كان أسيل غارقًا في ظلامٍ دافئ كما لو أنه يطفو في بحرٍ لا قاع له بصوت خافت كهمس الريح تردد في أذنيه ثم بدأت الأضواء تتراقص أمام عينيه كما لو أن النجوم قد سقطت من السماء لتلتف حوله

وجد نفسه واقفًا في قاعة شاسعة ذات أعمدة سوداء شاهقة تمتد بلا نهاية وأرضية عاكسة كأنها مرآة تعكس السماء الداكنة أعلاها في وسط القاعة كان هناك عرشٌ مهيب بسيط في تصميمه لكنه يحمل رهبة لا يمكن تجاهلها

وعلى العرش جلس رجلٌ لم يكن يبدو أكبر منه بكثير شعره الأسود يتلألأ كما لو كان يعكس ضوءًا غير مرئي وعيناه ذهبيتان تتألقان ببريق غامض كان يرتدي رداءً فضيًا مُطرزًا بخيوط سوداء وابتسامته تحمل شيئًا لا يمكن فهمه كأنه يرى العالم بأسره كمسرحية مسلية لا أكثر

لكن أسيل لم يكن محور هذا اللقاء

كان يقف بجانب رجلٍ يعرفه جيدًا الدوق البريش الذي بدا أكثر جدية من المعتاد بل وأكثر غموضًا

"آه إذن لقد وصلت في النهاية ~~" قال الإمبراطور بصوت ناعم كأنه يتحدث إلى صديق قديم "كنت أتوقعك ولكن ليس بهذا التوقيت تحديدًا"

الدوق البريش لم يرد فورًا فقط نظر إلى الإمبراطور بنظرة ثابتة قبل أن يبدأ بالتحدث بصوت خافت منخفض لدرجة أن أسيل لم يستطع سماعه

حاول التركيز شد أذنيه لالتقاط الكلمات لكن الصوت بدا كأنه يتلاشى كلما اقترب منه وكأن الهواء نفسه يمنعه من الفهم

الإمبراطور ضحك بخفة وكأن الحديث لا يحمل أي أهمية بالنسبة له لكنه رغم ذلك لم يوقف الدوق عن الحديث

أسيل شعر بشيء غريب كأن ما يُقال كان يحمل وزنًا عظيمًا سرًا لا ينبغي له أن يسمعه بعد قلبه كان ينبض بقوة، شعورٌ بالرهبة بدأ يتسلل إلى داخله دون سبب واضح

فجأة التفت الإمبراطور للحظة وجيزة نحو أسيل لكن لم يقل شيئًا مجرد نظرة واحدة ثم عاد للحديث مع الدوق البريش

أراد أسيل أن يتحرك أن يسأل لكن شعورًا غريبًا منعه كأن قدميه قد تجمدتا في مكانهما لم يكن هذا لقاءً يخصه

ثم فجأة شعر بدفعة غير مرئية تسحبه إلى الخلف

شهق وسقط... سقط في الظلام مرة أخرى والأصوات تتلاشى حتى لم يبقَ شيء

ثم... فتح عينيه

كان في سريره

شعره الأشعث كان يغطي جزءًا من وجهه وغطاؤه كان مرميًا نصفه على الأرض بينما ضوء الصباح الخافت يتسلل من بين الستائر الثقيلة

تنفس بعمق متوترًا بينما يحاول تذكر التفاصيل بوضوح كان الحلم يبدو حقيقيًا لدرجة مخيفة

كان الحلم لا يزال عالقًا في ذهن أسيل عندما فتح عينيه ببطء على نور الصباح المتسلل من النافذة تلاشت بقايا الحلم الغامض لكنه لم ينسَ الإحساس الذي تركه فيه

رفع نفسه قليلًا في السرير شعر بالدفء والراحة بعد ليلة طويلة لكنه لم يتحدث عن الأمر قرر أن يحتفظ به لنفسه فهو لم يكن متأكدًا مما يعنيه

بعد أن غيّر ملابسه غادر غرفته وسار عبر الممرات الواسعة متجهًا نحو قاعة الطعام عندما دخل وجد آثر جالسًا في مكانه المعتاد يتناول طعامه بهدوء دون اهتمام كبير بما يجري حوله أما لوكريسيا فكانت تشرب شايها بنعومة وعندما رأت أسيل يقترب ابتسمت قائلة بلطف

"أنت مستيقظ أخيرًا كنا سنرسل أحدًا لإيقاظك إن تأخرت أكثر"

ابتسم أسيل بلطف قبل أن يجلس في مقعده المخصص ثم بدأ في تناول طعامه بصمت متجاهلًا القلق الذي لا يزال يراوده من حلمه

