الفصل 4: القدر يجبرني على الجنون

بدأ جيمس يستعيد وعيه ببطء متناهٍ، عائداً من براثن الموت الباردة. ثقل الغيبوبة كان ينسحب من جسده المثقل، وشعر بروحه تُعاد إليه قسراً. فتح عينيه بصعوبة بالغة، متلمساً خيوط الواقع الهشة.

بعد لحظات من التحديق في الفراغ، دفع جسده المنهك لينهض ببطء شديد، جالساً على حافة سريرٍ بدا وكأنه طوق النجاة الأخير.

لم يكد يرفع رأسه حتى فاجأه مشهدٌ هزّ كيانه؛ الشابة كانت هناك، تحتضنه بقوة يائسة، ودموعها تنهمر كشلالٍ حارق.

تجمد جيمس في مكانه للحظة، غارقاً في بحرٍ من التساؤلات، لكن غريزته قادته لمبادلتها العناق بتلقائية، باحثاً عن مرساةٍ في خضم هذا الطوفان العاطفي.

فجأة، انفصلت عنه وقبلته قبلةً شديدة على شفتيه. رغم صدمته العارمة من الموقف، لم يمنعها، بل شاركها القبلة بشغف، امتزجت ألسنتهم في فمهم.

أمسك شعرها وبدأ يقبلها مرة أخرى، ناسياً تماماً أنه قبل قليل كان يواجه الموت بعينيه.

"أبي، هل أنت بخير؟"

تكلم الفتى الصغير فجأة وهو ينظر إلى الأرض بخجل ويمسك قميصه بقوة، ويديه ترتعشان من الخوف والقلق.

ما إن سمع جيمس والشابة كلام الفتى حتى افترقا بسرعة، وغمر كليهما إحراج شديد، وصار كل واحد منهما ينظر إلى جهة مختلفة.

بعد لحظات، نهض جيمس وشعر أن جسمه مليء بالقوة والطاقة الجديدة، واتجه نحو الفتى وحمله وقبّله على خديه. عانقه الفتى بقوة وهو يصرخ ويبكي فرحاً، وأمسك بشعر جيمس الأبيض كأنه إذا أفلت قبضته لن يرجع والده مرة أخرى.

____

وجد جيمس نفسه حبيس جسدٍ آخر في عالمٍ جديد كلياً، عالمٌ تسري أيامه بسرعةٍ مخيفة، سرعان ما بدأت ذكريات صاحبه الأصلي تلتئم في عقله، كاشفةً له خفايا "أثينا" .

اكتشف جيمس أن اسم صاحب الجسد هو جيمس روهان نفس اسمه السابق، يعيش في مملكة لورينيا، وتحديداً في مدينة لورانس، داخل قرية متهالكة لا تكاد تقاوم الزمن.

حياته كانت بسيطة وقاسية، محاطاً بزوجته رونا فيلين وابنيه جين ورين، يعيشون في فقرٍ مدقع ومنزلٍ آيل للسقوط.

هذا الواقع المرير كان نقيضاً صارخاً للحياة التي ألفها في عالمه السابق؛ عالماً كان يظنه قاسياً.

لكن القوانين هنا كانت أكثر وحشية ووضوحاً، مرعبةً لدرجة جعلت واقعه السابق يبدو كـ"جنة" واهية أمام هذا الجحيم المستعر.

في " أثينا " ، هذا العالم الساحر بقدر ما هو مرعب، لا مكان للضعف؛ إنه محيطٌ متلاطمٌ من القوة الغاشمة.

المفهوم الأساسي للحياة هنا ليس التعايش، بل البقاء للأقوى، قانونٌ طبيعيٌ صارمٌ يُملي المصائر بلا رحمة.

إذا كنت قوياً، ستعيش حياةً رغيدة، تغمرك بحار الاحترام وتفيض عليك كنوز الغنى.

أما إذا كنت ضعيفاً، فمصيرك محتوم: إما الموت جوعاً كالحيوانات الهزيلة، أو أن تتحول إلى مجرد وقودٍ رخيصٍ يغذي نيران حروب الآخرين التي لا تنتهي.

إنه عالمٌ يرفع الأقوياء إلى مصاف الآلهة ويسحق الضعفاء تحت أقدامهم.

تنتشر في "أثينا" قوى السحر الغامضة كالهواء الذي يتنفسه الجميع. السحرة المهرة يستخدمون معرفتهم العميقة لاستخلاص طاقة "المانا" المتلألئة من الجو، ينسجون منها تعاويذ مدمرة تخلع القلوب وتغير مجرى المعارك.

وفي المقابل، يجوب فرسانٌ أقوياء الأرض، يتقنون فنون طاقة "الكي" الداخلية، محولين أجسادهم إلى أسلحة فتاكة قادرة على شق الجبال.

هذا العالم ليس موحداً، بل هو فسيفساء من الممالك والنبلاء المتناحرين في صراعٍ دائمٍ ومحموم للهيمنة والتوسع.

تتسابق الفصائل المختلفة نحو القوة المطلقة، تتصارع على كل شبر من الأرض، ولا يكترث أحدٌ البتة للضعفاء الذين يسكنون الأراضي المتنازع عليها، والذين لا حول لهم ولا قوة أمام هذه العواصف السياسية والعسكرية.

كان جيمس، في جسده الجديد هذا، مجرد واحد من هؤلاء الضعفاء؛ ورقةٌ تتقاذفها الرياح العاتية في عالمٍ لا يعرف الرحمة.

لم يكن يملك القوة السحرية ولا فنون القتال، بل كان مجرد شاهدٍ على واقعٍ قاسٍ يجب عليه إما أن يتكيف معه بسرعة جنونية أو يواجه نهايته المحتومة.

في هذا العالم الذي لا يعرف معنى الرحمة، أدرك جيمس الحقيقة المرة: البقاء امتيازٌ يُكتسب بالدم والعرق.

عليه أن يقاتل، ليس فقط من أجل بقائه الشخصي ككائنٍ حي، بل من أجل عائلته الجديدة التي بدأت تزرع في قلبه شعوراً غريباً ومثقلاً بالمسؤولية.

لقد أصبحوا رباطه الوحيد بالبشرية في هذا المكان المقفر.

القوة ، أدركها جيمس كحقيقة ساطعة كالشمس، هي العملة الوحيدة المقبولة هنا؛ هي مفتاح العيش الكريم، ودرع الحماية، وطوق النجاة.

لا مجال للتساهل أو التردد.

عليه أن يجمعها بأي ثمن، أن يكدسها حتى لو اضطر للسير فوق الجثث، لأن مصيره ومصير عائلته الجديدة معلقٌ بخيط رفيع من قوته المكتسبة.

أدرك جيمس فجأة أن لديه "قدرة الغش". كلمة "نظام" التي سمعها تتردد في رأسه لم تكن مجرد صدفة؛ لقد كانت تذكرة عبورٍ إلى القوة، أداة غش كلاسيكية تمنح لشخصٍ ينتقل إلى جسدٍ ضعيف لتمكنه من تحدي قوانين هذا العالم الوحشية.

ومع ذلك، سرعان ما تبددت نشوة هذا الاكتشاف. أدرك جيمس أيضاً أن هذا النظام ليس بسيطاً أو مباشراً كما قد توحي به الكلمة.

إنه غامضٌ جداً، صندوق مغلق بإحكام. كان الوعد بالقوة قائماً، لكن كيفية استخدامه أو حتى تنشيطه ظلت سراً مغلَقاً.

2025/12/08 · 75 مشاهدة · 745 كلمة
Moncef_
نادي الروايات - 2025