بعد سماع كلمات دانيال، أخذ أوتو نفسًا عميقًا وأغمض عينيه.
ثم بدأ يسترجع بعضًا من ماضيه.
كان شعار أوتو في الحياة هو:
"عِش طويلًا ولكن بهدوء."
وكان سبب تبنّيه لهذا الشعار بسيطًا.
فبسبب ولادته في عائلة نبيلة، شهد منذ صغره الكثير من الأمور، وسمع الكثير عنها.
"لكن للأسف، معظم تلك الأمور كانت محزنة..."
في العادة، يكون الطمع في السلطة أو اتخاذ جانب خاطئ في صراعات النخبة كفيلًا بأن يؤدي إلى نهاية مأساوية.
وكان والده مثالًا على ذلك.
عندما كان الإمبراطور السابق لا يزال حيًا، سعى دوق بيلفار للسيطرة على الاقتصاد الداخلي للإمبراطورية، فقام بتوسيع أعماله بسرعة عبر ابنه.
وبفضل رأس مال دوق بيلفار وشبكة علاقاته الواسعة، أصبحت شركة "رايدشَارف " اسمًا لامعًا في أرجاء الإمبراطورية خلال وقتٍ وجيز.
ولكن، كما هو الحال دائمًا في عالم الأعمال، لم يكن النجاح الدائم أمرًا مضمونًا.
إذ أن من يدخل السوق أولًا، يحاول دومًا كبح من يصعد من تحته.
في تلك الحقبة، كان الكونت فورّيون يدفع قدمًا بصناعة السيارات، ولكنه لم يستسغ ما كان يفعله دوق بيلفار، فبدأ بالتصدي له بشدة.
وحين بدأت شركة رايدشارف تظهر نموًا مذهلًا، انتهز الكونت فورّيون الفرصة ورفع دعوى قضائية بشأن براءة اختراع.
كما بدأ بإجراء تحقيق شخصي في سلسلة الإمداد الخاصة بالشركة، فاكتشف أن بعض المنتجات كانت ذات جودة منخفضة، وعمَد إلى فضح ذلك إعلاميًا.
مدّعيًا أن سبب رخص ثمن سيارات الشركة يعود إلى رداءة مكوناتها.
وبطبيعة الحال، تدهورت صورة الشركة في أعين العامة، وتراجعت مبيعاتها بشكل حاد. عندها، انضم والد أوتو إلى صف الكونت فورّيون، معتقدًا أن إنتاج سيارات منخفضة الجودة يشكل خطرًا.
وحينها بدأت العاصفة.
إذ بدأ دوق بيلفار باستخدام نفوذه.
أولًا، من خلال علاقاته مع البنوك الوطنية، خفّض التقييم الائتماني لشركة الكونت فورّيون وسحب منها القروض فورًا.
ولأن توسيع الأعمال يعتمد على تلك القروض، فقد تعطّل تدفق رأس المال، ما أدى إلى تراجع إنتاج السيارات.
وعندها، بدأ المستثمرون، الذين لم يعودوا يرون نتائج ملموسة، في الانسحاب الواحد تلو الآخر.
ومضى دوق بيلفار قدمًا، حيث ضغط على كبار المسؤولين الحكوميين، ملمّحًا بأن شركة فورّيون لا تتعاون بما يكفي مع الحكومة.
وفي ذلك العصر، كانت الإنتاجية تعتبر معيارًا للولاء للدولة، فكانت الشركة التي تعاني أصلًا من مشكلات مالية لقمةً سائغة لأولئك المسؤولين.
وبينما كانت شركته تنهار، وُوجه الكونت فورّيون بضغطٍ حكومي إضافي، ولم يكن أمامه سوى أن يرفع الراية البيضاء.
ورغم أن الأمر لم يكن مؤكدًا، إلا أن الشائعات كانت تقول إنه ذهب إلى قصر دوق بيلفار وركع أمامه متوسلًا أن يُبقيه حيًا.
لكن دوق بيلفار لم يغفر لمن تحدّاه.
بل ظل يلاحقه حتى انهارت شركته بالكامل.
وبعد ذلك، اضطر والد أوتو، الذي وقف إلى جانب الكونت فورّيون، إلى التخلي عن منصبه كنائب وزير الخارجية، وتراجع عن الساحة.
