في اللحظة التي دخل فيها كايل ونساء القرية، شعر بأنه مُراقَب من كل جهة.
رغم أن الجنود في الحراسة تأكدوا من هويته كشخص حر، وتم التأكيد أن هؤلاء النساء كنّ مختطفات، إلا أن هذا لم يمنعهم من مراقبته عن كثب.
ومع كل ذلك، لم يشعر كايل بأي توتر. في نهاية المطاف، هو شخص طيب، أنقذ هؤلاء النساء من الاستعباد على يد العفاريت، وأحضرهن ليتم إنقاذهن على يد معبد الحياة.
بينما كان كايل يسير خلف الحارس الذي يرشدهم نحو المعبد، لاحظ أن أجواء القرية كانت مختلفة تمامًا عمّا تخيله.
الهواء كان منعشًا تفوح منه رائحة الأزهار البرية، والأرض مكسوّة بعشب أخضر يلمع تحت أشعة الشمس الذهبية.
كانت البيوت مبنية من الحجارة البيضاء والخشب، وتغطيها نباتات متسلقة بأزهار زاهية الألوان، تعطي إحساسًا بالحياة والنقاء، وكأن القرية نُسجت من روح الطبيعة نفسها.
لكن، رغم الجمال الطبيعي الذي يحيط به، شعر كايل بنظرات تتسلل إليه من كل زاوية.
كل من مرّ بهم في الطريق كان يراقبه، رجالًا ونساءً، شيوخًا وشبانًا. ورغم أن ملامحهم بدت ودودة وعادية، إلا أن عيني كايل الحادتين، و"عين التقييم" خاصته، لم تخطئ الحقيقة.
فعّل تقييمه بهدوء، ونظر إلى أول رجل مرّ به:
[الاسم:أ
المهنة:محارب
رتبة:برنزي ذروة]
ثم إلى شابة كانت تحمل سلة من الأعشاب:
[الاسم:ب
المهنة:ساحرة
رتبة:برنزي ذروة]
كانت كل تقييماته مشابهة. كلهم محاربون أو سحرة، رجالًا ونساءً، حتى أولئك الذين يبدون كفلاحين أو بائعين.
تمتم كايل لنفسه، والحذر يلمع في عينيه:
"هل كل سكان هذه القرية... جيش؟"
و هنا يظهر سؤل جديد لماذا ؟
لكن كايل يسير بمادء ابتعد عن مشكل قدر الإمكان.
لم يستغرق امر وقت طويل لي وصول الي معبد الحياة الذي يقف شامخًا في قلب القرية، كالجوهرة التي تحيط بها الطبيعة من كل جانب.
جدرانه من الحجر الأملس المغطى بطبقة بيضاء نقية تعكس أشعة الشمس حتى بدت وكأنها تشع نورًا خاصًا بها.
تسلقَت الجدرانَ نباتاتٌ خضراء داكنة الأوراق، تتخللها أزهار صغيرة بلون الزمرد والذهب، كأن الطبيعة نفسها أرادت تزيينه.
أمام المعبد، وُجد بئرٌ قديم محاط بحلقة حجرية، يتدلى فوقه حبل غليظ مربوط بدلو خشبي مصقول بعناية. كان الماء في داخله صافياً كالكريستال، يعكس السماء الزرقاء وكأنه مرآة سماوية.
وعلى طول الدرجات العريضة المؤدية إلى البوابة، انتصبت أعمدة رخامية منحوتة برموز غامضة تمثل أشجارًا، طيورًا، وتنانين مائية، كلها متشابكة في مشهد يوحي بدورة الحياة والموت.
البوابة نفسها كانت من خشب داكن محفور بدقة، تزينه زخارف لأزهار اللوتس، وفي وسطها رُسمت صورة أنثى ذات أجنحة مكوّنة من أوراق الأشجار، يعلو رأسها تاج من أغصان متشابكة.
رغم الجمال الساحر، شعر كايل ببرودة غريبة تتسلل من بين الشقوق، وكأن هذا المكان، اكثر قدسية في عالم.
