الفصل 226: ثلاث رحلات (2)

كان ذلك مبنيًا فوق تسع منصّات حجرية. كانت المنصّات تحمل المبنى، وفي الوقت نفسه تقوم بوظيفة السلالم.

سارت إيروني على الطريق الحجري الأسود الذي يمتدّ إلى المنصّة، وكأنها شبح.

وحين وصلت أمام المنصّة الأولى، دوّى صوت أحدهم داخل رأسها.

"هل تريدين إنهاء كل الأكاذيب؟"

بعد سماع تلك الكلمات، أغمضت إيروني عينيها للحظة. كانت جائعة، وتشعر بعطش يشبه التعذيب. لكن ما كان أكثر إيلامًا من كل ذلك، هو أن كل ما رأته وسمعته وشعرت به طوال تلك الفترة… كان كذبًا.

'نعم، أريده بصدق.'

وما إن صعدت الدرجة الأولى بصعوبة، حتى اشتعلت نار هائلة في المشاعل الضخمة الموضوعة على الجانبين من تلقاء نفسها. ثم دوّى الصوت من جديد.

"أيتها الفتاة الصغيرة، هل تستطيعين حقًا تحمّل الحقيقة؟"

ارتجفت إيروني وهي تجيب.

"أتمنّى… أن يكون حتى هذا الألم… حقيقة."

كان الحقد والخيانة الموجّهان نحو ديفي بارات قائمين على الثقة والمحبة التي كانت تحملها له.

هل أحبّتني حقًا؟ أم أنه حتى اللحظة الأخيرة لم ترى بي سوى ابنة سيدتها؟ هل كانت أمي التي أنجبتني امرأة شريرة كما قال الجميع؟ هل كان أبي يحبّني؟

كانت تساؤلات لا تُحصى تملأ صدرها، لكن لم يكن هناك جواب صادق في أي مكان.

وعندما وطئت إيروني الدرجة الثانية، اشتعلت نار زرقاء أخرى على الجانبين، فبدّدت الظلام.

"كل ما كنتِ تؤمنين بأنه حقيقة… قد يكون مجرد انعكاسٍ لكذبة. فهل أنتِ مستعدة لترك الحقيقة الزائفة؟"

كان الصوت في رأسها يتردد كلما داسَت إيروني على إحدى الدرجات وصعدت. ومع كل مرة تسمعه، كانت رغبتها في الحقيقة تزداد وتتعاظم. وعند آخر درجة، انفجرت بالبكاء بلا دموع.

'هل كنتُ كائنًا يستحق أن يولد…؟'

هذا السؤال كان يقف في نهاية كل الأسئلة التي حملتها في صدرها.

لم تكن لديها أي رغبة في التمسك بالحياة. ولم تشتهِ المال أو القوة.

ما كانت تريده… هو الحقيقة فقط.

كانت إيروني مستعدة لمعرفة ذلك حتى لو اضطرت للتضحية بروحها.

"أنقى نياتك ستحطم قلبك. فهل تستطيعين تحمل تلك الحقيقة؟"

"سأتحمّلها. استخدمني… لأُثبت نفسي."

أريد الحقيقة.

لم يتبقَّ في عقل إيروني سوى تلك الكلمات وحدها. أجابت… وصعدت أخيرًا الدرجة الأخيرة.

"ستكون الحقيقة أمامك."

ومع تلك الكلمات التي بدت كقدر محتوم، اشتعلت كل المشاعل التي تحيط بالمعبد بنيران متصاعدة. كان المعبد مغلقًا بإحكام، لكن لم يعد هناك حاجة للدخول.

رفعت إيروني رأسها. وفي الظلام، كانت عينان عملاقتان تشتعلان بنار زرقاء تنظران إليها من الأعلى. وما إن واجهتهما… حتى فقدت وعيها وسقطت أرضًا.

حين استعادت وعيها، كانت إيروني مستلقية في وسط الغابة.

كانت الغابة التي غطّاها البياض النازل مثل الثلج، غارقة في سكون الليل.

شرعت إيروني في نزع الثلج المتراكم على الأرض بيديها على عجل، ووضعتَه في فمها. كان جسدها كله يرتجف من البرد، لكنها على الأقل استطاعت إرواء عطشها. ولعدم امتلاكها قوة للنهوض، بقيت مستلقية تلهث عندما سمعت من بعيد عواء الذئاب.

