بعد انتهاء مقابلة دانيال مع الإمبراطورة سيلفيا، عاد إلى هيئة الأمن المركزي محاطًا بالمجد والاحترام.
فقد عاد وهو يحمل وسام التنين الأبيض العسكري، وتقلّد منصب "المفتش العام الأعلى للأمن"، مما أجبر جميع العاملين في الهيئة على الانحناء له احترامًا.
حتى نائب رئيس الهيئة، والذي يُعد الرجل الثاني فيها، حاول التملق له قائلًا إنها "يوم تاريخي يُعلن بداية نظام جديد في الإمبراطورية"، إلا أن دانيال لم يستقبل هذا التملق بلطف.
فقد كان دانيال غاضبًا للغاية بعد أن ضاعت منه فرصة التقاعد التي طالما انتظرها، مما دفعه لتوبيخ نائب الرئيس أمام الجميع قائلاً: "بدلًا من التملق، ابذل جهدك لتحسين مستوى الأمن في الإمبراطورية".
تجمد نائب الرئيس في مكانه وبدت عليه الصدمة والندم، فاعتذر وانحنى احترامًا، فيما أطلق دانيال تنهيدة، ثم دخل مكتبه المؤقت.
وفي الوقت الحالي،
كان دانيال جالسًا على مقعده المغطى بالجلد، غارقًا في تفكيره، يتنهّد بحسرة ويشعر باليأس من حياته.
"كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد...؟"
التقطت لوسي، التي كانت تجلس على مكتب قريب تؤدي عملها، صوت تذمره، فرفعت رأسها تنظر إليه باستغراب.
فالرجل الذي خرج من الهيئة وهو يدندن بسعادة، عاد من القصر الإمبراطوري وكأنه قطعة سمك مجفف مرمية.
ما الذي حدث؟
فقد حصل دانيال على وسام شرف رفيع ومنصب يجعله مؤقتًا بمستوى سلطة يقارب الإمبراطورة نفسها، ومع ذلك كان وجهه يملأه الحزن وكأنه جرو مبتل.
لم تستطع لوسي فهم الأمر، فسألت بخفّة:
"العقيد دانيال، هل حدث شيء في القصر الإمبراطوري؟"
استفاق دانيال من شروده، استدار إليها بابتسامة باهتة.
"آسف لإثارة قلقك. ليس أمراً ساراً، لكن لا داعي للانشغال به."
في الحقيقة، كان السبب أنه لم يتمكن من التعبير عن رغبته في التقاعد.
"أنا بخير، لذا ركزي في عملكِ."
رغم أنه عبّر بأدب عن رغبته في عدم الحديث، فإن لوسي لم تصرف نظرها، بل تابعت التحديق فيه بعينيها الحمراوين وكأنها تشك في شيء ما.
شعر دانيال بتوتر تحت نظراتها، فحاول تغيير الموضوع.
"بالمناسبة، تتذكرين القتال مع قائد الحرس يوهانس؟"
رمشت لوسي بعينيها ببراءة.
"نعم، أتذكر."
"بدوتِ غاضبة حينها. ماذا دار بينكما؟"
"...آه، هذا..."
عادت لوسي بذاكرتها إلى ذلك اللقاء.
حين دخلت وحدها قاعة المعركة لإقناع يوهانس بالاستسلام، سخر منها قائلًا إنها ليست سوى "كلب مدرَّب لدانيال"، ولا يحق لها التحدث.
جرحتها تلك الكلمات، فردّت عليه بأن علاقتها بدانيال متكافئة إنسانيًا.
أدرك يوهانس انفعالها، فسألها عن دليلها على تلك "الندية".
فبدأت تعدد ذكرياتها مع دانيال، فما كان من يوهانس إلا أن سألها:
"هل أنتما على علاقة؟"
لم تستطع تأكيد ذلك، فهزّت رأسها، حينها ضحك يوهانس ساخرًا وقال:
— إذًا دانيال يتلاعب بكِ. من المؤسف أنكِ لم تدركي بعد أنكِ مجرد لعبة.
الكلمات الجارحة، حتى إن عرف المرء نواياها، تظل مؤذية.
غضبت لوسي حينها، وأظهرت قدرات تفوق المعتاد وهزمت يوهانس.
بعد أن أنهت استرجاع الذكريات، نظرت إلى دانيال وسألته بتردد:
"العقيد دانيال، ماذا تعني أنا بالنسبة لك؟"
تجمّد دانيال من الدهشة.
لم يكن يتوقع هذا السؤال، لا سيما أنه سألها عن محادثتها مع يوهانس فقط.
بدا الأمر غريبًا، لكنه لم يستطع تجاهل جديّتها.
وقبل أن يتمكن من الرد، قُطع الجوّ بنقرة على الباب.
"هل العقيد دانيال موجود؟ أنا أوتو ويتيمور، مدير مكتب الأمن. إن لم يكن هناك مانع، أرغب في التحدث معك."
التفت الاثنان إلى الباب في نفس الوقت.
