الفصل 200: الشخص الذي يبعث النور (1)
قبل حضور الحفل، كما كان التوأمان منشغلين بوقتهما، كان الآخرون كذلك أيضًا.
قبل إقامة الحفل، كان القصر أشبه بمقر اجتماعات النبلاء.
إذ اجتمع فيه أشخاص من طبقات مختلفة ومناطق متعددة، فكانت تُقام في كل مكان حفلات شاي صغيرة وكبيرة لأجل تحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية.
كان الساحر مالبريك أحد الشخصيات البارزة في جمعية السحر الشرقية، وأحد المقربين الذين يثق بهم دوق نونيمان، ولذلك تلقّى العديد من الدعوات لتلك الاجتماعات.
لكن اليوم، لم يظهر في أيٍّ من حفلات الشاي تلك، ولا حتى في الحفل الكبير الذي أُقيم احتفالًا بانتصار إندويل.
في الحقيقة، كان مالبريك ينوي إعداد كلمة تأبينية لإحياء ذكرى صديقه العزيز، الكونت ديتوري، كما كان ينوي أن يطلب من الدوق نونيمان تخصيص وقتٍ في الحفل لتأبينه.
غير أنّ أمرًا غير متوقعٍ حدث، وأفسد كل خططه.
'المانا...…….'
أثناء سيره في الممر، شعر بتدفّق المانا فوق رأسه.
يبدو أن أحد السحرة الذين زاروا القصر قد استخدم السحر في الطابق العلوي.
كانت الدوائر السحرية تتلألأ للحظة كوميض البرق ثم تختفي، لكن مالبريك، كونه ساحرًا رفيع المستوى، أدرك في الحال أنّ ذلك كان سحر إخفاء.
'يستخدم سحر الإخفاء؟ هل هناك شخصية مهمة في الأعلى؟'
ظنّ أن أحد الضيوف المهمين ربما في الطابق العلوي، فتابع سيره دون اهتمام كبير، لكن عندما رأى تصرّف المخلوق المرافق له الجالس على كتفه، عبس بوجهه.
لم يكن في الممر أحد، ومع ذلك، بدا أن المخلوق رأى شيئًا مرعبًا، فانكمش جسده ودفن رأسه تحت جناحيه بخوف.
'ذلك الوغد مجددًا!'
ارتسمت على وجه مالبريك ملامح قاسية، وبدأ ينظر حوله باحثًا عن جنية إرنولف.
أطلق سحرًا ضعيفًا من الضوء محاولًا كشف مكانها المختبئ، لكن تلك الجنية الخبيثة لم تظهر نفسها أبدًا.
استمر المخلوق المرافق له في الارتجاف خوفًا، وفي حين لم يرَ شيئًا بعد، رفع مالبريك رأسه نحو السقف مجددًا.
'إذن، هل من استخدم سحر الإخفاء الآن هو إيرنولف؟'
كان مالبريك يشعر بالقلق من حمل إرنولف للقطعة المقدسة.
فإن واصل ذلك الطفل استخدام المعرفة المودعة في قلب ملك الوحوش على هذا النحو المتهوّر، فلا بدّ أن يقع حادث خطير لا محالة.
'كنت أنوي عدم التدخل ما دام سموه موجودًا هنا…...'
كان ينوي أن يُبقي مسافة بينه وبين التوأمين لفترة من الوقت، لكن فكرة أن إرنولف استخدم سحر الإخفاء لا لحجب الصوت، بل لإخفاء نفسه، كانت تثير قلقه الشديد.
أجبر مالبريك الجنية المرتعبة على الصعود إلى الطابق العلوي للتجسس، ثم تبعها بنفسه بحذر.
في الأعلى، كانت هناك غرفة نوم التوأمين، وكان خادمان يبلغانهما بأن تحضيرات الحمّام قد انتهت.
"لقد مكثنا هنا قليلاً فقط، لذا المكان نظيف. لا حاجة للتنظيف، ولا يدخل أحد إلى الغرفة حتى نعود."
ورغم أنه أوصى الخادمَ والخادمة بذلك، إلا أن القلق لم يبارح وجه إرنولف، فأغلق باب غرفة النوم بسحر الإغلاق.
ويُرجَّح أن المكان الذي استُخدم فيه سحر الإخفاء كان هناك بالضبط.