عضّت إيروني على أسنانها ونهضت بجهد وبدأت تمشي. لم تتذكر كيف خرجت من ذلك المكان، أو كيف انتهى بها الأمر في غابة مجهولة. ولكن قبل كل شيء… كانت تتساءل إلى أين عليها أن تذهب.

هل عليها الذهاب إلى أراضي الكونت لورين البعيدة عن العاصمة؟ أم هل الأفضل التوجه إلى مكان النفي الذي قضت فيه وقتًا مع ديفي بارات؟

بعد تفكير طويل، قررت إيروني ألا تذهب إلى أي من المكانين.

فوليّ العهد المخلوع، ألكسيون فيسارت بنغريل، ذلك الشبح القاتل القاسي، لن يترك تلك الأماكن دون مراقبة. عندها أدركت إيروني أنه لا يوجد مكان داخل المملكة يمكنها أن تعيش فيه بأمان.

وهناك أمر آخر أيضًا.

'ما هذا؟'

أثناء بحثها في الغابة عن غصن تستخدمه كعصا للمشي، اكتشفت أنها ترتدي حول خصرها زينة طويلة لم ترَ مثلها من قبل.

لم يكن بإمكانها معرفة من وضعها ومتى، لكن من شكلها ومادتها شعرت بأنها كنز ثمين.

'هل أحضرته معي من المعبد؟'

لم تتذكر إيروني إطلاقًا ما حدث داخل ذلك المعبد الأسود. كانت تتذكر فقط سيرها على طول الطريق الحجري الطويل، أما ما بعد ذلك… فقد غرق بالكامل في الظلام.

ولم يكن ذلك وحده ما نسيَته. كانت متأكدة من أنها كانت تمشي وسط الغابة وهي تهرب من عواء الذئاب، لكنها فجأة فقدت وعيها، وعندما فتحت عينيها من جديد، كانت تقف في أرض مقفرة شاسعة. كان فستانها الذي خرجت به من القصر الملكي ملطخًا ببقع دم متناثرة في عدة أماكن، وقد غطى التراب قدميها تمامًا.

ولم تكن تلك المرة الوحيدة التي فقدت فيها وعيها لتستيقظ في مكان غريب.

فقدت وعيها مرة أخرى، وحين فتحته، كانت هذه المرة على طريق جبلي. وهناك أمامها، رجال لم ترَهم في حياتها من قبل، ممسكين بأسلحتهم، وقد ماتوا بينما كانوا يطعنون بعضهم البعض.

لم تستطع معرفة ما الذي حدث، لكن إيروني شعرت بأنهم قاتلوا من أجلها.

'بمظهري هذا… سأكون في خطر.'

خلعت إيروني الملابس والأحذية من الرجال الموتى، وارتدتها بدلًا من الفستان والحذاء. كما قصّت شعرها الأشقر الطويل اللامع بسكينٍ وجعلته قصيرًا مربوطًا، وارتدت قبعة. ثم لفت حول جسدها بطانية وثبتتها بالحبال بإحكام، ثم أخذت من حقائب اللصوص كل الأدوات والطعام التي يمكن استخدامها.

وبدل ذلك، قررت أن تقوم بدفن الرجال دفنًا بسيطًا باستخدام الأعشاب والأغصان. وعندما رفعت أكمامها لالتقاط بعض الأغصان، ظهرت على ساعدها الأبيض كلمات مكتوبة بالدم. تفاجأت إيروني بشدة وقرأت ما كان مكتوبًا. الخط كان خطها هي، لا خط شخص آخر.

'إيسيدور راينر.'

كانت الأحرف المكتوبة على ساعدها اسم شخص ما. وما إن قرأت إيروني الاسم في داخلها، حتى اقتربت المناظر من حولها بسرعة. ثم ظهرت أمامها مشاهد غريبة عنها: اسم مدينة محفور أمام سور، منظر الشوارع، المارّة، طرق عديدة لم ترَها من قبل، بيوت أحدهم، الناس الذين يعيشون هناك… ورجل.

