الفصل 225: ثلاثة رحلات (1)

غطّى الثلج الأبيض الناصع كل شيء، وبدا كما لو أنه يمحو آثار الماضي، تمامًا كما محَت قوة سكادين فتاةً تحمل اسم ليسي من هذا العالم.

حين امتلأت روح ذلك الوجود الساحق وقوته داخلها، تشرّخت روحها، ومن خلال تلك الشقوق تسرّبت جميع ذاكرتها.

ومع ذلك، كان هارمان يتبع ابنته التي لم تعد تتعرّف على والدها، كظلٍّ ملازم لها.

كان يسير خلفها متعثّرًا، متكئًا على مكنسة يستعملها كعصا، ولم يطرده سكادين ولو مرة واحدة.

حتى حين كان الحاكم يتناول الطعام ليحافظ على الوعاء، وينام، ويتعرض لأشعة الشمس، ويتجول في الفناء الداخلي، كان هارمان يجرّ جسده العجوز البالي بصعوبة ويبقى إلى جواره.

كانت ليسي ضخمة البنية، لكنها خفيفة الحركة. كانت تبكي قبل أيّ شخص عندما تحزن، وتضحك كطفلة تكاد تغشى عليها حين تفرح. وإذا غضبت اشتعلت كالنار بسهولة، وكانت تشفق بسرعة على الأشياء الصغيرة والضعيفة.

لكنها الآن، كانت تكتفي بالمراقبة بصمت، كجبلٍ شامخ يطلّ على العالم من علٍ.

حتى الوصي لم يكن يعرف ما الذي تراه، أو تشعر به، أو تفكر فيه. كانت تكتفي بالنظر من علٍ والحكم، دون أن تستشير أحدًا، ودون أن تتفاعل مع أيّ أحد رغم رؤيتها وسماعها لكل شيء.

لم يتصرّف سكادين بقدرٍ من الإنسانية إلا خلال الفترة القصيرة التي كان فيها التوأمان في فريجيون.

「الاختباء تحت الصقيع وحبس الأنفاس حتى يهدأ ريح الدم… هو أحد الطرق أيضاً.」

بهذه الكلمات، قال سكادين للتوأم أن يبقوا في فريجيون.

القيّم الذي خدم اللورد السابق إلّاريين لأكثر من عشر سنوات، تفاجأ بشدة عند سماعه ذلك.

فلم يحدث قط أن حاول وسيط الصقيع أن يتواصل مع البشر بهذه الدرجة من المبادرة.

「ولكن الزمن الذي مُنِح لكما… لن يجري بهذه الطريقة، أليس كذلك………」

وكأنه يقرأ مصيرهما، تمتم سكادين بكلمات غامضة بينما كان يودّع التوأمين.

'هل الوعاء هذه المرة مختلف؟'

نظر القيّم إلى سكادين متسائلًا.

كان من الغريب أن سكادين، الذي يفضّل الوحدة، يطلب من التوأمين البقاء في فريجيون.

وغريب أيضًا أنه لم يطرد هارمان الذي يتبعه ليلًا ونهارًا.

رغم علمه بأنها لم تعد ابنته، كان هارمان يظهر منذ الصباح الباكر لإيقاظ سكادين قائلًا إن عليه الخروج إلى الساحة والتعرض للشمس.

وخلال الوجبات كان يهمس له بإلحاح، قائلاً إن في سنّ مثل سنّه يجب أن يأكل المزيد من اللحم.

وفي الليل، كان يتبعه إلى غرفته، ويغطيه بالبطانية حتى أسفل ذقنه، ويجرؤ على نصح وسيط الصقيع قائلاً إنه إن ركل البطانية أثناء النوم فقد يصاب بالبرد، لذلك عليه الحذر.

لكن رغم رعايته الدؤوبة لقشرة ابنته، لم يعتنِ بنفسه.

فهو بالكاد كان يأكل، ولم يكن يجد النوم حتى في منتصف الليل.

كان يزداد نحولًا يومًا بعد يوم، وتضعف قوته، حتى بات من الصعب عليه اتباع سكادين. فكان يجلس فجأة في أي مكان، شاردًا بلا تركيز.

هذا القصر الضخم قدّم له طعامًا جيدًا وسريرًا دافئًا، لكنه لم يمنحه الاهتمام والمحبة التي كان يحتاجها.

