أخذ كايل نفسًا عميقًا، وتقدّم بخطوات ثابتة نحو تمثال حاكمة الحياة، فيما كانت أصوات ترتيل الراهبات تتردّد في أرجاء القاعة بصوتٍ خافت، يحمل رهبةً تبعث في النفس سكونًا وهدوءًا، وله ذات التأثير الذي يتركه معبد الحياة على العقول.

رائحة البخور المقدّس كانت تعبق في الجو، ممتزجةً ببرودة الحجر العتيق، فتخلق إحساسًا ثقيلًا يضغط على الصدر.

لكن كايل لم يهتم لذلك، ولم يظهر أي انفعال على وجهه، رغم أن داخله كان يموج باشمئزازٍ يتصاعد درجةً بعد درجة، ونفورٍ عميق من حاكمة الحياة وبقية الحُكّام.

"إن كان هذا أسلوب حاكمة الحياة... فلا بد أن البقية مثلها."

ومع ذلك، كان عليه أن يستمر في التمثيل حتى يخرج من هنا حيًّا؛ إذ لو اكتشفت حاكمة الحياة أمره أو أحدٌ من المعبد، فسيكون مصيره القتل.

كانت خطواته تتزامن مع إيقاع الترتيل الرتيب، وصوت احتكاك حذائه بأرضية الرخام ينساب في الصمت بين الترانيم. وعندما وصل أمام التمثال، وقف بلا حراك، لكن عينيه لم تستطيعا التحديق مباشرةً في وجهه، فقد شعر أن الحجر أمامه ينبض بالحياة، وكأنه ان نظر سوف يقوم بي أمر محرم .

فجأة شعر كايل بنفس نظرة تسقط عليه مرة أخرى ، كانت هذه حاكمة حياة تنظر إليه مباشرة عبر تمثل .

لحظة صمت ثقيلة مرّت، وقطرة عرق باردة انسابت على جانب وجهه، فيما كان عقله يبحث بسرعة عن مخرج. هو لا يؤمن... ولن يؤمن. وفجأة، خطرت له فكرة.

بسرعة، أخرج سيفه، وصوت سحبه شقّ السكون وارتدّ صداه بين الأعمدة العالية. غرسه في الأرض، والشرر المعدني الخافت يتطاير من حافة النصل عند ارتطامه بالرخام، ثم انحنى ممسكًا بمقبضه بكلتا يديه أمامه.

في تلك اللحظة، توقفت الراهبات عن الترتيل، ووجوههن يغمرها الذهول، فمثل هذا التصرف لم يُسمع به من قبل.

شعاع شمسٍ تسلّل من نافذةٍ ملوّنة في أعلى القاعة، لينكسر عبر الزجاج وينصبّ على كايل وحده، مشكّلًا هالة ذهبية حوله. بدا المشهد كما لو أنّ فارسًا قدّم ولاءه الأبدي لحاكمة الحياة، والهواء من حوله ساكن، كأن الزمن توقف ليراقب.

لكن لم تكن الراهبات وحدهن من شهدن هذا؛ فخلف جدارٍ مزخرف، كانت نافذة مخفية يطلّ منها أسقفٌ عجوز وحارس القديسة، يراقبان ما يحدث.

"ما رأيك في هذا الشاب، أيها السير إدين؟"

سأل العجوز بهدوء، صوته العميق يختلط برائحة البخور الثقيلة، موجّهًا كلامه لرجلٍ في منتصف العمر، شعره بنيّ، وعيناه عسليتان، وجهه يحمل خطوط التجاعيد التي حفرها الزمن. كان يرتدي درعًا فخمًا يلمع تحت الضوء، يحمل شعار معبد الحياة.

أجاب إدين بصوتٍ متأمل:

"سيدي، الآن أفهم لماذا أخبرتني أنه قد يكون البطل الذي تم ذكره في النبوءة."

ابتسم العجوز ابتسامةً خفيفة:

"نعم... لدي إحساسٌ فريد تجاهه، كما لو أنه وُلد ليكون فوق الجميع. لكني أريد رأيك الشخصي."

رفع إدين حاجبه قليلًا:

"رأيي الشخصي؟"

"نعم، رأيك مهم، خاصةً وأنت ترافق آسيا، وتفهم أهمية البطل بالنسبة للمعبد وحاكمة الحياة."

هز إدين رأسه نافيًا:

"لكنني لم أتحدث معه بعد، لذا لا أعرف شخصيته."

ابتسم العجوز مرة أخرى:

"لكن أيها السير إدين، أنا أثق بعينيك التي ترى جوهر البشر."

بعد لحظة تفكير، قال إدين:

"حسنًا... أراه أكثر المرشحين وفرةً وإمكانًا بين جميع من قابلتهم منذ وصولي، لكن... في نفس الوقت أشعر أنه ليس مناسبًا ليكون بطلًا."

ارتسمت على ملامح العجوز لمحةُ دهشة:

"وكيف ذلك؟"

تردّد إدين قليلًا قبل أن يجيب:

"هذا الشاب... كيف أصف الأمر... عيناه مختلفتان."