حالما رأت وجهه، أدركت إيروني فورًا أن إيسيدور راينر هو ذاك الرجل بالضبط. وفي تلك اللحظة، اختفت الرؤية كما لو كانت كذبة.

'إيسيدور راينر. صحيح… لقد سمعت اسمه من قبل.'

إنه صيدلي البلاط الملكي الذي شهد بأن الملكة غريس حاولت رشوتَه.

ولأنه كان صيدليًا تولّى رعاية الملكة ريجينا، والدة ولي العهد، فقد اتُّهمت شهادته بالتحيز. لكن الكلمات التي خرجت من فمه تضخمت عبر ألسنة الناس، وتحولت إلى حقيقة مسلَّم بها.

وكان ديفي بارات تذكر اسمه أحيانًا وتصرّ على أسنانها حنقًا، ولهذا كانت إيروني تعرف اسمه وما فعله.

'هو الذي جعل أمي تموت بذلك الشكل… بينما يعيش هو بكل راحة ورفاهية.'

قبضت إيروني على طرف ملابسها بإحكام، تمامًا كما كانت تفعل ديفي بارات في الماضي، وصرّت على أسنانها حتى صدرت منها أصوات احتكاك.

بعد أن دفنت اللصوص دفنًا بسيطًا باستخدام الأعشاب والأغصان، انطلقت إيروني للبحث عن إيسيدور راينر.

لقد رأت في رؤيتها اسم المدينة التي يقيم فيها، لكنها لم تكن معتادة على السفر، ولذا لم يكن العثور على الطريق أمرًا سهلًا عليها. وحتى مجرد المشي في الطريق كان أكثر صعوبة. كل ما قابلته على الطريق كان خطرًا، وقطع الطريق نفسه كان معاناة.

ومع تعوّدها تدريجيًا على الرحلة، صار مظهرها أكثر بؤسًا يومًا بعد يوم، حتى صارت في النهاية تبدو كمتسولة شبه عارية بعد سلسلة من المشقات.

وهكذا… أخيرًا، عثرت على إيسيدور راينر.

"لـ… لست أكذب! أقسم بفيستا! الملكة حاولت رشوتي لتزوير سجلات الأدوية!"

صرخ إيسيدور راينر وهو يرتجف رعبًا. في تلك اللحظة… لم تكن إيروني هي إيروني المعتادة. كانت عيناها الزرقاوان تشعّان نورًا، والزينة الطويلة المخبأة تحت ملابسها كانت بدورها تبعث ضوءًا.

كان إيسيدور راينر يواجه وجودًا لا يمكن لإنسان أن يتحمله، وقد استولى الخوف على عقله بالكامل. بدأ يصرخ، والعرق يتصبب من جسده.

"لم يستمع أحد لكلامي! اتهموني بأني أقول ذلك لأني من أتباع الملكة ريجينا! كنت مظلومًا! لستُ كاذبًا… لقد قلت الحقيقة فقط!"

كان يتحدث وكأنه مظلوم، مدّعيًا أنه رفع صوته فقط ليثبت براءته.

"لم أصنع دواءً لأؤذي أحدًا. لكن……. لكن، هناك من يعملون في الظلام."

"كنتَ تثرثر بالكثير في ذلك الوقت… ومع ذلك أخفيتَ الحقيقة الأهم. بصمتك… سمحت للكذب بأن يحلّ محل الحقيقة. أليس كذلك؟"

"لا! لقد كنت خائفًا منهم فقط! مجرد ذكر اسمهم كان…"

قال إن ذلك كان بمنزلة دعوة للموت. بدا أن إيسيدور راينر يعرف شيئًا مهمًا، لكنه لم يجرؤ على كشفه طوال تلك الفترة خوفًا من أمرٍ ما.

لكن الشخص الذي كان يطرح عليه الأسئلة الآن… لم يكن إنسانًا عاديًا. قال الاسم… وظهر الاسم ثانية على ساعد إيروني مكتوبًا.

***

استيقظت إيروني مذعورة، فإذا بها تحدّق في نار الموقد. يبدو أنها غفت دون أن تشعر لأنها كانت مستلقية أمام النار تستدفئ بها. ومن خلال النافذة، ظهر لها ضوء الفجر الباهت. شربت إيروني كل ما تبقى من العصيدة، ثم وقفت.

