الفصل 12: بين أنياب الوحوش [2]
على بُعد كيلومتر واحد فقط، حيث تلتقي السهول بالغابة الشمالية، توقّفت مجموعة الفرسان فجأة. كانت خيولهم تشهق، وأبصارهم معقودة على الجدار الأخضر الكثيف الممتد أمامهم. لم تكن مجرد أشجار، بل كانت حائطاً صامتاً، معضلة ضخمة تنتظر أن تبتلعهم في جوفها المظلم.
قال البارون لورين بنبرة متحفّزة وهو يوجّه نظره إلى جيمس والبقية:
"حسنًا… لنكن على حذر. لا نعرف مَن ينتظرنا هناك."
كان صوته المتحفّز يحمل نبرة جادة وحاسمة، فأومأ جيمس إقراراً. تحرّكوا نحو حافة الغابة بخطواتٍ محسوبة، مزيجٍ متوازن من العجلة التي يفرضها الهدف، والحيطة التي يفرضها المجهول. وما إن لامست سنابك خيولهم أطراف العشب الأخير، حتى ترجّلوا في آنٍ واحد، وتركوا الحيوانات خلفهم لتبدأ رحلة التوغل بين جذوع الأشجار العملاقة.
كانت الغابة خضراء، حيّة، وجميلة لدرجةٍ تخطف الأنفاس؛ ملاذٌ هادئ تظلله الأغصان المتشابكة التي حجبت السماء عن الأنظار. لكن خلف هذا الجمال الأخّاذ، كانت تنبض الحياة بوعدٍ آخر؛ جحيمٌ مستتر لا تكشف ناره عن نفسها إلا لمن يجرؤ على الاقتراب أكثر... والاختفاء في أعماقها.
خطوا خطواتهم الأولى ببطء مدروس، تزداد عزلتهم وعمق توغلهم مع كل متر يبتعدون فيه عن نور السهل المفتوح. فجأة، وبلا سابق إنذار، لمح البارون والفرسان ظل جيمس يمر أمامهم بسرعة خاطفة، يكاد يمزق سكون الغابة ويقطع الهواء.
تجمد لورين في مكانه لثانية قبل أن يصرخ بغضب مكبوت وقلق ظاهر:
"جيمس! ماذا تفعل؟ التوغّل بهذه الطريقة المتهورة خطر!"
لكن جيمس لم يتوقف أو يلتفت، ولوّح بيده خلفه بلهفة لم يعهدوها فيه، قائلاً بصوت سريع ومستعجل:
"اتبعوني… حالًا!"
لم يجد الفرسان خيارًا آخر سوى الانصياع. اندفعوا خلفه بقلوبٍ متوجسة، فاخترق روبين الصفوف واقترب من جيمس وهو يركض إلى جواره بصعوبة:
"جيمس! ما الذي يحدث؟ لماذا تسرع هكذا؟ هذا جنون مطبق!"
أجاب جيمس دون أن يبطئ خطوته، وعيناه مثبتتان على عمق الظلام المتزايد بين الجذوع المتشابكة:
"لقد استشعرت وجود وحوش أمامنا… شيء ضخم يتحرّك هناك."
انكمشَت ملامح روبين والبقية في اللحظة التي نطق فيها جيمس بكلمة "وحوش". لم يكن روبين وحده؛ فبقية الفرسان لم يشعروا بأي شيء على الإطلاق... لا اهتزاز خافت، لا أصوات غريبة، ولا حتى طاقة عدائية كامنة. كان بإمكانهم أن يتقبّلوا بصعوبة أن حواس جيمس ربما كانت أرهف وأقوى من حواسهم مجتمعة، لكن ما لم يستطيعوا فهمه بحق هو لماذا يندفع نحو الخطر المحتوم بهذه السرعة الجنونية؟
ترددت الفكرة نفسها، كصدى بارد، في عقولهم جميعًا بينما يهرعون خلفه: "هذا الرجل مجنون حقًا." ومع ذلك، اتبعوه دون نقاش.
