هادئة، قبل أن يتحدث مجددًا.
"خلال الأيام الماضية، مرت إندويل بالكثير من الأزمات. وكل من اجتمع في هذا المكان اليوم، هم أولئك الذين صمدوا في وجه ذلك الظلام ونجوا منه.
"حتى في خضم الخطر، لم تنهَر إندويل، وفي قلب تلك المعركة كانت تقف الإرادة الراسخة والحكمة الثابتة للشابة الحاكمة سيلينا. يا سيلينا، لقد حميتِ هذه المدينة التي كانت على وشك السقوط، وأشعلتِ شرارة الأمل وسط اليأس، فكنتِ حقًا حاكمةً حقيقية."
"إنك تبالغ في الثناء، يا صاحب السمو."
امتدح دوق نونيمان سيلينا لأنها أنقذت إندويل من هجوم مصاصي الدماء، لكنه لم يذكر شيئًا عن الحداد على وفاة اللورد السابق.
"جميع من في هذا المكان يعلم ما حدث في أكارون، ويعلم إلى أين كانت تمتد يد ذلك الظلام. واليوم، أود أن أعبّر عن خالص تقديري لشجاعة وإخلاص الأبطال الشباب الذين حضروا هذا الحفل."
ثم وجّه الدوق نونيمان نظره نحو الشباب من عائلتي بنهايم وبيرساد بالتساوي.
كان ذلك إشارة تبعث على الأمل بالنسبة إليهم، حتى أنهم احمرّت وجوههم من الحماس، ورفعوا كؤوس الشراب بأيديهم.
"من أجل صاحب السمو دوق نونيمان!"
حين رفع إدموند بنهايم صوته أولًا، ممزوجًا بطاقة الهاله، مهللًا بحماس، تبعه بقية الشباب من حوله بصيحات قوية، رافعين كؤوسهم في الهواء.
ابتسم دوق نونيمان وأخذ كأس النبيذ الذي قدمه له الخادم، ثم شربه دفعة واحدة، مجيبًا بذلك على حماسة الشباب.
وما إن وضع كأسه الذهبي على الطاولة حتى أشار للخدم بأن يملأوه مجددًا، ثم قال بصوته العميق.
"أيها الضيوف الكرام في إندويل، إن اجتماعنا هنا اليوم ليس فقط للاحتفال. خلال المعركة الماضية، قُتل كاريديريو ديتوري، الكونت حاكم إقليم ديتوري، ميتةً شجاعة. انكسر سيفه في النهاية، واحترق قصره، وزالت عائلته في ألسنة اللهب. وبذلك، أُعلن رسميًا أمام الجميع أن عائلة ديتوري قد انقرضت دون وريث."
كان عدد قليل فقط من الحاضرين يعرفون مسبقًا بخبر وفاة الكونت ديتوري.
لذا حين سمعوا الإعلان من فم الدوق نونيمان نفسه، لم يتمكنوا للحظة من استيعاب ما يعنيه، وبدأت الهمهمات تعلو بينهم قبل أن يتبدد الشك، ويحل محلّه الذهول والوجوم.
لقد سقط سيّد السيف في المعركة، وزالت عائلته بأكملها، حقيقة صادمة جعلت وجوه الجميع تشحب.
ثم رفع الدوق نونيمان صوته مرة أخرى، يخاطب القاعة التي سادها الصمت.
"تلك الأرض لم يعد لها سيّد، وشعبها لم يعد يملك اسمًا يحميهم بعد الآن."
أدار الدوق نونيمان رأسه نحو المكان الذي يجلس فيه التوأمان.
وتوقف الجميع عن التنفس تقريبًا، مترقبين ما سيحدث في هذه اللحظة الحاسمة.
"كازار."
بمجرد أن نطق الدوق نونيمان باسم كازار، سرت همهمة خفيفة بين الحاضرين، وارتفعت التوترات في القاعة.