رغم أنه تذرّع بكِبَر سنّه، إلا أن أوتو كان يعلم الحقيقة.
والده لم يُقصَ بسبب السن، بل لأنه اختار الجانب الخاطئ.
تجربة كهذه رسّخت قناعة في قلب أوتو.
"عِش طويلًا وبهدوء."
"تجنب المخاطر."
"ولا تقف في صف أحد."
من الأفضل أن تكون "روبيانًا" يبايع الحوت المنتصر، على أن تكون ضحيّة وسط معركة الحيتان.
ولحسن حظه، فإن معظم الحيتان المنتصرة كانوا يستقبلون "ولاء" أوتو الزائف بكل ترحيب.
فرغم كونه انتهازيًا، إلا أنه لم يكن عاجزًا.
الجميع رأى فيه شخصًا يمكن الاستفادة منه بطريقة أو بأخرى.
وهكذا، استطاع أوتو أن يشق طريقه بهدوء إلى أن أصبح مدير جهاز الأمن.
"ربما تهاونت قليلاً..."
بدأ يظن بنفسه أنه لم يعد مجرد روبيان، بل أصبح سمكة قرش يمكنها أن تصمد في وجه بعض الحيتان.
لكن غروره هذا هو ما أوصله إلى هذا الوضع.
"لم أكن أتوقع أن يكون هناك شخص قادر على الحفاظ على رباطة جأشه دون أن ينتشي بالنصر."
عندما تأكد من أن دانيال قد رُقي إلى منصب مفوّض الأمن بعد حصوله على وسام التنين الأبيض، جاء إليه فورًا.
فالناس عندما يكونون في مزاج جيد، يتجاهلون عادةً الأخطاء الصغيرة للآخرين.
"ولكن..."
دانيال بدا أشبه بالغاضب أكثر من كونه سعيدًا.
رغم وصوله إلى ذروة السلطة التي يمكن أن يبلغها ضابط عادي، إلا أنه لم يُظهر أي فرحة، بل كان يبعث في النفس شعورًا غريبًا.
"هل يعني هذا أن السلطة لم تكن هدفه؟ إن كان كذلك..."
ربما كان دانيال من النوع الذي يريد أن يجعل الإمبراطورية أعظم بإخلاصٍ حقيقي.
لقد كان تجسيدًا للرجل الحديدي.
وعندما فتح أوتو عينيه ببطء، وجد دانيال شتاينر يحدّق فيه.
"لقد تعاملت مع كثيرين يملكون السلطة، لكن هذا النوع... هو الأول من نوعه."
لم يعد يدري كيف يجب أن يتعامل معه.
كان أوتو يتعرق بغزارة، ففكر في أنه يجب أن يقدم أكبر قدر ممكن من الأعذار وبدأ الكلام قائلًا:
"……العقيد دانيال، يبدو أن هناك سوء فهم. لم أكن أملك معلومات مؤكدة، ولهذا حذّرتكم من دوق بيلفار بناءً على شكوكي فقط."
أي أنه لم تكن هناك أدلة على أن دوق بيلفار سيثير تمردًا، لذا لم يكن لدى جهاز الأمن ما يمكن فعله.
وأثناء تفكير دانيال، بدأ يطرق بأصبعه السبابة على الطاولة قبل أن يقول:
"لكن، ما زالت هناك نقطة لا أفهمها. إن كان لديك شكوك، لماذا لم تفتح تحقيقًا؟"
فقاطعه أوتو على الفور، وهو يضع على وجهه تعبيرًا مظلومًا:
"لأن فتح تحقيق يعني التضحية بحياتي."
"كما تعلمون، العقيد دانيال، فإن دوق بيلفار ينشر عملاءه مثل شبكة عنكبوت في جميع أنحاء الإمبراطورية. لا أحد يعلم من هو تابع له ومن ليس كذلك. وأي تحرك غير محسوب كان سيؤدي إلى سفك الدماء."
انتهى أوتو من شرح موقفه، منتظرًا ما سيقوله دانيال.
وكان مستعدًا لتزيين أي ردّ قادم وتبريره.
لكن دانيال لم يتكلم.
بل راح يحدّق فيه بابتسامة باهتة دون أن ينبس ببنت شفة.
فهبط على الغرفة صمت ثقيل.
حتى صوت عقرب الثواني في الساعة الجدارية كان يُسمع بوضوح.
