الفصل 216: وعاء الحاكم (4)
"هل تعرف روح مَن هي؟"
"بما أنّها تمتلك برودة قوية جداً، فنحن نرجّح أن لها علاقة بسيد الصقيع… لكن هذا فقط حدس، أما أبعد من ذلك فـ……."
"تقصد سكادين؟"
"بدقة أكبر… إنها وعاؤه. وعاء الحاكم."
أزاح كازار سيف الرماد طالباً منه أن يشرح له بالتفصيل عن وعاء الحاكم. فعندما يتعلق الأمر بالموت والجنون، فمن الأفضل أن يسمع الشرح من كهنة بيرناتيس بدلاً من كهنة فيستا.
"للحفاظ على توازن هذا العالم، يفرض المطلق قيوداً قوية عندما تحاول قوة خارجية الدخول إليه. لذلك، لكي ينزل كائنٌ متجاوز (متعالٍ) إلى هذا العالم، عليه أن يُخفِّف كثافة قوته، وأن يلتفّ حول قوانين المطلق. لهذا السبب لا يستطيع المتجاوز أن يتجسد مباشرة، بل يُحتوى داخل تحفة مقدسة أو كيان روحي."
كأس التطهير المقدسة لفيستا، يد الفساد لبيرناتيس، قلب آبانوس… كل هذه التحف هي أوعية تحتوي قوة المتجاوزين.
"على الأرجح، سكادين لا يستطيع إظهار قوته إلا إذا احتُوي داخل جسد بشري حي، لا داخل شيء جامد. وما رأيناه قبل قليل كان روح كائنٍ كان في السابق وعاءً للحاكم… أي ‘التجسّد’ ذاته."
"لقد قال إن جسده قد فُني، وروحه انجرفت إلى عالم سكادين، ولم يبقَ في هذا العالم سوى روح التجسّد تائهة بلا اتجاه."
"إذن… ستكون روح من كان سابقاً سيّد قلعة فريجيون، أليس كذلك؟"
"على الأرجح، نعم."
حتى إلسيد، رغم معرفته الواسعة، لم يكن يعرف منذ متى وُجدت فريجيون. فإذا كانت تحرس قمة الجبل الأسود منذ مئات أو آلاف السنين، فمن الطبيعي أن تكون الأرواح الهائمة فيها كثيرة بقدر امتداد الزمن.
"لماذا إذن هو يهيج الآن؟"
سأل وال دون تفكير.
لو كانت مثل هذه الحوادث تحدث بشكل متكرر في فريجيون طوال الوقت، لما كان الناس يدخلونها لتجنب البرد.
"على الأرجح… لأن السيّد مات وفقدت الروح السيطرة."
"إلاريين فروستينا ماتت؟"
صُدم الجميع بكلمات كازار. وفي لحظة، توجهت أعين كراين وإلسيد نحو كاهنة بيرناتيس.
"هل أنتم من قتلها؟"
"لا تتفوه بالهراء. لم نأتِ إلى هنا لنقتل كاهناً تابعاً لسكادين أو ما شابه."
وما إن صرخ كاهن بيرناتيس في وجه كراين، حتى أمسكه كازار من ياقة ثوبه.
"إذن لماذا جئتم؟ لا أظن أنكم قطعتم هذا الشتاء اللعين لتأكلوا وعاءً من حساء لحم الخنزير البري، أليس كذلك؟"
قال كازار بصوت يزمجر، وهو يقرّب وجهه من وجه الرجل الموشوم بتلك النقوش المرعبة.
"هذا… ليس شيئاً يمكنني مشاركته معك."
قالها وهو يحدّق مباشرة في عيني كازار بثبات. وفي تلك اللحظة، هبّت ريح حادة كالسكين من داخل السلالم. ثم تلتها هزة عنيفة قادمة من الأعلى، قوية لدرجة أن الغبار الصخري تساقط من السقف.
باااانغ— كوووكوونغ!
وما إن سمعوا ذلك الصوت المدوي، حتى هرع الجميع إلى داخل السلالم وصعدوا باتجاه مركز الاهتزاز. المكان الذي وصلوا إليه كان السطح الأوسط حيث يقع المقدّس الخاص بسكادين، درع الصقيع.