قهقه العجوز بخفّة:

"ههه، لقد لاحظت ذلك إذًا."

اتسعت عينا إدين قليلًا:

"لم أفهم، ماذا تقصد؟"

"عيناه تحملان إحساسًا غريبًا... كما لو أن كل شيء تحت مراقبته."

أخفض إدين صوته:

"أوه... هل تعتقد، سيدي، أنه لا يؤمن بحاكمة الحياة؟ هل يجب أن نتخلص منه؟"

هز العجوز رأسه مبتسمًا:

"لا، لا... قد أكون مخطئًا. كما تعلم، أنا مجرد رجل أصابه الخرف."

لكن إدين أدار نظره ببطء، وهو يعلم أن هذا الرجل ليس عاديًا؛ إنه فارسٌ مقدس من رتبة أسطورية، قادر على العيش خمسة آلاف عام أو أكثر.

وفجأة، فُتح الباب خلفهما، وتسلل تيار هواء بارد يحمل معه رائحة زهور المعبد، ودخلت القديسة آسيا، وعيناها تحملان لمحة ترقبٍ واضحة.

نظر إليها الاثنان، فهما يعلمان سبب حماسها؛ فكايل هو المرشح الأوفر حظًا ليكون البطل، وهذا ما جعل آسيا مشدودة لرؤيته.

---

بوف آسيا:

لا أعرف كيف حدث هذا، لكن اليوم كان لدي إحساس غريب في قلبي يخبرني أنني سأقابل بطلي. لذلك طلبت من جدي أن يطلب من الجميع الانتباه إلى أي شخص يثير اهتمام أو الريبة .

انتظرت ساعات، من شروق الشمس حتى منتصف النهار، ولم يأتِ أي خبر. لكن ذلك الإحساس الذي في قلبي ازداد قوة، كأنه يصرخ بي أن بطلي قد وصل.

وما هي إلا دقائق حتى جاءت راهبة وأبلغتني أن هناك شابًا دخل القرية ومعه مجموعة نساء يُرجَّح أنهن تعرّضن للاختطاف.

كنت أريد الخروج لمقابلته، لكن جدي وعمي إدين منعاني بحجة أنه يجب التأكد منه أولًا.

بصراحة، كنت غاضبة منهما، لكن... ماذا يمكنني أن أفعل؟ لا شيء سوى الانتظار.

"كيف سيكون؟ هل هو شاب وسيم، أم رجل كبير؟ هل هو طيب القلب؟ هاه، بالطبع سيكون طيب القلب..."

كنت أتحرك ذهابًا وإيابًا في الغرفة، قدماي تلامسان الأرضية الحجرية الباردة بإيقاع مضطرب، وعقلي غارق في الأسئلة، حتى دخل جدي وأخبرني بأمرٍ صدمني: النساء كنّ مختطفات من قبل العفاريت، واستُعملن كأدوات للإنجاب.

"آسيا، عليك أن تشفيهن. يجب أن نفهم كيف تم اختطافهن."

"نعم، سأفعل... لكن، هل يمكنني مقابلته؟"

"من؟"

"بطلي."

"بطلك؟"

عندها أدركت أن جدي يسخر مني.

"جدي! أنت سيئ! آسيا لن تكلمك مرة أخرى!"

"عزيزتي، أنا آسف... جدك رجل عجوز لن يحتمل هذا العقاب."

"همف!"

نفخت وجنتيّ غاضبة، واتجهت إلى الغرفة التي توجد فيها النساء لعلاجهن.

بصراحة، لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا، وانتهيت بسرعة.

وعندما دخلت الغرفة التي فيها جدي وعمي إدين، رأيت من النافذة شابًا وسيمًا، رغم أن وجهه كان موجهًا نحو الأرض، وشعره الأسود الطويل الأشعث يتساقط على جانبيه، يغطي جزءًا من وجهه. كان يمسك سيفه ويركع أمام تمثال حاكمة الحياة على ركبة واحدة، فيما أشعة الشمس تغمره بالكامل.

كان كفارس يقدّم ولاءه، والشمس تشهد على ذلك.

"وسيم..."

كانت هذه الكلمة الوحيدة التي خرجت من شفتي بصوتٍ منخفض.

---

لكن ما لم يلاحظه أحد في القاعة هو أن أشعة الشمس كانت على كايل وحده، ولم يكن هناك أي شعاع يلمس تمثال حاكمة الحياة. حتى هي، حاكمة الحياة التي كانت تراقب كايل وأفعاله، لم تلحظ ذلك.

في قلبه، تمتم:

"أنا كايل... لا أنحني لأحد في هذا العالم."

عندما لم يجد كايل حلًا لتجنّب الانحناء، قرر أن يستعمل سيفه كحاجز بينه وبين تمثال حاكمة الحياة.

هكذا، لم ينحنِ في الحقيقة، لكنه أظهر الاحترام الذي بدا مناسبًا في عيون الجميع.

كما انه شعر ان ما فعله جعل نظرة حاكمة حياة تتغير نحوه من مرقبة الي اهتمام.

2025/08/13 · 31 مشاهدة · 1019 كلمة
General_13
نادي الروايات - 2025