"الجميع يعلم عن شجاعتك في الدفاع عن أراضي ديتوري. أنت الذي أوقفتَ الظلام بدمائك، وأنا نونيمان، أمنحك الآن الجزاء العادل على ذلك. تقدّم إليّ، واركع على ركبة واحدة."
تقدّم كازار بهدوء نحو الدوق نونيمان، ثم انحنى ناظرًا إلى الأرض وركع على ركبة واحدة أمامه بصمت.
قدّم الخادم سيفًا إلى الدوق نونيمان، فأمسكه بكلتا يديه وقال بصوت مهيب.
"أمنح هذا السيف لمن سيُعيد النهوض بتلك الأرض التي غمرها الدم والرماد. من الآن فصاعدًا، أنت سيف ديتوري، ودرعها في الوقت نفسه."
رفع كازار يديه بكل احترام وتسلّم السيف الذي قدمه له الدوق نونيمان.
"حين تُداس أرضك، ستنزف دمك معها."
"هذا السيف سيكون دليلي، ودمي هو الذي سيحميهم."
وكأنه كان يتوقع هذا المصير منذ البداية، نطق كازار كلمات قسمه بثبات لا يتزعزع، وصوتٍ حازمٍ لا يرتجف.
"انهض الآن."
تغيرت نبرة الدوق نونيمان على الفور، لم يعد يخاطبه كجندي بسيط، بل كعضو جديد في طبقة النبلاء.
نهض كازار، ثم وقف إلى جانب رايان، ولكن في موضع أدنى منه قليلًا.
"سيلينا."
"نعم، يا صاحب السمو."
عندما ناداها نونيمان، تقدمت سيلينا بيرساد، السيدة الجديدة لـ إندويل، ووقفت بجانبه.
"لقد قلت من قبل إنني سأختار وريث إندويل من بين الأبطال الذين دافعوا عنها ضد مصاصي الدماء، بغض النظر عن أصلهم أو مكانتهم."
رنّ صوت سيلينا في القاعة بقوة، كالمطرقة على الحديد، واضحًا لا لبس فيه.
ورغم أنها كانت قد استخدمت بالفعل شتى الوسائل لإعلام سكان المدينة ببطولات إرنولف في المعركة الأخيرة، إلا أنها أعادت التأكيد على ذلك الآن، معلنة في الوقت نفسه عن فضل كازار وشجاعته.
قاد إرنولف قوات الطليعة، وتمكن من صدّ الهجوم الأول الذي شنه مصاصو الدماء،
كما أنه هو من صمّم سهام القنابل الوميضية وتقنية الإنذار المبكر التي أنقذت حياة عدد لا يُحصى من الجنود والمدنيين.
أما كازار، فقد دمّر مذبح مصاصي الدماء في أراضي ديتوري، ولعب الدور الحاسم في إنهاء المعركة، ثم وقف على الأسوار المشتعلة حتى النهاية، محافظًا على قلعة ديتوري من السقوط.
"لولا هذين الاثنين، لكانت إندويل وديتوري قد سقطتا في يد الحاكم الشرير، وتحولتا إلى جحيم حيّ. أيها المواطنون الأعزاء، أيها النبلاء الكرام، إننا اليوم نعيد بناء مستقبل مدينتنا من خلال اسمٍ واحد."
بعد أن قالت ذلك، نادت سيلينا باسم إرنولف.
فتقدم كما فعل كازار قبل قليل، ووقف أمامها بكل احترام.
"بصفتي حاكمة إندويل، أعلن تعيين إرنولف وريثًا وحاميًا لها. لتكن يد هذا الفتى امتدادًا لازدهار إندويل، ولتكن حكمته حارسًا لسلامها. اركع الآن، يا إرنولف."
ثم أخرجت سيلينا ختم المدينة الجديد، وقدّمته إليه بكل وقار.
"سيُسجَّل هذا الختم في سجلات إندويل إلى جانب اسمك. وبقبولك له، ستتحمل شرف وواجب الوريث الذي سيحمل عبء هذه المدينة معي. فهل تقبل بذلك؟"
أغمض إرنولف عينيه لبرهة.