فتحوا باب السلالم وخرجوا، فاستقبلهم هواء جليدي بدا وكأنه قادر على تجميد أرواحهم نفسها. فعّل كازار سيف الرماد ليرفع درجة الحرارة حولهم.
كان درع الصقيع عبارة عن كرة ضخمة تتقاطع فيها ثلاثة دوائر عملاقة وتدور باستمرار. وقد كان موضوعاً على منصة عالية.
وعند منتصف تلك المنصة تقريباً، كان رجل عجوز ذو شعر أبيض ثلجي يصرخ وسط العاصفة الثلجية.
كانت رياح الشمال عنيفة إلى درجة أن وجوههم لم تكن واضحة، لكن رغم ذلك، تعرف الجميع عليه فوراً.
"هارمان!"
"سكادين! أعد لي ابنتي! إن أخذتَ ابنتي… فسأحطّم كل شيء أيها اللعين!!"
كان الهواء البارد يؤلم صدورهم من شدته، لكن المدهش أن هارمان كان يصرخ بحماس أعنف من قبل.
"ما الذي تفعله يا هارمان!"
"ستتجمد حتى الموت إن بقيت هنا!"
لم يكن أحد يعرف متى سيظهر ذلك الكيان الروحي المجنون القادر على تجميد كل شيء. ومع رفع كازار لسيف الرماد مترقباً كل اتجاه، اقتربت المجموعة من هارمان. كان يقف أسفل درع الصقيع وهو يحدّق في السماء ويصرخ بكلمات غير مترابطة.
"قتلتَ زوجتي… والآن تريد أخذ طفلي الوحيد أيضاً! أيها الملعون القاسي! كيف يمكن لشيء مثلك أن يُدعى حاكماً!"
وحين اقتربوا أكثر، لاحظوا أن جزءاً من العمود الضخم الذي كان يحمل درع الصقيع قد تحطم.
"ذلك… يبدو مثل قنبلة."
قال كراين وهو يمسك بكازار. وبعد الاقتراب أكثر، ظهر أن هارمان كان يحمل متفجرات تستخدم في المناجم. ويبدو أن الاهتزاز الذي حدث قبل قليل كان نتيجة الانفجار الذي تسبب به.
"اللعنة على هذا العجوز… توقف عن الهراء يا هارمان! سكادين لا يستطيع مغادرة الجبل الأسود! كيف يمكن لمخلوق محبوس هنا أن يقتل زوجتك التي تعيش في القرية؟!"
"ليلة سيد الشتاء"
تمتم إلسيد وكأنه قد أدرك شيئاً.
"نسمي أبرد ليلة في الشتاء 'ليلة سيد الشتاء'."
"أعرف ذلك أيضاً. يقولون إنها الليلة التي ينزل فيها حاكم الشتاء الذي يتحكم في الصقيع… لكن هذا مجرد كلام يتردد في كل مكان…… لا يمكن!"
"يبدو أنه في تلك الليلة فقط… يتمكن سكادين من النزول من الجبل."
كانت زوجة هارمان قد ماتت متجمدة أثناء وضعها للطفل، بينما كان هو محاصراً في العاصفة الثلجية في فريجيون ولم يستطع العودة.
"قالوا إن القابلة ماتت وبقي الطفل الرضيع وحده حيّاً. في البداية ظنوا أن القابلة احتضنت الطفل لتحميه من الموت برداً، لكن…….."
وبينما كان إلسيد يتحدث، تقدم كاهن بيرناتيس خطوة إلى الأمام وصاح.
"أيها العجوز! هل يحمل طفلك علامة الحاكم؟"
"ما الذي تقوله! لا أعرف شيئاً عن هذا!"
"أعني، هل ابنتك وعاء سكادين؟!"
لم يُجب هارمان. ولو لم يكن الأمر صحيحاً، لكان صرخ منكراً فوراً، لكن صمته بدا كأنه صُدم لأنه أصيب في صميم الحقيقة.
"من سير الأحداث… يبدو أن طفل هذا العجوز هو وعاء الحاكم. ويبدو أيضاً أنه يعرف ذلك."
وبعد سماع ذلك، صرخ كازار نحو هارمان مجدداً.