انحنى الحارس الذي كان يرشد كايل والنساء، وحتى هؤلاء النساء اللواتي كنّ أشبه بجثث تمشي بلا حياة، خفّضن رؤوسهن كما لو أن شيئًا ما يدفعهن لإظهار الاحترام.
لاحظ كايل ذلك بسرعة، فتجوّلت عيناه يمنة ويسرة، ليكتشف أن كل من يقترب من معبد الحياة ينحني، حتى هو نفسه شعر بإحساس قوي يدعوه للانحناء وتبجيل المعبد.
لكن بفضل سماته "المقاومة" و"ضد القدر" تطهّر من هذا الإحساس في لحظة، وكأن تيارًا باردًا جرى في عروقه، فاختفى الشعور.
تمتم في نفسه، وعيناه تضيقان:
"ماذا يحدث هنا؟ هل يمكن أن يكون لهذا المعبد قدرة على التأثير في العقول؟"
كان سريع البديهة، فخفض رأسه على الفور حتى لا يُكشف أمره وسط الحشد. ومع ذلك، فإن هذا الاكتشاف جعله يفهم شيئًا جديدًا:
"الحاكم… يبدو أنهم ليسوا كما كنت أعتقد."
في علم النفس و السيطرة على العقول، يمكن لتأثير بسيط أن يكون حجر الأساس لتغيير كل شيء، ويبدو أن هذا بالضبط ما يحدث هنا.
بينما كان كايل غارقًا في أفكاره، شعر بنظرة ثقيلة تسقط عليه، نظرة حادة تخترق أعماقه وتحاول كشف أسراره واحدًا تلو الآخر. لم يستطع رفع رأسه ليرى صاحب هذه النظرة، لكنه استنتج فورًا أنها من حاكمة الحياة نفسها.
في النهاية، وبفضل سمة "ضد القدر"، كان محميًا من كل شيء… حتى من الحاكم. قد تكون هذه نعمة، لكنها في الوقت نفسه خطر، فهو أشبه بعنصر غريب دخل نطاق حاكمة الحياة.
لم تستمر النظرة طويلًا، لكنها في إحساسه بدت وكأنها سنوات مرت تحت ذلك الثقل المهيب.
وبينما تتسارع الأفكار في ذهنه، سمع صوتًا هادئًا، ناعمًا كنسيم بارد يمر على وجهه:
ـ "أهلًا أيها الشاب."
رفع كايل رأسه ببطء، فإذا أمامه راهب عجوز، شعره أبيض كالثلج ووجهه مغطى بالتجاعيد. كان يرتدي ملابس بسيطة لكنها بيضاء نقية، وفي يده كتاب قديم ذو غلاف جلدي، ابتسامته لطيفة لكن عينيه تحملان شيئًا أعمق.
ومع أن مظهره يوحي بالطمأنينة، لم ينخدع كايل به. ومع ذلك، أجاب بهدوء:
ـ "مرحبًا، سيدي."
لم يحيّه بأسلوب النبلاء، بل اكتفى بانحناءة بسيطة تدل على الاحترام دون مبالغة.
ضحك العجوز بخفة، وكانت ضحكته دافئة لكن تحمل في طياتها خبرة طويلة:
ـ "ههه، شباب هذه الأيام… ما زالوا مهذبين."
ثم سأل وهو يراقبه:
ـ "ما اسمك، أيها الشاب؟"
ـ "كايل، اسمي كايل يا سيدي."
ظل كايل منحنياً قليلًا.
ـ "اسم جميل. أنا أسقف هذا المعبد، وقد أبلغني الحارس عن أمرك. لكن أتمنى أن تخبرني بقصتك ونحن نسير."
ـ "نعم، سيدي."
هكذا تحرك كايل مع الراهب العجوز والنساء نحو بوابة المعبد. وفي الطريق، بدأ كايل يسرد بإيجاز كيف مرَّ بقرية العفاريت، حيث أراد اختبار قوته هناك، وكيف اكتشف النساء واستعمل ماءً مقدسًا مخففًا لعلاجهن.
رأى الدهشة ترتسم على وجه العجوز في البداية، لكنها سرعان ما تحولت إلى جدية. لاحظ كايل ذلك، لكنه لم يتكلم، ولم يجرؤ على استخدام "التقييم" خوفًا من أن يُكتشف أو يُستشعر.