ولهذا، كان هارمان اليوم أيضًا يمشي مترنحًا، كما لو أنه سيسقط في أي لحظة، ثم انهار جالسًا في الحديقة.

وعندما خفض رأسه تمامًا وهو يتمتم بأن الوقت قد حان ليموت… ظهرت ظلال صغيرة أمامه.

رفع هارمان رأسه، فرك عينيه مرات عديدة غير مصدّق، ثم نهض واقفًا دفعة واحدة.

كان يظن أنه لم يعد يملك القدرة على الوقوف أو المشي… لكنه كان مخطئًا.

"جزر… هل أنت جزرنا حقًا؟"

كان يفحص أجزاء الحمار العجوز مرارًا، يلمسه هنا وهناك، ثم يعاود التربيت عليه، قبل أن يعانقه بقوة.

ذلك الحمار الذي كانت ليسي تعتني به وتدلّله كأخ صغير، وكان رفيق هارمان عندما كان يعمل حمّالًا وينتقل بين الأماكن.

وعندما رآه ثانية—الحمار الذي تجمّد ومات في طريقه إلى الجبل الأسود —فرح هارمان كما لو أنه استعاد ابنته.

"يا إلهي… يا هذا الصغير، يا جزر… كيف وصلت وحدك إلى هنا؟ يبدو أنك لم تنسَ الطرق التي اعتدنا السير فيها قديمًا."

ضمّ هارمان عنق الحمار بذراع واحدة، وحكّ جبهته، فصدر من الحمار صوت معدني وهو يعض شفته السفلى.

تفاجأ هارمان بتلك الحركة الغريبة.

فمنذ طفولتها، كانت ليسي عندما تتفاخر وتضحك، تعض شفتها السفلية بأسنانها الأمامية الكبيرة التي تشبه أسنان الأرنب، وتضحك بخفة.

هارمان—غير مصدّق ما يرى—حدّق في الحمار وبدأ يكلّمه.

"أ… أيمكن أن تكوني… ليسي؟"

"هَرررُنغ."

عند سؤال هارمان، قام الحمار بخدش الأرض بأطراف حوافره بينما يتظاهر بالانشغال.

تنهد هارمان طويلة ثم أعاد حكّ جبينه برفق.

"لقد صعدتِ طريق الجبل فلا بد أنك جائعة. هل تريدين أن تأكلي شيئًا؟"

عندها بدأ جزر يضرب الأرض بحافره في مكانه، مستعجلًا كما لو يطالب بسرعة بالطعام.

وكان ذلك أيضًا من التصرفات التي اعتادت ليسي القيام بها حين تكون جائعة.

مسح هارمان دموعه بكمّه وأمسك باللجام.

وحين خطا خطوة متعثرة، اتجه جزر إلى اليسار كما لو أنه يعرف ما يفعل، ثم أدخل رأسه بين ذراع هارمان وجانبه.

"يا لهذا الولد… ماذا تفعل؟……."

في البداية لم يفهم هارمان ما يحدث، لكن عندما بدأ جزر يضرب ذراعه بأنفه دافعًا إياها إلى الأعلى، ويدس رأسه أكثر تحت إبطه، فهم السبب أخيرًا.

"هل تريدينني… أن أستخدمك بدل العصا؟"

"بييير."

أطلق جزر نفخة قوية من أنفه. بدا وكأنه يجيب.

وضع هارمان يده على ظهر الحمار ومشى.

وكأن جزر حلّ محلّ ساقه اليسرى العاجزة، فكان يطابق خطواته معه ويمشي بجانبه في انسجام.

"في المخزن لا بد أن تكون هناك بعض الجزر. إذا أنهيتِ التبن سأعطيكِ جزرة."

"بييير."

"لا… لا. في الشتاء يجب أن تكتسبي بعض اللحم. سأعطيك ثلاث حبات في كل وجبة."

"بييير."

"الإنسان أو الحيوان… لا بد أن يبدو ممتلئًا قليلًا حتى يصبح جميلًا."

بدأ جزر يلوّح بذيله بعنف، موافقًا على كلامه تمامًا.

وبينما كان الرجل والحمار العجوز يتمايلان في مشيتهما نحو المخزن، ابتسم سكادين ابتسامة خفيفة وهو يراقبهما من حديقة الحاكم.

'العالم لا يُصان بالحب وحده… لكن لا يوجد سبب يجعل صلواتكما لا تصل إليّ.'