بعد دقائق مرهقة من الاندفاع الأعمى بين الأشجار المتشابكة، توقّف جيمس فجأة. قفز بخفة فوق أحد فروع الأشجار الضخمة، يستند بيده إلى الجذع بينما يحدّق أسفل منه بعينين ضيّقتين ومتركّزتين. لحق به كايزر وروبين وتمركز كل منهما إلى يساره، بينما ظهر فيليكس وفيليب والبارون لورين على شجرة مقابلة إلى يمينه. نظر الجميع معاً إلى المشهد الذي جَمُدَت له أنفاسهم في صدورهم.
كانت الغيلان الملتفّة في الأسفل ضخمة الأجساد، جلودها سميكة بلونٍ أخضر داكن، وكأنها صخور حيّة مغطّاة بطحالب قديمة. أذرعها طويلة بشكل غير متناسب، تتدلّى حتى ركبتيها تقريباً، وتحمل في قبضاتها عصيًّا حديدية ملتوية وثقيلة؛ أسلحة لم تُخلق للقتال المتأنق، بل للتهشيم وسحق العظام. كانت وجوهها مشوّهة ببراعة قبيحة؛ عيونٌ صفراء متّقدة بنار شريرة، وأنياب حادّة وبارزة تلمع في الظل، وأنفاسٌ مشقوقة تُصدر زمجرة منخفضة ومتواصلة تهزّ الأرض تحت أقدامها. وكان كل غولٍ منها لا يقلّ ارتفاعه عن ثلاثة أمتار مرعبة.
لكن وسط ذلك الجمع الوحشي المرصوص… كان هناك غول واحد يفرض وجوده كجبل راسخ ينتصب فوق البقية. كان ضخماً إلى حدٍ مأساوي ومخيف، وعرض كتفيه وحده كان كافياً لزرع الرعب القاتل في قلب أي فارس مهما بلغت شجاعته. كان يقترب طوله من العشرة أقدام، وجسده مكسوّ بلون أخضر داكن أشد قتامة، وعضلاته تتكتل تحت الجلد السميك كأنها حبال مشدودة على وشك أن تنفجر قوة.
كان وجهه أكثر وحشية وبشاعة من باقي الغيلان: عيون حمراء تشتعل كالجمر، قرنان قصيران وحادان يبرزان من أعلى رأسه العظيم، وفكٌّ سفلي ثقيل يلمع بين أنيابه الطويلة الحادّة. أما العصا الحديدية التي يحملها… فلم تكن مجرد سلاح، بل كانت كتلة معدنية ضخمة بحجم جذع شجرة بلوط، يكفي أن يلوّح بها مرة واحدة ليحوّل ثلاثة رجال في دروعهم الكاملة إلى أشلاء ممزقة.
تجمّد البارون لورين مكانه فوق الفرع، يتمتم بخوفٍ لم يستطع إخفاءه، وعيناه معلقتان على الغول الجاثم في الأسفل: "ماذا… ماذا يفعل وحش من المستوى التاسع هنا؟!"
لم يكن السؤال موجّهًا لأحد بعينه، بل كان صرخة عجزٍ في وجه المنطق. الجميع كان مذهولًا ومصدوماً بالقدر نفسه.
كانت الوحوش تُقسّم إلى ثلاث مراحل رئيسية:
الوحوش العادية — مقسّمة إلى 9 مستويات، والمستوى التاسع منها يعادل قوة فارس منخفض المرتبة.
الوحوش الأرضية — وحوش أكثر شراسة وذكاءً، مقسّمة أيضًا إلى 9 مستويات، والمستوى التاسع منها يساوي قوة فارس متوسط المرتبة ومحنك.
والذي يقف أمامهم الآن… لم يكن مجرد وحشٍ عادي. بل كان وحشًا أرضيًّا من المستوى التاسع . جاثمًا بكل ثقله وسط غابة كان يُفترض أنها خالية من تهديدات بهذا المستوى الكارثي. وإلى جانبه، كانت عدة وحوش من المستوى التاسع العادي، تُصدر زمجرة بطيئة كأنها طبول حرب قديمة.