منذ أن يتسلم هذا الختم، لن يعود قادرًا على البقاء متفرجًا على هذا العصر من بعيد.
'لا… في الحقيقة، منذ اللحظة التي التقيتُ فيها بـ كازار، كان هذا قد بدأ بالفعل.'
زفر أنفاسه الطويلة، ثم فتح عينيه من جديد، وكانت نظرته هذه المرة ثابتة لا تزعزعها الرياح.
"أقبل بذلك. إن نادتني الكرامة، فلن أتجاهل نداءها، وإن أثقلني الواجب، فلن أدير ظهري لثقله."
ترقرقت الدموع في عيني سيلينا وهي تصغي لقسمه.
لم يكن سبب دموعها هو أن المدينة حصلت أخيرًا على وريث، بل لأنها أدركت أنها بعد طول انتظار أصبحت تملك ابنين كانت تتمناهما بكل قلبها.
منذ أن تزوجت وانتقلت إلى إندويل في طفولتها، كانت سيلينا تعيش أسيرة الوحدة…
لكن الآن، لم تعد وحيدة.
"وبهذا، تم تأكيد وريث إندويل، وولد اللورد الجديد لأراضي ديتوري. لقد ظهر الأبطال الذين سينقذوننا من زمن الفوضى، وهذا يوم مبارك للمملكة كلها. فلتباركوا طريق هذين البطلين، من أجل إرنولف وكازار!"
رفع الدوق نونيمان كأسه عاليًا وهو يهتف بذلك، وتبعته سيلينا بخطوةٍ واثقة.
كان كل ما جرى صادمًا للجميع، لكن ضيوف الحفل لم يستطيعوا مقاومة التيار أو الاعتراض على القرار الذي صار أمرًا واقعًا.
رفع الجميع كؤوسهم عالياً في الهواء احتفالًا، وفي خضم تلك اللحظة، تبادل إرنولف وكازار نظرات قصيرة بينهما.
وخلال تلك الثواني الوجيزة، مرت أمام أعينهما كل الذكريات، من أعماق المناجم التي انطلقا منها، إلى الطريق الطويل الذي سلكاه معًا حتى هذه اللحظة.
ابتسم كازار بخفة، وحرّك كأسه قليلاً قبل أن يشرب.
ففعل إرنولف المثل، مبللًا شفتيه بالنبيذ الأحمر الذي بدا كلون الدم تحت ضوء الشموع.
وبينما كان الجميع مشغولين بالضحك والتهاني، غادر إدموند بنهايم القاعة بصمتٍ، وجهه محمّر من الغضب المكبوت.
ضرب أحد الأعمدة بقبضته وهو يلهث غيظًا.
"ليس فقط إندويل… حتى ديتوري وقعتا في يدَي التوأمين! كيف وصل الأمر إلى هذا الحد؟!"
وقبل أن يفرغ غضبه على أحد الخدم القريبين، خرج وجهٌ فجأة من خلف العمود أمامه…
"هيهي، أناااااا أعرف تمامًا كيف وصل الأمر إلى هذا الشكل~ لقد رأيت كل شيء بعينييييي!"
تراجع إدموند بنهايم مذهولًا، وقد رفع قبضته مستعدًا للقتال، لكن ما إن رأى من كان أمامه، حتى تجمّد في مكانه من الدهشة.
إنه ليونهارد نونيمان، وريث دوق نونيمان، المعروف بلقبه رايان.
كان الأخير يدور بذراعيه في الهواء كأنه يتمرّن، يحرك رأسه يمينًا ويسارًا ليُليّن عضلاته، ثم ابتسم بخبثٍ وقال.
"أنت قوي؟"
ردّ إدموند بهدوء، وقد شعر بالارتباك من السؤال الغريب.
"لستُ ضعيفًا، على الأقل......"
في تلك اللحظة، اشتعلت عينا رايان الذهبيتان كأنهما مصباحان في الظلام.