الفصل 220: وعاء الحاكم (8)
عندما أصبحت ابنتهما، التي أحباها وحرصا عليها كأنها روح حياتهما، سيّدة قلعة فريجيون، سقط والدا إلّاريين بروستينا في اليأس.
فقد غرس الحاكم شظيّة جليد في صدر ابنتهما بيده الباردة، ولم يكن ذلك مجرد "هبة". بل كان قلب الصقيع، خلاصة شتاء رهيب يحوي قوة كائن متجاوز للحدود البشرية.
وحين عاد قلبها للنبض، حطّمت تلك القوة الإلهية المتفجّرة الوعاء البشري الضعيف.
لقد تضرّر الوعاء، وتلاشت جميع الذكريات التي تقاسمتها مع أسرتها، وكل اللحظات الدافئة التي عاشتها، بل حتى شخصية "أنا" نفسها ذابت مثل ثلج الربيع.
وعندما فتحت عينيها من جديد، لم تكن بلونها الأزرق السابق، بل تحوّلتا إلى رمادي بارد يشبه ثلوج آلاف السنين.
إلّاريين عادت إلى الحياة، تتحرك وتتحدث… لكن نظرتها لم تكن نظرتها.
ومن أسفل الجبل، صرخ والداها باكيَيْن:
ابنتهما ذات الغمازتين اللطيفتين… قد ماتت في فريجيون.
روح الابنة قد غادرت الجسد منذ زمن، وإرادتها ابتلعها سكادين مع أنفاسها الأخيرة… ولم يتبقَّ سوى قشرة فارغة.
وعندما عاد هارمان إلى منزله بعد ليلة سيد الشتاء، واحتضن ابنته من حضن زوجته الميتة، رأى على صدر الطفلة نقطة بيضاء على شكل ندفة ثلج.
كان ذلك علامة سكادين التي تحدث عنها والدا إلّاريين.
وفي ذلك اليوم، دفن هارمان زوجته في الأرض، وأقسم أمام قبرها.
أقسم أنه إن كان عليه محاربة الحاكم لحماية ابنته… فسيفعل.
سيحميها مهما كلّف الأمر، حتى لو بذل حياته، وصرخ وهو يضرب صدره بذلك العهد.
لكن ليلة الصقيع حلّت… وكان الحاكم أقوى من أبٍ ليس سوى بشر.
***
"أبي، لا داعي لسماع ما يقوله هذا الإنسان! إنه محتال كامل! كل كلمة ينطق بها كذبة!"
ليسي صرخت بغضب شديد، وكأنها لم تشفَ بعد من ضربها للرجل حتى سالت دماؤه. هارمان، الذي كان قد تجمّد لوهلة خوفاً من كلام الخادم، استعاد وعيه عندما سمع صوت ابنته.
"إنه لا يكذب. كنت أحاول أن أنقذك… وأن أنقذ الجميع. إن بقينا هكذا، فأنتِ سوف…...."
"اغلق فمك ولا تقل هذه التفاهات! لماذا ستموت ليسي؟ ها هي أمامك، تنظر إليك بعيون مفتوحة، حيّة تُرزق! لماذا ستموت؟!"
صرخ هارمان بغضب وانفعال، وبدأ يبحث حوله عن عصا أو هراوة ليضرب بها الخادم. لكن ليسي قالت إنه لا داعي للاهتمام به، واقترحت أن يغادروا القلعة فوراً.
"ما معنى قولك إنها ستتلقى قلب الصقيع؟"
سأل إرنولف وهو يمسح البلل الذي خلفته زهرة الصقيع الذائبة على كمّه. الجميع رفض سماع كلام الخادم… لكن إرنولف كان مختلفاً. فهو يعتقد أن ليسي ليست بمنأى عن الأمر، تماماً كما أن حياة كل ما في فريجيون مرتبطة بسكادين. وإن كان الأمر كذلك، فعليه معرفة أكبر قدر ممكن قبل أن يغادروا القلعة.
"سيد سكادين ينزل من جبل الصقيع في ليلة سيد الشتاء بحثاً عن الطفل الذي سيصبح وعاءه. لا يستطيع أن ينتزع طفلاً من والديه قسراً، لذلك يعثر على طفل ميت… وينفخ فيه نفسه. الطفل الذي يُبعث بهذه الطريقة تُنقش على جسده علامة الصقيع."