وضع سكادين زهرة الصقيع التي كان يحملها، بهدوء، فوق الصخرة السوداء.

***

كانت المرأة تلتقط حجرًا حادًا بيدها الهزيلة، ثم تضرب به التربة المتجمدة وتحفر فيها.

وبينما يخرج بخار أبيض من فمها، بذلت جهدًا طويلًا، حتى ظهرت حفنة من الجزر بين التربة السوداء الداكنة.

كانت تلك الجذور—التي تخلى أصحاب الحقول عن حصادها—رفيعة وهزيلة ولا قيمة لها.

لكن بالنسبة إليها، وهي جائعة، كان أي شيء يمكن أن يدخل فمها ويهضم… أثمن من الذهب.

نفضت التراب عن الجزر بيدها، ثم مسحته بطرف تنورتها، وقضمت منه قضمة كبيرة.

وبينما ترتجف من البرد، تابعت سيرها عبر الحقول المغطاة بالثلج.

شعرها الذي أصبح هشًا وجافًا مثل القش، وجهها المتسخ الذي لم يُغسل حتى سالت عليه آثار الوسخ، ملابسها الملطخة بالتراب… كان يمكن لأي أحد أن يظن أنها مجرد متشردة فقيرة.

لكنها كانت واحدة من أثمن الشخصيات في المملكة.

فالعرش المزين بالذهب والكنوز كان لها، وبعد مدة قصيرة فقط… كان من المفترض أن تضع التاج على رأسها الصغير.

اسمها كان إيروني فيسارت بنغريل.

أميرة مملكة بنغريل، المملكة الصغيرة لكن ذات القوة العسكرية والموارد القوية.

كانت ضعيفة لأنّها لم تأكل جيدًا ولم تسترح كما يجب، لكنها مع ذلك لم تتوقف عن السير عبر السهول الثلجية ولو للحظة.

أول ما تعلمته في حياتها كمتشرّدة هو أنه يجب العثور على مأوى آمن قبل غروب الشمس.

وإلا فقد تصبح فريسة للوحوش، وإن لم يكن الحظ معها، فقد تواجه لصوصًا أيضًا.

ولحسن الحظ، ستنام إيروني الليلة في مكان له سقف.

كان بيتًا ريفيًا متداعيًا، أرضيته ترابية، لكن وجود الجدران والسقف يكفي لحمايتها من الثلج والريح.

أحكمت إيروني إغلاق الباب بوضع مزلاج قوي، ثم حطمت قطعة أثاث وجمعت القشّ المبعثر على الأرض، وأشعلت نارًا كبيرة نسبيًا.

بعدها بحثت في المكان عن شيء يؤكل، لكنها لم تجد سوى خبز قاسٍ لا يمكن معرفة إن كان حجرًا أم خبزًا، وبضع سجق ذي رائحة كريهة.

ملأت القدر بالثلج، وألقت كل ذلك داخله ثم وضعته ليغلي.

كان الطعم سيئًا للغاية، لكن ذلك الطعام كان كافيًا لتهدئة جوعٍ دام طويلًا.

بعد أن ملأت معدتها، فرشت شيئًا فوق الأرض ثم تمددت فوقه.

كانت مرهقة، لكن التوتر لم يسمح لها بالنوم.

وبينما كانت مستلقية تحدّق في النار، عادت إليها ذكريات الأيام الماضية.

'أمّي…….'

كلما حصلت على لحظة راحة، كانت صورة ديبي بارات الأخيرة تظهر أمام عينيها بلا رحمة.

「يا عديم الشرف! طردت الملكة بعد أن لفّقت لها التهم، والآن تنوي قتل ابنتها أيضًا! أهذا ما يُسمّى إنسانًا؟!」

「ما هذا الهراء الذي تنطقين به الآن؟! هل تجهلين كم عشتُ مرعوبًا بسببكنّ؟! أنتن من حاولتنّ تسميمي لقتلي،

والآن تتحدثين عن تلفيق تهم؟ من ذا الذي وُضِعت عليه تهمة باطلة وهو بنفسه اعترف بذنبه؟!」

「لو لم تعترف بالقوة… لكان الجميع قد مات. الأم تفعل أي شيء لتحمي طفلًا في بطنها… أليس كذلك؟」

كانت ديبي بارات تتوسل إلى ولي العهد وتتهمه، محاولةً تبرئة الملكة مما نُسب إليها.