وفي جوٍ تتوتر فيه حتى شعيرات الجلد، حاول أوتو التماسك.
ثم ضحك دانيال بخفة، وهو يراقب أوتو المتوتر بعناية.
"سيد مدير الأمن... سأقولها مرة واحدة فقط."
ثم وضع يديه على الطاولة، وشبك أصابعه بتأنٍ، وهو يسحب ابتسامته شيئًا فشيئًا.
"لا تقاطعني مجددًا."
كان صوته وكأنّه يقطع الهواء بشفرة.
أوتو لم يستطع مواجهة نظرات دانيال، فخفض ببطء بصره وأومأ برأسه.
وبدا أن ذلك أعجب دانيال، إذ أعاد نبرة الابتسامة إلى صوته:
"بعيدًا عن مقاطعتك لي، لقد سمعت تبريرك جيدًا، سيد مدير الأمن. لكنه مجرد هراء. تقول إنك وضعت سلامتك الشخصية فوق أمن الدولة؟ بالنسبة لي، كمبعوث مباشر من جلالة الإمبراطورة، لا يمكنني إلا أن أستنتج التالي..."
ثم انحنى دانيال للأمام، وهمس في أذن أوتو:
"هل تحاول السخرية مني، أيها الوغد؟"
فانفتح فم أوتو ببطء لسماع تلك العبارة الباردة.
عندها، ربت دانيال على كتف أوتو بلطف، ونهض من مكانه.
"أنا وجلالة الإمبراطورة لا نحب من يعبث. لكن من يدرك تمامًا وضعه الحالي، لا نكرهه."
أوتو لم يرد.
لم يستطع.
فدقات قلبه كانت شديدة السرعة، لدرجة أنه كان يصب كامل تركيزه على تهدئة نفسه.
"سأُبقيك في منصب مدير الأمن. ستتلقى خصمًا من الراتب وتحذيرًا خطيًّا. هذا هو الحد الذي سأتدخل فيه. لكن، هناك شيء عليك أن تعدني به."
"...وما هو هذا الشيء؟"
"بعد حديثي مع جلالة الإمبراطورة اليوم، قررنا إنشاء جهاز جديد يُدعى
هيئة مراقبة الأمن الوطني
كان المبرر المعلن هو
منع الخيانة قبل وقوعها
"قد تُحدث بعض الضجة، لكن بما أن شخصًا مثل بيلفار ظهر، فلا بد من قبولها. أليس كذلك، سيد مدير الأمن؟"
وكانت تلك إشارة مباشرة تقول:
أنت من سيقنع الوزارات بقبول هذا الجهاز، وكأنك تؤيده.
وهذا لا يعني مجرد دعم الهيئة، بل جعْل جميع الآخرين يظنون أن مدير الأمن أعلن ولاءه لدانيال شتاينر.
أي أنه ربطه بنفس المركب، بحيث لا يمكنه الخيانة لاحقًا.
ورغم رغبته في الرفض، لم يستطع أوتو ذلك.
شعر بوضوح أن دانيال يمسك بخيط حياته.
"إن رفضت الآن..."
فلن يخسر منصبه فقط، بل ربما ينتهي به الأمر في السجن.
حتى عندما حاول التفكير في حلول بديلة، واجه جدرانًا أقامها دانيال بعناية.
كل تصرّف وكلمة من دانيال كانت تسد عليه مخرجًا جديدًا.
لم يعد أمامه سوى أن يعترف.
دانيال شتاينر يعرف كيف يغلف كلماته بالسلطة.
"كيف استطاع أن يفعل كل هذا في يومٍ واحد فقط منذ توليه منصب مفوض الأمن؟..."
أوتو، وقد أصابه الذهول، نهض من مكانه ونظر إلى دانيال.
كانت عيناه السوداوان تحملان تصميمًا بدا وكأنه يمثّل إرادة الإمبراطورية بأكملها.
ولما أدرك أوتو أنه لا يستطيع مقاومته، جثا على ركبته، وانحنى رأسه.
"سأنفذ ما أمر به مفوض الأمن."
رغم أنه أعلن ولاءه، إلا أن شعار حياته لم يتغيّر.
"لكن..."
كي يعيش طويلًا وبهدوء، كان عليه فقط أن يصبح تابعاً من المقرّبين لدانيال شتاينر.