"حقاً تبدع في اختلاق الكلام كما يليق بمحتال. أتقول إنني كنت ميتة منذ ولادتي؟"
تذمّرت ليسي، إلا أن ردّ فعلها كان مختلفًا تمامًا عمّا كان عليه قبل قليل. بدا عليها الارتباك وكأن سرّها قد كُشف، فانكمشت بخجل.
إرنولف أصبح متأكدًا من أن لدى ليسي علامة الصقيع.
"سيد سكادين نفخ في الطفل روحه الإلهية حتى يعيش حياة بشرية بين أحضان والديه… إلى أن يحين الوقت ليصبح وعاءه. لذلك، لا يمكن القول إنها كانت ميتة، بل كانت تعيش تحت رعاية الحاكم."
"ما الذي يهذي به…؟ أبي، هل تفهم شيئًا مما يقوله هذا الرجل؟"
قالت ليسي وهي تعبس، مؤكدة أنها لا تفهم ما يقول.
الخادم تنهد متألمًا وهو يمسك بجنبه المصاب بيده.
كان هناك كاهنان من كهنة فيستا، لكن كليهما كان يتفقد التوأمين بنظرات مترددة. فلم يعرفا إن كان الخادم عدوًا أم حليفًا، ولم يجرؤا على التدخل.
"ماذا ستفعل يا هارمان؟"
سأل إرنولف. إن كان كلام الخادم صحيحًا ولو بنسبة ضئيلة، فإن مغادرة القلعة الآن سيكون بمنزلة قتل ليسي.
"إنه أمر مبالغ فيه حقًا… محاولة التفريق بين والد وابنته، ثم فجأة قول كل هذا… الأمر غير عادل."
"وأنا أتفق مع افكاهنة ماريتا. اتخاذ قرار بهذا الحجم وإلقاؤه علينا فجأة هكذا… هذا—"
"لقد حاولتُ مرارًا إقناع هارمان! قلتُ له أن يعيش مع ابنته هنا في القلعة! وإن أراد البقاء في القرية، وعدته بأن يعيشَ مرفّهًا، فقط ليُرسل ابنته إلى فريجيون من وقت لآخر! لكن هذا الرجل… هذا العنيد… تجاهل كل أوامر السيدة!"
"هذا الرجل حاول حماية ابنته بطريقته. أي والد يمكنه أن يطيع بسهولة أمراً يقول له، سلّمنا طفلتك؟"
قال كازار وهو يتذكر والده، الذي أمضى الليل كلّه يضرب الصخر بيديه المتشققتين كي لا ينتزع منه ابنيه.
وحين فكّر في الأمر، رغم أن تصرفات هارمان كانت مزعجة… إلا أنه استطاع أن يفهمها.
"لابد أن هارمان لديه سبب قوي لرفضه الشديد. قلتَ إن ليسي ستعيش ولن تموت إذا حصلت على قلب الصقيع، أليس كذلك؟ كن صريحًا… هل هذا كل شيء؟"
سألت ماريتا الخادم.
كانت يتيمة، لم تعرف يومًا معنى أن يحبك والدان… لكن ربما لهذا السبب بالذات أرادت حماية مشاعر هارمان.
ولما لم يُجب الخادم، أعادت السؤال مرة أخرى:
"أعرف أن الطفل يفقد ذاكرته عندما يصبح وعاء الحاكم. لكن يبدو أن هناك ما هو أكثر… أليس كذلك؟"
قطّب الخادم حاجبيه، وتردد للحظة، ثم أجاب وكأنه استسلم.
"عندما يقدّم الطفل أنفاسه الأخيرة… ويحصل على قلب الصقيع… فإن الطاقة الزرقاء—الروح المقدسة لسيدة القلعة التي حمت فريجيون لسنوات طويلة—تنتقل إلى الجسد الجديد. هكذا فقط يمكن استخدام قوة سكادين."
اتضح حينها أن سبب هيجان ذلك الكتلة الزرقاء كان بالفعل انتهاء عمر جسد إلّاريين بروستينا.
"أبي، هيا اصعد على ظهري. لنعد إلى البيت."
جلست ليسي القرفصاء وكأنها لم تعد تريد سماع كلمة أخرى، وأشارت لوالدها بأن يعتلي ظهرها.