لكن ولي العهد أنكر كل كلمة قالتها… وفي النهاية، قتلها بيده.

إيروني كانت خلف الباب مباشرة، تستمع إلى كل ما حدث.

لم ترَ المشهد بعينيها، لكنها سمعت كل شيء— سمعت بوضوح فظاعة الطريقة التي قُتلت بها ديبي بارات.

ولي العهد طعن ديبي بارات، التي كانت تقف متكئة على الباب، مراتٍ عديدة…

كانت إيروني تسمع صوت نصل السيف وهو يخترق جسدها ويضرب الباب خلفها دقًّا دقًّا، فأخذت تصرخ متوسلةً أن تُترك حيّة.

「إيروني!」

كان ولي العهد، وهو يطعن جسد ديبي بارات بسيفه، يصرخ تجاه الباب.

لكن مهما صرخ ومهما ضرب الباب، لم يكن قادرًا على فتحه… ولا على قتل إيروني خلفه.

「اللعنة! ذلك الخاتم الملعون!」

وبعد أن وجّه عدة طعنات عنيفة إلى الباب الذي لم ينفتح، وقف ولي العهد يلهث بغضب، يصرّ بأسنانه.

「انتظري يا إيروني… سأجد الخاتم مهما كلّف الأمر… ثم أقطعك إربًا.」

ركل الباب عدة مرات إضافية، ثم أمر الفرسان والجنود بأن يحرسوا الباب بلا أي ثغرة، كي لا تتمكن إيروني من الخروج.

بعدها رحل، مخلفًا وراءه صوت خطواته الغاضبة يبتعد أكثر فأكثر.

أسندت إيروني ظهرها إلى الباب وبكت بلا توقف.

كانت حزينة على موت ديبي بارات، التي لطالما حملت لها مشاعر الكراهية، ومرتعبة حدّ العجز من كل ما يجري حولها.

وبعد مرور عدة أيام، بدأ الجوع المخيف ينهشها.

لكن الأسوأ من الجوع… كان العطش.

「كم يوم مرّ؟ هل هو اليوم الرابع؟」

「اليوم الخامس. اليوم أصبح خمسة أيام.」

「يا إلهي، لا بد أن أميرتنا أصبحت نحيفة جداً. خمسة أيام بلا طعام!」

كان الفارس والجنود الذين يحرسون الباب يتحدثون بصوت عالٍ عمداً لتسمعهم. لم يسخروا من إيروني فقط، بل جعلوا أيضاً والدتها، الملكة غريس، هدفاً للاستهزاء.

「بسبب تلك المرأة الشيطانية، لا تعرف هذه المملكة يوماً واحداً من الهدوء.」

يبدو أنهم لم يكونوا يعلمون بعد أن ولي العهد مصاص دماء، فكانوا يدافعون عنه ويشتمون إيروني والملكة غريس بلا توقف.

"ليس صحيحاً….. أمي بريئة. كل هذا افتراء. قالت لي أمي ذلك بنفسها."

رغم أنها أنهكها الجوع حتى أصبح حتى التنفّس أمراً شاقاً، كانت إيروني ترد على كلماتهم واحدة تلو الأخرى، رافضة كل ما يقولونه.

'كاذبون……'

وبينما كانت وعيها يتلاشى، أخذت تتمتم وهي تخطئ بين ديفي بارات والملكة غريس فتسميهما كلتيهما أمي. ثم اتخذت قراراً.

'لنخرج. سأخرج لأكشف الحقيقة، وأعيد شرف أمي، وأنتقم لما جرى.'

كانت حياة لا تريد مواصلة العيش فيها، ولكن حين اقترب الموت من قدميها، استجمعت إيروني قوةً تفوق طاقتها البشرية ووقفت على قدميها.

ثم استندت إلى الباب ونظرت إلى الظلام أمامها.

"أتريدين الحقيقة؟"

كان المعبد الأسود، ذاك الذي أوصاها والدها ألا تقترب منه مهما حدث، هو من خاطبها من بين الظلال.

ثبّتت إيروني وجهها المتسخ بآثار الدموع نحو المعبد الأسود، وبدأت تتحرك نحوه ببطء.

2025/12/03 · 69 مشاهدة · 1739 كلمة
queeniie377
نادي الروايات - 2025