"أليس من الجيد أن تصبح ابنتك كاهنةً لسكادين؟ ستعيش في فريجيون تأكل وتشرب وترتاح… فما المشكلة؟!"
"اصمت! لا تتحدث بطيش وأنت لا تعرف ماذا يحدث لمن يحمل قلب الصقيع!"
ورغم أن كازار أنقذه من قبل، بدا أن هارمان لا يستطيع احتمال هذا الكلام تحديداً، فانفجر غضباً بعنف.
"تبا… وماذا يحدث لهم إذن؟"
تمتم كازار بضجر وهو يلتفت نحو كاهن بيرناتيس. أما الأخير فتنهد داخلياً متسائلاً كيف انتهى به الحال إلى أن يصبح مرشداً لهذا الرجل المتوحش، ثم فتح فمه ليتحدث.
"ليس سهلاً على الإطلاق أن يحلّ حاكم داخل جسد إنسان. فالأجساد التي تناسبه قليلة جداً، وعندما تُحشى بقوة كائنٍ متجاوز، قد ينكسر الوعاء… أو يتشقق."
"تقصد… قد يفقدون حياتهم؟ أو يصبحون معاقين؟"
"أو… يفقدون ذاكرتهم ويصبحون شخصاً آخر تماماً."
إلسيد ووال نظروا تلقائياً إلى كازار. فقد خطر لهما شخص معيّن فور سماع تلك الجملة الأخيرة.
"ليس هو. صحيح أنه فقد ذاكرته، لكن كل شيء آخر… بخير……."
قال كازار ذلك بسخرية وهو يرمق الاثنين بنظرة حادة.
"هل تظنان أن كائناً متجاوزاً قد تلبّس جسد تيري؟"
"مجرد أننا سمعنا موضوع فقدان الذاكرة، فكرنا بشكل عفوي فقط… لم نقصد أي شيء آخر."
"وأنا أيضاً."
"وهذا العجوز المجنون يحاول تدمير التحفة المقدسة لسكادين، وأنتما تمزحان بكل راحة!"
كان كازار يصرخ ويشير بإصبعه نحو هارمان عندما—
"اختفِ يا سكادين!"
صرخ هارمان، ثم رمى المتفجرات التي كانت في يده نحو التحفة المقدسة.
"أيها المجنون!"
ركض كازار بسرعة نحو المتفجرات الطائرة. وفي اللحظة نفسها تقريباً، اندفع كراين نحو هارمان.
قام كازار بضرب المتفجرات وهو محاط بدرع واقٍ (شيلد)، بينما أمسك كراين بهارمان وقفز معه من على المنصة.
وقع انفجار صغير، لكنه حدث في الهواء، لذلك لم يؤثر على العمود الذي يحمل التحفة المقدسة.
"هـــف…"
تنفّس الجميع الصعداء بعدما تأكدوا أن العمود لم يتضرر.
لكن… لم تكن تلك كل المتفجرات التي وضعها هارمان.
كان هناك عصا مكسورة عالقة مباشرة تحت التحفة المقدسة، وكانت ممتلئة بالكامل بالمتفجرات. والأسوأ… أن هارمان كان قد أشعل الفتيل بالفعل.
ومع احتراق ما تبقّى من الفتيل—الذي لم يكن بحجم أكثر من ظفر—وقع الانفجار فوراً.
"آآآاااه!"
غطّى الناس رؤوسهم بأيديهم وانحنوا. اجتاح المكان ريح تحمل ضغطاً هائلاً، واهتزّ الهيكل الداخلي بقوة.
وبعد انتهاء الانفجار، نهض أفراد المجموعة وهم يتأوهون، ثم نظروا نحو التحفة ليتأكدوا من سلامتها. ورغم ضخامة الانفجار، إلا أنها—لحسن الحظ—بقيت سليمة.
ثم هبّت رياح الشمال.
هشششششششش.
وبينما كانوا يسمعون صوت الحلقات الثلاث العملاقة وهي تتقاطع وتدور، رأوا درع الصقيع يميل ببطء نحو حافة الجرف.
"آااه!"
ركض كازار وكراين ووال للإمساك بالعمود الذي كان يحمل التحفة المقدسة وهو يميل، محاولين رفعه مجدداً، لكن بلا جدوى.