هارمان نظر مطولًا إلى الخادم والناس، وكأنه ما زال يحمل شيئًا من التردد، ثم وضع ذراعيه ببطء حول عنق ابنته واعتلا ظهرها.
"هوب!"
نهضت ليسي وهي تحمله على ظهرها وخرجت إلى الممر.
تلفّتت حولها وهي لا تعرف أي اتجاه تسلكه، حتى خرج كازار خلفها وأشار إليها بإحدى جهات الممر مستخدمًا سيفه الأحمر.
فأومأت له ليسي، ثم سارت بخطى ثابتة.
"كل هذا كلام فارغ. يقولون ذلك فقط ليغروني، لأن شكلي يوحي بأنني سأصبح جيدة في العمل، أبي."
"……"
"قبل أن نغادر، الأفضل أن نجد شيئًا نرتديه فوق ثيابنا… والثلج المتراكم أمام الجسر ما زال كما هو، صحيح؟ هل نطلب من الناس أن يرافقونا؟"
"……"
"أتمنى أن تكون العربة بخير. حملك على ظهري متعب، أتعرف؟ العربة أسهل."
كانت ليسي تتحدث بحماس وهي تقول إنهم قد يعثرون على عربة صغيرة بين ممتلكات القلعة.
لكن هارمان كان يعرف السبب الحقيقي وراء ارتفاع صوتها وحدّته… وبدا واضحًا أنه أسرع من المعتاد.
إنها خائفة.
ولهذا، يجب أن يتقدم الأب أولاً ليطمئن ابنته المرتجفة.
"ليسي."
"هم؟ ماذا هناك؟"
"كل شيء سيكون بخير. أياً كان ما سيحدث… سيكون على ما يرام. طالما أن والدك بجانبك، فلا داعي للخوف."
عند أسفل الدرج، توقفت ليسي لثوانٍ تتظاهر أنها تلتقط أنفاسها، ثم هزّت كتفيها قليلًا لتثبت والدها جيدًا، وصعدت الدرج بحزم.
"ما الذي تقوله؟ كيف ستحميني يا أبي؟ أنا أقوى منك. أنا من سيحميك، فهمت؟"
قالت ذلك بجملة لا يُعرف إن كانت دليل برّ أم عقوق، ثم بدأت تصعد بسرعة، واضعة قدمها على درجتين في كل خطوة… ثم بدا أنها استعجلت أكثر، فصارَت تصعد ثلاث درجات دفعة واحدة.
وبمجرد أن دفعت باب غرفة السلالم وخرجت، شاهدا شخصًا يصرخ وهو يركض باتجاههما، تتبعه الكتلة الزرقاء التي كانت تجمّد الممر بالكامل خلفه.
قفز كازار فورًا إلى جانب ليسي، واندفع للأمام.
أطلق شرارات من النار وضرب بها الكتلة الزرقاء، ولحقه إرنولف بسرعة، منشئًا درعًا من خاصية النار ليغلق به الممر.
"من ذاك الاتجاه!"
صرخ إلسيد وهو يشير إلى الممر المؤدي إلى قاعة الطعام، ثم ركض نحوه.
واتبعه وال الذي جمع المانا في يديه استعدادًا للهجوم.
في الوقت الذي كان فيه الدرع الناري الذي صنعه إرنولف يصدّ الكتلة الزرقاء، تحرك الجميع سريعًا خلفه هاربين.
وبسرعة، وصلوا جميعًا إلى قاعة الطعام.
كانت القاعة وما حولها في حالة فوضى عارمة.
الكتلة الزرقاء كانت تطير بجنون في كل مكان، مجمّدة الناس الواحد تلو الآخر.
وثلاثة من كهنة بيرناتيس كانوا يقاتلونها بشراسة بينما يحاولون حماية من تمكنوا من الوصول إليهم.
"لنتحرك ببطء باتجاه الباب! لا تتعجلوا! يجب أن نبقى متماسكين ونمشي بالسرعة نفسها كي نستطيع حمايتكم!"
الكهنة المنتمون لبيرناتيس، الذين غطّت الوشوم المخيفة أجسادهم، مدّوا أيديًا تشبه أيدي الهياكل العظمية ليشكلوا حائطًا دفاعيًا وهم يحرّكون الناس نحو المدخل بحذر، مراقبين الكتلة الزرقاء بترقّب شديد.