"لقد استدعينا أيضًا حلاّقين من أجلكما، يا سيديَّ الصغيرين. يُفضَّل أن تسرعا."
وبعد حثّ الخادم، توجّه التوأمان بخطواتٍ واسعة نحو الحمّام الكبير في نهاية الممر.
بناءً على ما رآه وسمعه، استنتج مالبريك أن التوأمين ربما أخفيا قلب ملك الوحوش في غرفة نومهما قبل ذهابهما للاستحمام.
بعد أن غابا عن الأنظار، وقف مالبريك متفكرًا للحظة.
كان يشعر بتناقض داخلي؛ فهو، بصفته كونتًا من طبقة النبلاء وساحرًا من الدرجة العليا، وجد نفسه مترددًا إزاء فكرة اقتحام غرفة نوم الآخرين للبحث فيها.
'لكن، إن فاتتني هذه الفرصة، فستُراق الدماء لا محاله، فمن الأفضل أن أنهي الأمر بسلامٍ قبل ذلك….....'
'سأسرقه.'
بمجرد أن اتخذ قراره، ألقى مالبريك على نفسه سحر الإخفاء، وسار بحذرٍ ملتصقًا بالجدار.
'يحاول حماية الأثر المقدس بمثل هذا السحر الضعيف؟ يا لها من سذاجة.'
وبينما كان يفكّ سحر الإغلاق الموضوع على الباب، تأكد من صحة ظنونه.
دخل الغرفة بسلام، وبدأ يفتشها بعناية بالغة.
لكن بما أن إرنولف استخدم سحر الإخفاء في المكان، فإن سحر الكشف لم يكن ذا فائدة.
وبعد فترة من البحث، عثر أسفل السرير، حيث بدا وكأنه لا يوجد شيء، على صندوق صغير.
لم يكن مرئيًا للعين، لكن حجم الصندوق ووزنه كانا واضحين بين يديه.
وكما فعل مع سحر الإغلاق، فقد فكّ بسهولة سحر الإخفاء الذي كان يغطي الصندوق.
فتح الصندوق وتفحّص ما بداخله، ثم غادر المكان بسرعة دون أن يترك أثرًا.
في طريق عودته إلى غرفته، قابل عددًا من الضيوف وتبادل معهم التحية، لكنّه كان في حالة من الإثارة الشديدة بعد أن حصل على قلب ملك الوحوش، حتى إنه لم يتذكر من التقى بهم ولا ما دار بينهم من حديث.
حالما دخل غرفته، أقام حولها حاجزًا سحريًا قويًا، ثم فتح الصندوق مجددًا.
في داخله، كان هناك زخرف على شكل قلب صغير، تتوسطه جوهرة حمراء تُصدر بريقًا غريبًا، تمامًا كما رآه في الكتب من قبل.
'للوصول إلى مكتبة الأسرار الإلهية، يجب أولًا أن أُلصق هذا بجسدي…....'
وفقًا لما جاء في سجلّات شخصٍ امتلك قلب ملك الوحوش من قبل، فإن عملية تثبيت ذلك الأثر على الجسد قد تكون مؤلمة بعض الشيء.
لكن مالبريك لم يُعر ذلك أي اهتمام، فرفع كمَّه دون تردد، ولفَّ قلب ملك الوحوش حول ساعده.
وما إن لامس جلده، حتى التصق به كما تلتصق مجسات الأخطبوط.
ثم بدأت أطرافٌ حادّة تخترق بشرته، تاركةً ألمًا لاذعًا كأنها تحرق أعصابه من الداخل.
جثا مالبريك على ركبتيه، ورفع رأسه نحو السقف، مستسلِمًا بتواضعٍ لذلك الألم الذي اعتبره طقس عبورٍ مقدس لنيل أسرار الحكام.
***
أما جِيد، تلميذ مالبريك المقرّب، فقد جنّد عددًا من الأشخاص لمراقبة التوأمين سرًّا.
حدث ذلك بعد فترة قصيرة من عودتهما إلى إندويل.
فقد استدعى كازار رئيسة الكاتدرائية، أليسيا لورينتي، التي كانت تزور القصر، وطلب منها أمرًا ما على انفراد.
استخدم جِيد سحرًا يحوّل اهتزازات الجدران إلى أصواتٍ مسموعة، لكي يتنصّت على حديثهما.