في تلك اللحظة دخل الدوق البريش يرافقه سكرتيره الخاص الذي كان يحمل معه وثائق عدة كان الدوق يبدو منشغلًا تمامًا حتى وهو يجلس لم يتوقف السكرتير عن تقديم الأوراق له مشيرًا إلى عدة أمور مهمة

لوكريسيا علّقت بنبرة مازحة

"هل أنت متأكد أنك لم تُصبح جزءًا من مكتب الإدارة بدلاً من أن تكون الدوق؟"

رفع الدوق عينيه نحوها لبرهة قبل أن يجيب ببرود

"لو كان ذلك ممكنًا لكان الإمبراطور قد فعلها منذ زمن"

ضحك أسيل بخفة على تعليقاتهما مما جعل الأجواء أكثر راحة، ورغم انشغال الدوق إلا أن الجو في القاعة كان لطيفًا حتى الخدم الذين كانوا يقدمون الطعام لم يستطيعوا منع أنفسهم من الابتسام بلطف عندما سمعوا ضحكات أسيل

آثر رغم أنه لم يُبدِ اهتمامًا كبيرًا بكل ما يجري إلا أنه لم يعترض على أجواء الفطور المريحة بقي يتناول طعامه بصمت بينما كانت لوكريسيا تواصل إلقاء التعليقات الخفيفة هنا وهناك تجعل الجو أكثر دفئًا

أسيل استمتع بتناول طعامه وسط هذه الأجواء العائلية ورغم أنه لا يزال يشعر بغموض حلمه إلا أن لحظات مثل هذه جعلته ينسى كل شيء آخر على الأقل للحظة

بعد انتهاء الفطور نهض الدوق البريش بسرعة وأشار إلى سكرتيره الذي تبعه خارج القاعة متجهًا إلى مكتبه دون أن يمنح نفسه لحظة راحة

لوكريسيا تنهدت بخفة وهي تراقب زوجها يغادر، ثم نظرت إلى أسيل قائلة

"يبدو أن عمله لا ينتهي أبدًا"

آثر لم يعلّق فقط واصل شرب شايه بهدوء أما أسيل فنهض من مكانه وابتسم لوالدته

"أريد أن أتمشى قليلًا في الحديقة الجو يبدو جميلًا اليوم"

أومأت لوكريسيا برضا

"فكرة جيدة لكن لا تبقى بالخارج طويلاً"

خرج أسيل من القاعة متجهًا إلى الحديقة حيث استقبلته نسمات الهواء العليلة بينما كان أسيل يخطو في الحديقة لمح والدته لوكريسيا جالسة على كرسي في الحديقة تتحدث مع شخص يرتدي رداء أسود وعليه علامة غراب احمر

كان هذا الشخص معروفًا بالنسبة له فقد رآه كثيرًا يعمل مع والدته ولكنه كان دائمًا يثير في نفسه شعورًا غريبًا كان يبدو مخيفًا وغالبًا ما يتجنب أسيل الاقتراب منه كان حضور هذا الرجل في الحديقة يعكس نوعًا من الغموض والمخاطر التي يفضل الابتعاد عنها

رغم أن أسيل كان يراه بشكل متكرر إلا أنه لا يستطيع تجاهل الشعور القوي بعدم الارتياح الذي يراوده كلما تواجد هذا الرجل قرر أن يواصل سيره في الحديقة حتى وصل إلى ساحة التدريب

حيث كان آثر يتدرب هناك يقارع الفرسان الكبار بكل براعة وكأن قوته تفوقهم جميعًا كان يتنقل بين الحركات بسرعة وكفاءة يراوغهم بسهولة في كل هجوم بينما يرد بهجمات قاضية بدقة متناهية كان آثر دائمًا متفوقًا في القتال فمهاراته لم تكن مجرد تدريب بل هي طبيعة فيه تمامًا كما كان الإمبراطور الأول في حياته السابقة

أسيل وقف يشاهد عن كثب معجبًا بكيفية سيطرة آثر على الموقف كان آثر يتمتع بقوة بدنية هائلة ولكن ما كان يدهشه أكثر هو قدرته على التفكير السريع واتخاذ القرار الصحيح في لحظة التوتر كان كل ضرب وكل مناورة

يخرج منها وكأنها جزء من خطة محكمة مسبقًا

أسيل كان يعلم أن آثر لا يتوقف أبدًا عن التدريب وكان يشعر بفخر كبير تجاهه رغم أن آثر لم يكن يظهر أي اهتمام بما حوله أثناء تدريبه

به كان يركز بالكامل على المعركة الوهمية التي يقاتلها مع كل فارس وكأنه في مواجهة مع اعداءه

2025/03/29 · 114 مشاهدة · 1006 كلمة
Jeon
نادي الروايات - 2025