بينما كان دانيال يتلقى قسم الولاء من أوتو، كانت لوسي منهمكة في تحضير القهوة داخل غرفة الاستراحة.
رفعت الإبريق وبدأت تصب الماء الساخن ببطء على مسحوق القهوة الموجود في المصفاة.
وفي كل مرة كانت تسكب فيها الماء، كان عبير القهوة العذب والممزوج برائحة الكراميل الخفيفة يملأ المكان.
وكان ذلك يدل على أن التصفية تسير على نحو جيد.
كررت لوسي العملية مرتين إضافيتين، ثم سكبت القهوة المستخلصة في الأكواب، وأضافت السكر والحليب في كوب دانيال فقط.
فهو يحب النكهات الحلوة، ولوسي أرادت أن تناسب ذوقه.
ثم وضعت الأكواب على صينية القهوة، وأضافت بعض الحلوى بعد أن اختارت النوع المناسب.
وبعد أن تأكدت من أنها لم تنسَ شيئًا، حملت الصينية وغادرت غرفة الاستراحة.
لكنها توقفت فجأة وهي في طريقها إلى مكتب دانيال.
فمدير الأمن القومي، أوتو ويتيمور، خرج من المكتب في تلك اللحظة.
"آه، هل أنتِ مساعدة المفوض العام؟"
قال أوتو بابتسامة خفيفة حين لمح لوسي.
لكن لم يكن يبدو عليه الارتياح الذي كان يشعر به عندما دخل المكتب أول مرة.
بدا عليه الإرهاق بطريقة ما.
"لا بد أن تحضير القهوة كان مجهدًا. آسف لذلك. شعرت أني سأختنق إن بقيت في الداخل أكثر، لذا خرجت سريعًا هربًا."
"هل حدث شيء ما؟"
"نعم، حدث... يصعب عليّ شرحه بالتفصيل. لكن رغم أنني قابلت كثيرين في طريقي لمنصب مدير الأمن القومي، فإن العقيد دانيال مختلف... كيف أقولها..."
توقف أوتو قليلاً، ثم ضحك بخفة.
"بدا لي وكأنه شخص يخدم الإمبراطورية بإخلاص حقيقي. أعتقد أنه يرى السلطة كوسيلة لا كغاية."
لوسي أومأت برأسها بخفة، فقد لمست الصواب في كلامه.
"إنه رجل طيب."
"ورجل مخيف في الوقت ذاته."
"حقًا؟"
قالت لوسي وهي ترفّ بعينيها، لم تكن يومًا تعتبر دانيال شخصًا مخيفًا.
وعندما رأى أوتو رد فعلها، تنحنح كأنه ندم على كلامه.
"آه، على أي حال..."
شعر أوتو أنه قد يُساء فهمه، وكأنّه اغتاب دانيال، فغير الموضوع بسرعة.
"رائحة القهوة رائعة. لست خبيرًا، لكن يبدو أنها من نوع فاخر. لو علمت بهذا، لبقيت لفترة أطول في الداخل."
كان صادقًا إلى حد ما.
فالإمبراطورية، التي دخلت في حرب طويلة، كانت تعاني من نقص في الكماليات مثل القهوة.
وما يُجلب منها يُرسل للضباط والجنود في الجبهات، لذا نادرًا ما تتوفر قهوة فاخرة في العاصمة.
وفي ظل هذا الوضع، شاع استخدام القهوة الفورية أو البدائل المصنوعة من جذور الهندباء.
"يبدو أن قسم الأمن المركزي لديه ميزانية رفاهية مرتفعة؟ لا بد أنه يكلف كثيرًا توفير هذا النوع من القهوة..."
"اشتريتها من مالي الخاص."
قالت لوسي ببساطة، وجعلت أوتو يرمش بدهشة.
فالحصول على قهوة حقيقية في هذا الزمن يتطلب مالًا كثيرًا، ولا يمكن توفيره براتب ضابط متوسط مثلها إلا إن أنفقت كل ما تملك تقريبًا.
"... من مالك الخاص؟"
عندما أومأت لوسي برأسها، نظر إليها أوتو بعينين متعاطفتين.
"هل وضعها مثل وضعي؟"
بدأ يشك في أن لوسي، مثله، أصبحت من المقربين إلى دانيال نتيجة نوع من الإكراه.