كان ذلك خطرًا لو كان أحد الطرفين ساحرًا مثل إرنولف، لكن لحسن الحظ، كانت المرأة كاهنة، والرجل الآخر محارب هاله لا يستخدم السحر.
"تريدون أن نحتفظ بخزنتكم في المعبد؟ أليس من الأفضل أن تودعوها في بنك؟"
"شِشْ… صوتك مرتفع جدًا."
ثم طلب منها كازار أن يحتفظ المعبد بصندوقٍ صغير حتى عودتهما من رحلتهما.
بدت عليها الحيرة، لكن كازار سلّم كيسًا ثقيلًا من النقود إلى الكاهنة وإلى الكاهن المرافق لها، ووعد بأنه عند عودته سيقدّم تبرعاتٍ أكبر للمعبد.
في عالمٍ تجوب فيه مصّاصو الدماء الأرجاء، لم يكن هناك مكان أكثر أمانًا من معبد ڤيستا لإيداع شيءٍ ثمين.
"لن يكون ما تودعونَه خطرًا أو تجديفًا، أليس كذلك؟"
"أبدًا، بالطبع لا. لكن… يجب أن تحافظوا على السرّ، فلا يجب أن يعلم أيّ أحد بوجود هذا الشيء داخل المعبد."
"وإلا… هل سيصبح الأمر خطرًا؟"
عندما رمقته بنظرةٍ مليئة بالشك، ابتسم كازار بهدوء، وسلّم الكاهن المرافق كيسًا أكبر من النقود.
تظاهرت أليسيا لورينتي بالتفكير قليلًا، ثم أومأت برأسها موافقة.
تفحّص كازار المكان من حوله للتأكد من عدم وجود أحد، ثم سلّم الصندوق إليها.
في تلك اللحظة، ظهر أحد الخدم وأخبره أن السيد يطلبه على وجه السرعة، فغادر كازار برفقته، وعادت أليسيا لورينتي إلى المعبد وهي تحمل الصندوق.
في وقتٍ سابق، كان جِيد قد رشا أحد الخدم الذين ساعدوا التوأمين أثناء استحمامهما، وتأكد من أنهما لم يكن بحوزتهما قلب ملك الوحوش في تلك الأثناء.
'إذن، إنهما يخططان لإخفاء قلب ملك الوحوش داخل المعبد…....'
تردّد جِيد في ما إذا كان عليه إبلاغ معلمه بذلك أم لا.
فهو لم يكن يعلم أن مالبريك كان قد أمر أحد فرسانه سرًّا بمحاولة الاستيلاء على قلب ملك الوحوش.
كل ما كان يعرفه هو أن معلمه، حين ذُكر أمامه ذلك القلب، قد وبّخه بشدة وحذّره قائلًا ألا يتورط في الأمر أبدًا دون إذنٍ منه.
'لو أخبرته الآن فسأتعرض للتوبيخ مجددًا… من الأفضل أن أُبلغه بعد أن أؤكد الأمر بنفسي.'
كلما ازدادت شهرة التوأمين، ازداد عدد الطامعين في قلب ملك الوحوش.
ظنّ جِيد أن مثل هذه الفرصة لن تتكرر أبدًا إن ضيّعها الآن.
وبعد أن حسم قراره، بدأ بالتحرّك فورًا.
منذ أن شاع أن قوة ڤيستا قادرة على طرد مصّاصي الدماء، أصبح المعبد يعجّ بالناس باستمرار.
وفوق ذلك، كان من المقرر إقامة حفلٍ ضخمٍ في القصر تلك الليلة، مما جعل عدد الزوّار يتضاعف، فانتعش المعبد وامتلأ بالضجيج.
انشغل الجميع هناك، من الكهنة وفرسان المعبد، إلى الخدم والخادمات، لدرجةٍ لم يجدوا فيها وقتًا لالتقاط أنفاسهم.
وبينما سادت تلك الفوضى، استغلّ جِيد الفرصة وتسلّل إلى داخل المعبد.
كانت أليسيا لورينتي مشغولة في قاعة الاستقبال، تتعامل مع تدفّقٍ متواصلٍ من الزوار والنبلاء، ولم تستطع مغادرتها ولو للحظة.
فتّش جِيد مكتبها دون جدوى، لكنّه عثر أخيرًا على مبتغاه داخل غرفتها الخاصة.
كان الصندوق مخبأً في خزنةٍ سريةٍ داخل جدارٍ مخفيّ، ومعه أموال وأشياء ثمينة أخرى.