أدركت لوسي أنها تسرعت بسؤالها، فسعلت بخجل ثم نهضت.
"...هل أفتح له الباب؟"
أومأ دانيال برأسه، فقد كان ينوي لقاء أوتو على أية حال.
فتحت لوسي الباب، ليظهر أوتو في بزّته الزرقاء الأنيقة، يخلع قبعته بابتسامة هادئة.
"طال غيابنا. وجهك الآن يبدو أكثر نضجًا مما عهدته. وأهنئك على منصبك الجديد."
نهض دانيال من مقعده وردّ التحية باختصار.
"شكرًا لك. رغم أنه منصب مؤقت، إلا أنني أقدّر تهنئتك. وأنت بدورك تبدو أصغر سنًا مما توقعت."
"أوه، لا تبالغ. أن أُمدح بالشباب من رجل يصغرني بكثير؟ هذا يرضيني على أي حال..."
أحضرت لوسي مقعدًا لأوتو ووضعته أمام مكتب دانيال.
اقترب أوتو من دانيال دون أن ينظر إلى لوسي، ومدّ يده.
"ربما يصعب تصديقه، لكني كنت دائمًا واثقًا بأنك ستُنجز أمرًا عظيمًا. هل تذكر حديثنا السابق؟"
"أذكره. لقد ألمحتَ لي بأن دوق بيلفار يخطط لأمر ما. أنا مدين لك."
"شكرًا لك على كلماتك. دعني أوضح، مكتب الأمن يعتزم دعمك بكل ما أوتي من قوة. لدينا أمر مباشر من الإمبراطورة بضرورة استقرار النظام."
"فهمت. سيكون الأمر أسهل بتعاونكم. لكن، اسمح لي بسؤال بسيط: ما هو دور مكتب الأمن؟"
تفاجأ أوتو قليلًا، لكنه أجاب:
"حسنًا، من أبرز أدوارنا هو مكافحة التجسس."
"مكافحة التجسس؟ أعذرني، لكن هل لك أن تشرح ما تعنيه هذه العبارة بدقة؟"
تقطّبت ملامح أوتو قليلًا.
لم يكن يتوقع هذا النوع من الأسئلة من رجل بمستوى دانيال.
لكن دانيال استمر بنبرته الهادئة:
"هل سؤالي محرج؟"
ابتلع أوتو ريقه وهز رأسه.
"لا. ببساطة، مكافحة التجسس تعني منع تسرب المعلومات الحساسة للإمبراطورية إلى الخارج."
"أفهم. إذًا، من واجب مكتب الأمن القبض على العملاء الذين يسرّبون المعلومات إلى دول التحالف، أليس كذلك؟"
اختفى الابتسام من وجه أوتو.
بدأ يدرك أن مجرى الحديث ينقلب.
أومأ برأسه بتوتر.
"نعم، صحيح."
ابتسم دانيال.
"لا تفهمني خطأ. أريد فقط التأكد من بعض الحقائق. يبدو أن الحديث سيطول، هل ترغب في شيء تشربه؟"
"..."
"إن لم يكن لك تفضيل، فسأحضّر قهوة. مساعدتي بارعة في تحضيرها. مساعدتي! أحضري فنجانين من القهوة!"
أومأت لوسي وغادرت المكتب.
فور إغلاق الباب، رفع دانيال كتفيه بخفة.
"لنواصل. كنا نتحدث عن أن القبض على العملاء هو من مهام مكتبكم."
فتح دانيال ملفًا على مكتبه.
فيه ملخّص عن المعلومات التي سرّبها دوق بيلفار إلى دول التحالف.
"حسب معلوماتي، دوق بيلفار هو رأس الخيانة. سرّب معلومات عسكرية أدت إلى إبادة الفرقة السابعة المدرعة. وهذا يجعله هدفًا لمكتب الأمن، أليس كذلك؟"
"عقيد دانيال..."
"بالطبع، إن افترضنا أن مكتب الأمن لم يكن على علم بخيانته، فربما يمكن التماس بعض العذر. لا أحد يتوقع وجود هذا الفساد المنظم داخليًا."
أغلق دانيال الملف بلطف.
"لكن إن كنتم تعلمون وسكتّم، فهذه خيانة صريحة."
نظر دانيال مباشرة إلى أوتو.
رغم أن شفتيه تبتسمان، إلا أن عينيه كانتا باردتين كهاوية لا قرار لها.
"أن تعلم وتسكت، يعني أنك من الخونة."
بدأ أوتو يلهث، وكأن يدًا خفية تخنقه.
نظر إليه دانيال بثبات، ثم وضع الملف على الطاولة بهدوء.
وكأنّ اسمه قد يُضاف إلى القائمة، بناءً على ما سيقوله لاحقًا.
"لا ينبغي لوجود شخص كهذا أن يُسمح به."
قالها دانيال بصوت لزج كالمستنقع.
"أليس كذلك... مدير الأمن أوتو ويتيمور؟"