بمجرد أن أنهى دانيال حديثه، اقتحم جنود القنابل القاعة الرئيسية متوزعين إلى اليمين واليسار، ليُحكموا سيطرتهم عليها.
ومع كل خطوة عسكرية من أحذيتهم الثقيلة، كانت أصواتهم تُدوّي بنظام، مما دفع النبلاء إلى التراجع لا إراديًا، وكأن أجسادهم انكمشت بفعل الخوف.
لكن دوق بيلفار وحده بقي ثابتًا في مكانه دون أن يرف له جفن، وكان يحدّق في دانيال بصمت قاتل.
وفي خضم تبادل النظرات الحادة كالسيوف، كان بيلفار هو من بادر بالكلام أولًا.
"…… أهنئك. لقد ربحت المعركة، أيها العقيد دانيال شتاينر."
ثم اتكأ بيلفار على ظهر كرسيه، وكأن الهزيمة التي تجرعها لم تكن كافية لإزعاجه.
"طالما أن جنودك اقتحموا قاعة الاجتماعات، فالسيطرة على العاصمة باتت مسألة وقت. والآن بعد أن بات لديك ذريعة الإطاحة بتحالف النبلاء الذين حاولوا قلب نظام الدولة، فقد منحنا لك أجنحة للطيران بنفسنا."
ضحك بيلفار بسخرية وهزّ كتفيه.
"إذاً، كيف تشعر؟ لقد أصبحت تملك الإمبراطورية كلها بين يديك."
كانت تلك الكلمات تثير الغضب في نفس دانيال، فبيلفار يتحدث وكأن ما حدث كان حلم دانيال طوال الوقت، وكأنه قد حصل على ما كان يريده.
ضاقت عينا دانيال بتأفف واضح من ذلك التلميح الساخر.
"أنت تتلاعب بالكلمات بسفسطة. ليس أنا من سيمسك بالإمبراطورية، بل جلالة الإمبراطور."
"أوه، إذن تنوي أن تعيد لها كل ما حققته؟"
"لقد تجاوزت حدودك، سيدي. أنا لا أعيد شيئًا لأحد. فالإمبراطورية منذ البداية هي ملك لجلالته."
"ليست كلماتك بخاطئة. ولكن هل تعتقد أن الآخرين سيرون الأمر كما تراه أنت؟"
"دوق بيلفار."
ناداه باسمه في إشارة صريحة ليصمت، لكن بيلفار لم يتوقف.
"حتى وإن أعدت كل شيء لجلالة الإمبراطور، فسيتذكر الشعب هذا اليوم. سيتذكرون أن دانيال شتاينر قاد ما يقرب من عشرين ألف جندي إلى العاصمة وأخذ زمام السلطة بيده للإطاحة بتحالف النبلاء."
"…… وماذا تريد أن تقول بذلك؟"
"الأمر بسيط. سواء رغبت بذلك أم لا، فإن نظرة الناس لك من الآن فصاعدًا ستكون مزيجًا من الرهبة والخضوع للسلطة، وربما حتى ولاء صادق من أعماق قلوبهم. وهذا، برأيي، نوع من الامتيازات."
ضاقت عينا بيلفار وهو يواصل حديثه.
"المكانة تولّد الامتياز، والامتياز يمنحك القدرة على السيطرة على الآخرين. لقد تمكنت من توحيد تحالف النبلاء وانتزاع السلطة من الإمبراطور لأنني كنت أملك لقب دوق، واللقب منحني الامتياز. هل سمعت بهذا القول من قبل؟"
اقترب بجسده للأمام وقال:
"من يملك الامتياز، يفسد حتمًا."
إن كان بيلفار قد تمتع بالامتياز عبر سلطته كدوق، فإن دانيال شتاينر قد صنع امتيازه بنفسه من خلال إنجازاته.
وبات من المؤكد أن دانيال شتاينر، الذي سيُعرف الآن كأعظم قائد عسكري بعد أن كان بطل الحرب، سيفوق الإمبراطور نفسه في شعبيته.
والشعبية تجذب الناس وتكسب الولاء.
وهذا هو جوهر السلطة، وجوهر الامتياز، وهو ما لا مفر منه في طريق دانيال.
"الكونت كاليدرا، زعيم قوات التحالف البعيدة، جعل ملكه دمية، وأنا أيضًا أعميتني السلطة وأثرت الفتنة و التمرد من اجلها. إذن، دعني أسألك سؤالًا. أيها العقيد دانيال شتاينر. هل تعتقد أن نهايتك ستكون مختلفة؟"
أنت لست مختلفًا عني.
وستلقى نفس النهاية البائسة التي لقيتها.
"لا تدع النصر يُسكر عقلك. أيها العقيد دانيال شتاينر."
وبينما كانت تلك الكلمات تخرج كأنها لعنة، هبّ أحد النبلاء من مكانه فجأة.
كان البارون بينتارتو، المزين من رأسه حتى أخمص قدميه بالحلي والزينة.
"ما الذي تقوله بحق الجحيم! دوق بيلفار! ألا تخجل من نفسك؟!"
ثم نظر إلى دانيال، وبدا على وجهه ابتسامة مفتعلة شابها الاضطراب، حتى أن خديه كانا يرتجفان.
"أيها العقيد شتاينر، لا داعي للاستماع إلى هذا الرجل الشرير! أظن أنك فقط قمت بواجبك. وإن كنت صريحًا، فأنا لم أنضم لتحالفه بإرادتي، بل… بل تم تهديدي…"
توقف عن الكلام فجأة.
تك!
رفع جنود القنابل بنادقهم فجأة وهم واقفون على جانبي النبلاء، مُصوّبين فوهاتهم باتجاههم.