ومع دوران الحلقات الثلاث، سقطت التحفة المقدسة لسكادين نحو أسفل الجرف الأسود.
"لااااا!"
"ماذا فعلت!"
صرخ الناس، بينما أمسك كازار ياقة هارمان بعنف.
"إذا لم يعد هناك تحفة… فلن يكون هناك حاجة لصاحب جديد."
قال هارمان وهو يبتسم.
"إلاريين كانت ابنة من أبناء قريتنا. فتاة لطيفة وحنونة. لكنها بعد أن حملت قلب الصقيع وأصبحت كاهنة لسكادين… تحوّلت لشخص آخر تماماً. تلك الفتاة الحنونة لم تعد تتعرف على إخوتها، ولا حتى على والديها. قل لي… هل كنت ستقف وتتفرج بينما يصبح طفلك وأخوتك كذلك؟"
خطر في بال كازار ليسي، التي التقاها هنا عندما كان في العشرين من عمره. كانت محاربة باردة وقوية.
ولهذا عندما كانت ليسي تقفز غاضبة بعد شجار مع والدها، كان كازار يجد الأمر ممتعاً، لأنها كانت مختلفة جداً عن صورتها في حياته السابقة.
"وما المشكلة في فقدان بعض الذكريات؟ هل هذا شيء كبير؟"
"تحكم على الأمر بسهولة لأنه لا يخصك. هكذا هم الصغار دائماً......"
اليوم أمسك كازار بعدّة أشخاص من ياقاتهم. لكنّه لم يغضب قط بصدقٍ مثل هذه المرة.
"في النهاية، يظلّ الدم الواحد أمراً لا يتغيّر."
ارتجفت حدقتا هارمان بشدّة حين التقتا بعيني كاجار المتّقدتين.
"سيدي المعلم!"
"كازار!"
عندما سمع الأصوات التي تناديه على عجل، أفلت كازار هارمان. وفي تلك اللحظة، كانت المنطقة المحيطة قد تجمّدت باللون الأبيض، وفي وسط الرياح العاتية كانت عدة كتل زرقاء حادة تضيق المسافة بينهم شيئاً فشيئاً.
كراين أقام درعاً لصدّ الرياح، ووال أطلق كرة نارية. دفع كازار هارمان نحو الجهة التي يقف فيها إلسيد، ثم وقف في مواجهة الكتل الزرقاء القادمة.
"الذكريات… يمكن صنعها من جديد."
وصلت همهمة كازار إلى أذن هارمان الذي كان قد أُمسك به من قبل إلسيد وسُحب باتجاه الدرج.
ارتجف جسده للحظة بسبب تلك الكلمات، فالتفت ينظر إلى كازار. وفي تلك اللحظة، أحاط درع متلألئ باللون الذهبي المكان، وبدأت حرارةٌ دافئة تدفع برد الصقيع القارس بعيداً عن ليلةٍ كسيرة.
***
"الملاذ المقدّس!"
رفعت ماريتا أقوى تعويذة قدسية تستطيع إطلاقها باتجاه الهالة الزرقاء القادمة. لكن تلك الهالة لم تبدُ متأثرة على الإطلاق بحرم فيستا، ولم تُبطئ سرعتها ولو قليلاً وهي تنقض مباشرة نحوهم.
وبمجرد أن أدرك إرنولف أن قوة فيستا لا يمكنها إيقافها، نشر درعاً ذا خاصيّة نارية.
اصطدمت الكتلة الزرقاء بستار النار الرقيق الشفّاف، وتراجعت للحظة. لكنها سرعان ما ظهرت من خلال الجدار الآخر، مستهدفةً النقطة الخالية من الجانب.
"انفجار اللهب المتساقط (Blaze Flurry)!"
اندلعت كرات نارية حمراء قانية بشكل عشوائي من جسد إرنولف وانطلقت في كل الاتجاهات. تراجعت الكتل الزرقاء، لكنها مع ذلك لم تفقد قوتها.
بدأت ماريتا وإرنولف يتراجعان ببطء نحو جدار الجليد.
عندها، اندفع شخصٌ يرتدي ثوباً حالك السواد بعد أن دفع الباب الكبير بقوة. كان أحد كهنة بيرناتيس، وقد رُسم على جبينه وشم عظمي بثلاث شعب.