"أنتم هناك! تعالوا بسرعة إلى هذا الجانب!"
كان ليفروند —الأقوى بينهم في استخدام الطقوس السحرية— مشغولاً بقتال الكتلة الزرقاء.
لهذا، لوّح أطول الكهنة الثلاثة بيده نحو إرنولف وهو يصرخ.
"ما الأمر معكم؟ تتصرفون كأنكم معنا منذ البداية."
رغم نبرة السخرية الخفيفة، تحرك كازار نحو الجهة التي بها الناس، ملتزماً بما أمر به كاهن بيرناتيس.
وفي الوقت نفسه، كان الكهنة يراقبون تحركات إرنولف بوضوح، وهم يواصلون نسج الطقوس لكي لا تقترب الكتلة الزرقاء من المجموعة.
أحد جنود الصقيع، وهو يتصبب عرقًا باردًا، رفع مزلاج الباب بحذر.
وفور انفتاح الفتحة الصغيرة… اندفع الناس للخارج دفعة واحدة، متزاحمين للخروج قبل أن يتمكن كازار أو إرنولف من منعهم.
"لا! إذا خرجتم هكذا ستموتون متجمدين!"
"درع النار!"
أطلق إرنولف درعًا ناريًّا على الفور، لكن خروج الناس كان أسرع…
وفور أن وضعوا أقدامهم في ليلة الصقيع، هاجمتهم الرياح الجليدية وتجمدوا بالكامل في مكانهم.
"آاااااه!"
"يا أغبياء… ارجعوا إلى الخلف!"
أمسك كازار بأطراف رقاب من صرخوا ورماهم إلى الخلف بقوة خادعة، ثم وقف هو وإرنولف جنبًا إلى جنب، متقدمين إلى الأمام خطوة بعد خطوة.
ووووووم… ووووووون…
اهتزّ الحصن بأكمله مصدِرًا صوتًا غريبًا ومقلقًا.
ومع سماع ذلك الصوت المشؤوم، تبع الناس التوأمين بحذر شديد.
"كازار."
"أعرف… سأحمي المؤخرة."
هزّ إرنولف رأسه موافقًا على ردّ كازار، ثم ضخَّ مزيدًا من الطاقة السحرية في الدرع.
امتدّ الدرع الناري طويلًا ضد رياح الشمال العاتية، محيطًا بالناس لحمايتهم.
أما كازار فاتجه بسرعة إلى مؤخرة الصف.
وفي تلك اللحظة، بدأ الناس يصرخون وهم يشيرون بأيديهم نحو ظلال زرقاء بعيدة.
"ذئاب الصقيع!"
ذئاب الصقيع —التي يفوق حجمها الذئاب العادية بأضعاف— كانت تقترب في قطيع كامل.
كانت تكشف أنيابها وهي تهدر موجهة عداءها نحو إرنولف وكهنة بيرناتيس…
وكأنها غاضبة لأنهم استخدموا قوى خاصّة داخل فريجيون.
اشتعلت النيران أقوى على سيف الرماد الذي يحمله كازار، وتقدم خطوة واحدة نحو الذئاب.
ووال أيضًا أحاط ذراعيه باللهب، ووقف جنبًا إلى جنب مع كازار.
لكن… لم تبدأ المعركة.
فجأة، سقط أحد ذئاب الصقيع على ركبتيه، مغرسًا رأسه في الثلج.
ثم تبعه الآخرون واحدًا تلو الآخر، يصدرون أصواتًا حزينة قبل أن ينهاروا هم أيضًا.
"ما هذا…؟ ما الذي يحدث لهم؟"
وبينما كان كازار يتساءل، دوّى صوت أنين آخر خلفه.
"أوه…."
"ليسي!"
انهارت ليسي، التي كانت ضخمة وقوية مثل الدب، فجأة على ركبتيها وجلست أرضًا وهي تلهث بصعوبة شديدة.
"أبي……."
"ليسي!"
لوّحت ليسي بيدها ببطء وكأنها تريد طمأنتهم بأنّها بخير، وهزّت رأسها نافية. لكن على عكس الإشارات التي كانت تقول إنها بخير، كانت شفاهها الزرقاء تفقد لونها بسرعة، ووجهها ويداها تتحولان إلى بياض الثلج.