بعد ذلك، دفعت الحطب الذي ما زال يحمل بعض الجمر المتقد إلى الجانب، وبدأت تحفر الأرض.

لم يكن هذا العمل جديدًا عليها، فقد قامت به عدة مرات وأصبحت أكثر مهارة فيه. كان من شبه المستحيل أن تحفر الأرض المتجمدة بقوتها وحدها. لذا كانت تذيب التربة أولًا باستخدام نار الموقد، ثم تبدأ بالحفر. وحين حفرت مسافة تعادل شبرين بطول يدها، مشت مبتعدة.

هناك… كان يرقد زوجان شابان، يبدوان صاحبي المزرعة، ومعهما طفلاهما الاثنان، وقد ماتوا جميعًا. كانت أعناق الأربعـة ممزقة، لكن حتى إيروني أدركت أن ما حدث لم يكن من فعل الذئاب.

جرّت الجثامين المتجمدة ببطء، ووضعتها في الحفرة متجاورين، ثم غطّتهم بطبقة سميكة من التراب.

'هذا مقابل أنهم أطعَموني وأوَوْني ليلة واحدة. انسوا آلام هذا العالم، وارتاحوا بسلام.'

بعد أن رفعت صلاة قصيرة لأجل هذه العائلة المنكوبة التي ماتت بشكل مأساوي، بدأت إيروني السير مجددًا في هواء الصباح البارد.

'كال فانس.'

صيدلي يعمل في العالم السفلي، له علاقة بقضية تسميم ولي العهد. ذلك كان الاسم المكتوب على ساعدها.

لم يتساقط الثلج في ذلك اليوم، ولم تهب الرياح، فكان الجو مناسبًا للمشي. وجدت طريقًا مريحًا نسبيًا وسارت فيه، لكن فجأة، سمعت صراخًا خلفها ورأت رجلًا قادمًا بسرعة على صهوة حصان. بدا وكأنه فارس من مكان ما، فقد كان يرتدي درعًا كاملًا، ممسكًا باللجام بيده اليسرى، وبحربة طويلة بيده اليمنى.

"توقّفي، إنه خطر! أيتها الأميرة الجميلة، توقّفي!"

ارتجفت إيروني من الذعر وكأن قلبها سيتوقف، فتنحّت بسرعة إلى جانب الطريق.

'لا يمكن… هل يعرفني…؟'

وبينما كانت تقف مترددة، غير مصدّقة أنها سمعت فعلاً كلمة أميرة منه، كان قد اقترب منها حتى أصبح أمامها مباشرة.

"لا يجب أن تسيري في ذلك الطريق! هناك جبناء مختبئون داخل جورب العملاق الصامت! هيجــا!"

ركل بقدميه جانبي حصانه فانطلق بأقصى سرعة نحو شجرة الصفصاف الواقفة على جانب الطريق، ثم بدأ يطعن الأغصان المتدلية برمحه عدة مرات. وبعدها قفز من على الحصان، وألقى بالرمح جانبًا، ثم سحب سيفًا طويلًا.

"أيها الفئران الحقيرة! موتوا!"

تساءلت إيروني بقلق إن كان هناك شيء غير مرئي يختبئ تحت ظل الشجرة، فتركت الطريق بحذر واختبأت.

لكن مهما دققت النظر، لم يكن هناك أي روح أو شبح أو كائن غير مرئي.

رغم ذلك، ظل الفارس يصرخ وهو يخوض معركة شرسة مع أغصان الشجرة المغطاة بالثلج.

'إنه غير عاقل تمامًا…'

خرجت إيروني من مخبئها، ومضت بحذر متجاوزة إياه. كان عليها الإسراع في الطريق إن كانت تريد إيجاد مكان تستريح فيه قبل أن تميل الشمس للغروب.

لكن حينها، دوّى ذلك الصوت مجددًا خلفها بقوة.

"توقّفي، يا أميرة!"

ومع سماعها وقع حوافر الحصان المسرعة يقترب من خلفها، زفرت إيروني تنهيدة طويلة.

----------------

أتساءل مين اللي يتحكم في جسدها 🤔

2025/12/04 · 55 مشاهدة · 1701 كلمة
queeniie377
نادي الروايات - 2025