وبعد أن استولى عليه وغادر المعبد، توقف جِيد في منتصف الطريق، يلهث قليلًا ويفكّر في ما يجب فعله.
'لا، لا يمكنني العودة إلى القصر… قد تكتشفه جنية إرنولف أو جنية أستاذي… وحتى لو لم يحدث ذلك، فثمة مرافقون سحريون آخرون يتجولون هناك. لا أحد يعلم أين أو من يمكن أن يراني.'
كانت الخطة الأصلية، أن يحصل على قلب ملك الوحوش أولًا ثم يبلغ معلمه بالأمر، قد تلاشت من ذهنه منذ زمنٍ بعيد.
قرر جِيد أن يستأجر غرفة في نُزلٍ ليختبئ فيها بعيدًا عن أعين الناس، لكن جميع الغرف كانت مشغولة، فاضطر إلى العدول عن الفكرة.
دخل أحد الأزقة المظلمة، إلا أنه تراجع سريعًا حين شعر أن أحدًا يراقبه من فوق أحد المباني.
عند خروجه، لمح عربة متروكة تستند إلى الجدار.
فتسلل إلى الفراغ بين العربة والجدار، وجلس هناك ليخرج الصندوق ويفتحه.
أشعل شعلة صغيرة بسحرٍ خافت، فتجلّى أمامه قلب ملك الوحوش.
كان بالفعل كما يوحي اسمه، حلية على شكل قلبٍ تتوسطها جوهرة حمراء.
وبينما كان الضوء الهادئ يتراقص داخل الجوهرة كدوامةٍ حية، أيقن جِيد أنها الأصلية بلا شكّ.
'لو تمكنت من نيل المعرفة المكنونة في هذا الشيء، فأنا أيضًا….....'
أثناء مراقبته لـ إرنولف بناءً على أوامر معلمه، كانت في داخله رغبة عارمة، أن يتفوّق عليه، أن يتجاوز تلميذ أستاذه الآخر ويُصبح الأفضل.
عضّ على منديله حتى لا يصدر أي صوت، ثم مدّ يده المرتجفة وأمسك قلب ملك الوحوش بحذرٍ شديد.
***
في منتصف الليل، كان حارس بوابة القصر الشرقية يتجادل مع رجلٍ غريب.
كان ذلك الرجل مغطّى بالكامل برداءٍ أسود من رأسه حتى قدميه، وكان في مشادّة كلامية مع الحارس بعد أن منعه من المغادرة.
"تلقينا أمرًا بعدم السماح لأي أحدٍ بمغادرة القصر هذه الليلة."
"أما زلت لا تعرف صوتي؟"
"أعرفه، يا سيدي. كيف لي ألا أعرفه؟ لكن… هذا الأمر لم يصدر عن السيدة سيلينا، بل عن صاحب السمو الدوق نفسه. حتى اللورد لا يُسمح له بمغادرة القصر هذه الليلة."
"ولماذا اتخذ صاحب السمو مثل هذا الإجراء…؟"
توقف في منتصف كلامه، وأدرك عندها أنه تفوه بما لم يكن ينبغي قوله، خطأ جسيم ارتكبه دون وعي، فسرعان ما أغلق فمه ولم يُكمل.
في تلك اللحظة، دوى صوت إنذار من جهة أسوار القصر، وانطلق محاربو الهاله يركضون بسرعة مذهلة لمواجهة عدوٍّ ما.
يبدو أن أحدهم حاول التسلل عبر السور بالقوة.
كان يقاوم مستخدمًا كرات النار والوميض السحري، لكن خصمه كان محارب هاله متمرّسًا من الدرجة العليا.
لم تمضِ لحظات حتى تمكّنوا من شلّ حركته وسحبوه إلى أسفل السور.
ومن مظهر جسده المتراخي، بدا أنه فقد وعيه.
وعندما أزال الفرسان اللثام والقبعة عن وجهه، تراجع أحدهم مذهولًا وهو يقول.
"ما هذا…؟"
"هل يمكن أن يكون… مصاص الدماء أبانوس؟"
وفي اللحظة نفسها، حين انكشف وجه الرجل المغمى عليه تحت ضوء القمر، انقضّ الرجل ذو الرداء الأسود الذي كان يحاول عبور البوابة على صهوة حصانه، ليهاجم الفرسان فجأة وبعنفٍ مباغت.