اختنق صوت بينتارتو، ولم يجد ما يقوله.
وبقية النبلاء كانوا مذعورين، لا يعرفون إلى أين ينظرون أو ماذا يفعلون، واكتفوا بخفض رؤوسهم أو التنهد.
فضحك بيلفار بصوت عالٍ.
"هاهاها! ها هو المشهد الذي أردته! أخيرًا تعلمت كيف تُمارس السلطة، ها؟ كما هو متوقع من دانيال شتاينر! أؤكد لك، يمكنك أن تصبح أعظم دكتاتور في التاريخ، وأسوأهم كذلك! تمامًا مثل الكونت كاليدرا هناك في أقاصي البلاد!"
رغم أن البنادق كانت موجّهة إليهم، لم يتوقف بيلفار عن الثرثرة.
كأنه لم يعد يخاف الموت.
بل وكأنه
يريده
أو بالأحرى،
كأن عليه أن يموت الآن وفي هذا المكان، على يد دانيال شتاينر.
فهم دانيال مقصده، فابتسم ساخرًا.
نظر إليه الجميع في القاعة، وحتى بيلفار بدا مشوشًا للحظة.
"فهمت الأمر الآن. دوق بيلفار، تريد أن تصبح شهيدًا."
لمعت الدهشة في عيني بيلفار لأول مرة.
لاحظ دانيال ذلك، لكنه لم يمحُ ابتسامته.
"أراهن أنك قررت أن أفضل نهاية لك هي أن تموت اليوم، هنا، على يدي دانيال شتاينر. أن يُقال إن العقيد شتاينر قتلك فجأة، غضبًا، رغم أنك مجرم. الإعلام لن يتهاون في مهاجمتي."
"……"
"لن تكون هناك ضجة كبيرة، لكن بعض وسائل الإعلام ستهاجمني بضراوة. لكن لن يستمر ذلك طويلًا، لأن أول من سيكتم أنفاسهم هو جلالة الإمبراطور. ورغم ذلك، ما الذي يجعلك تأمل حتى في ذلك الاضطراب القصير؟"
بدأ دانيال يمشي ببطء نحوه.
"هل هو لأنك تريد كسب بعض الوقت؟ لأجل ماذا، يا ترى؟"
وبينما كان يلمس ذقنه بتفكير، وقف بجانب بيلفار، ثم نظر إليه وقال بصوت خافت:
"إنك تحاول حماية عائلتك، أليس كذلك؟ يا دوق بيلفار."
شعر بيلفار وكأن جسده كله قد اقشعر، وبدأ يتصبب عرقًا باردًا دون وعي منه.
قال دانيال بصوت منخفض:
"لكن للأسف، لم أكن أنوي قتلك من البداية. لقد أخبرتك من قبل، لن أرسلك إلى الجحيم، بل سأجعلك تعيشه. آه، أتتذكر ذلك؟"
ثم وضع يده على كتف بيلفار.
"حين التقينا في قصرك، وقلت لك: لو عدت إلى الماضي، فاختر بحكمة. وقلت إنك توافقني."
ثم نفض الغبار عن كتفه بهدوء.
"ومع ذلك، ها أنت ذا، تضع قدمك على عتبة الجحيم. تجاهلت تحذيري، ولا يمكنني التساهل معك بعد الآن. اسمح لي أن أطرح عليك سؤالًا أخيرًا."
انحنى دانيال وهمس في أذن بيلفار:
"هل غادرت عائلتك إلى التحالف؟"
شهق بيلفار فجأة وأمسك بمسند الكرسي بقوة.
كان يشعر أن قلبه على وشك الانفجار.
اهدأ… حتى لو علم دانيال، لن يستطيع اللحاق بهم. لقد غادروا العاصمة منذ عدة أيام…
لكن شيئًا ما كان يخنقه رغم تفكيره المنطقي.
ربما لأن دانيال شتاينر قد خطط للأمر مسبقًا.
لاحظ دانيال أن تنفس بيلفار أصبح متقطعًا وغير منتظم، فاعتدل في وقفته وقال:
"لا تفكر في الموت كمهرب. ستموت فقط بعد أن ترى سقوط عائلتك وتسمع لعناتهم."
ثم نظر إلى الجنود:
"كتيبة القنابل! قيدوا هؤلاء جميعًا وخذوهم إلى الساحة المركزية!"
ما إن أصدر أمره حتى تحرك الجنود فورًا.
بدأوا في تقييد أجساد النبلاء بالحبال، رغم صراخ بعضهم وادعائهم أن الأمر إهانة من جنود دونيين، لكن بلا جدوى.
حتى بيلفار نفسه تم تقييده بعد أن رفعه أحد الجنود من مقعده.
كانت لحظة ساخرة حقًا.
ربّ عائلة خدمت ثلاثة أباطرة، ينتهي به الحال في قبضة جندي بسيط.
"تحرك! فورًا!"
صرخ الجندي وهو يجر جسد بيلفار، فتأرجح الأخير من مكانه.
ثم بدأ يمشي ببطء كمن يساق إلى المسلخ.
ذلك الرجل، الذي كان في يوم من الأيام في ذروة السلطة، يلقى الآن نهاية بائسة.
لكن لم يكن وقت التأمل بعد.
"البقية، اتبعوني!"
بقيت مهمة أخيرة يجب إنهاؤها في القصر الإمبراطوري.
"سنتجه الآن إلى الطابق الأعلى في القصر!"
كان ذلك لإنقاذ جلالة الإمبراطورة المحتجزة في الغرفة التي تسمى ( الراحة الذهبية ) او مرقد الذهب.