قال العجوز بصوت عميق:
ـ "يبدو أن السيد كايل موهوب. كما أن هؤلاء النساء محظوظات… لا بد أن حاكمة الحياة هي من وضعتهم في طريقك."
ضحك كايل بخفة مجاملة:
ـ "هيهي… سيدي، أنت تبالغ في تقديري."
لكن في داخله كان يسخر:
"فضل لحاكمة الحياة، هاه؟ تريد أن تقول إن كل شيء يسير وفق رغبتها؟ مؤخرتي…"
ظل يحافظ على ملامح وجهه الطبيعية.
أكمل العجوز:
ـ "إن السيد كايل متواضع حقًا، لكن هذه حقيقة… أن تصل إلى رتبة برونزية متوسطة في هذا العمر أمر نادر. لا بد أنك بدأت تكثيف بذرة الحياة في سن الخامسة عشرة، أليس كذلك؟"
في هذا العالم، يبدأ المرء بتكثيف بذرة الحياة أو فتح البحر السحري عند الخامسة عشرة.
قال كايل بجدية:
ـ "سيدي، هل يمكن علاج هؤلاء النساء؟"
كان هذا هدفه الرئيسي، ولم يرغب في البقاء هنا أكثر من اللازم، لذا أراد اختصار الأمر.
ابتسم العجوز:
ـ "كان سيكون أمرًا صعبًا… لكن مع وجود القديسة هنا، سيكون الأمر سهلًا."
كانت لدى كايل رغبة حقيقية في مقابلة القديسة ورؤية مدى قوتها.
قال مجاملة:
ـ "شكرًا لحاكمة الحياة أن القديسة هنا."
ابتسم العجوز:
ـ "هههه، نعم… يجب أن تعلم أن القديسة تُختار في يوم ولادتها مباشرة، لذلك تحظى بحماية شديدة من حاكمة الحياة، كما أن المعبد يوفّر فارس سماء في ذروته ليحميها."
صُدم كايل… كانت المعلومات التي يملكها تخبره أن القديسة يتم اختيارها من بين ثلاث مرشحات، لكن أن يتم اختيارها منذ يوم ولادتها، وأن تحظى بحماية مباشرة، فهذا أمر جديد.
تمتم في نفسه:
"لا بد أن هناك أكثر من فارس يحرسها…"
ومع هذه الحماية، من ذا الذي يستطيع الاقتراب منها في الأعماق، إلا إذا كان واثقًا من نفسه؟
وصل كايل إلى باب ضخم يؤدي إلى غرفة العبادة، وكان الباب منقوشًا بزخارف دقيقة تشع بلمعان ذهبي خافت، ورائحة البخور المقدس تتسلل منه.
ـ "هل ستعالجهم هنا؟"
ـ "لا، لا… سأخذهم إلى غرفة خاصة، ويمكنك أنت الدخول والدعاء."
أومأ كايل:
ـ "هذا جيد، سيكونون في أمان بين يديك، سيدي."
أومأ العجوز بدوره، وأشار إلى مجموعة من الراهبات لقيادة النساء، بينما مضى هو معهم.
في ذلك الوقت، دفع كايل باب غرفة العبادة ودخل.
كانت تشبه كنيسة من حياته السابقة، لكن الجدران هنا ناصعة البياض تشع بهالة قدسية، وأعمدة رخامية ترتفع نحو السقف العالي حيث تنعكس أشعة الضوء عبر نوافذ زجاجية ملوّنة ترسم ألوانًا على الأرضية الحجرية الباردة.
في المقدمة، كان هناك تمثال ضخم لامرأة ترتدي رداءً بسيطًا، تمسك في يد طائرًا، وفي الأخرى غصن شجرة. كانت ذراعاها مفتوحتين نحو العالم، وكأنها تحتضنه. رائحة البخور العطرة تعبق في الجو، وصوت خافت لتراتيل الراهبات يتردد في الخلفية.
أدار كايل عينيه بهدوء، لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أنه دخل عرين النمر…