لكن في الحقيقة، لوسي كانت تنفق أكثر من نصف راتبها على القهوة بإرادتها.
فهي تحب القهوة، ودانيال يحبها أيضًا.
ولأن أوتو لا يعرف هذه الخلفية، اكتفى بابتسامة حزينة.
"لنشجع بعضنا البعض."
ووضع يده على صدره ثم انحنى كالفارس أمام لوسي.
"سأغادر الآن، لدي الكثير من المهام."
"آه، فهمت."
لم تكن لوسي تنوي منعه، فتراجعت خطوة لتفسح له الطريق.
وراحت تراقب أوتو وهو يمر بجانبها، ثم هزت رأسها وفتحت باب المكتب.
ورأت دانيال يتحدث عبر الهاتف.
"... أحضرها بالترتيب. نعم، سنقرر بعد التحقق منها. بشأن إعادة هيكلة قسم الأمن المركزي، ستصدر مذكرة رسمية، تصرّف بناءً عليها. نعم، كلما أسرعت، كان أفضل."
أنهى دانيال المكالمة، وتنهد وهو ينظر حوله بملامح متعبة، ثم لمح لوسي.
"مساعدتي؟ لا تقفي هناك، تعالي إلى الداخل."
أومأت لوسي، واقتربت منه لتضع صينية القهوة على المكتب.
وعندما شم دانيال رائحة القهوة، ظهرت ابتسامة خفيفة على وجهه.
"رائحتها جميلة. إن لم يكن لديك مانع، فاجلسي واشربي فنجانًا معي."
"الآن؟"
"نعم. من أجل الكفاءة، لا بأس بالاستراحة أحيانًا."
"حسنًا."
وافقت لوسي وجلست.
أخذ دانيال رشفة من قهوته، ثم قال ببطء:
"كنتِ قد سألتني قبل قليل... عن ما تمثلينه لي."
تفاجأت لوسي، فلم تكن تتوقع جوابًا.
"مساعدتي، علاقتنا في الحقيقة غير مكتملة. فنحن نخفي أشياء عن بعضنا. رغم أن كلانا يلاحظ ذلك، لا نواجه بعضنا. لماذا؟ لأننا نعرف أن الأمور لن تعود كما كانت إن فعلنا."
تصاعد البخار من فوق الكوب.
"لهذا، لن أسألك عن أسرارك. إلا إذا قررتِ أنتِ أن تخبريني بها."
"أنا..."
"لا أطلب منك شيئًا. كل شخص لديه أسبابه. وحتى لو كانت أسرارك مظلمة وعميقة، لن يهمني. طالما أنك ترغبين في البقاء كمساعدتي."
في صمت المكتب، تلاقت نظراتهما.
"لا أعلم ما قاله لك يوهانس، لكن..."
توقف دانيال قليلًا، ثم تابع:
"أنتِ شخص ثمين بالنسبة لي."
اتسعت عينا لوسي بدهشة، لم تكن تتوقع مثل هذا الاعتراف.
وتجمدت في مكانها، وعيناها تهرب من عينيه.
أما دانيال، فابتسم ورفع فنجانه من جديد.
ما لم تكن لوسي تعلمه هو أن يد دانيال كانت ترتجف.
"عليّ أن أكسب قلب لوسي بأي طريقة. الآن وأنا بمنصب مفوض الأمن الأعلى، سيحاول الحلفاء قتلي بشتى الطرق. وإن تحولت لوسي ضدي، فسأكون في عداد الموتى."
كان يريد الوثوق بها، لكنه لم يستطع التهاون، فهناك الكثير من المتغيرات.
فهي خضعت لتجارب، وقد يكون الكونت كاليدرا قد زرع بها شيئًا، رغم أن الحقيقة عكس ذلك.
ولأن دانيال لم يكن يعلم، فقد أصبح قلقًا ومضطربًا.
أما لوسي، فكانت غارقة في دوامة من المشاعر.
"قال إنني شخص ثمين..."
من وجهة نظرها، التي كانت تكن له مشاعر عميقة، بدا كلامه كنوع من الاعتراف.
"ولكن..."
ربما كانت تتوهم.
ولأنها أرادت جوابًا صريحًا، قبضت بيدها المرتجفة فوق ساقيها وسألت:
"ما مدى أهميتي لك؟ مقارنة بـكيللي..."
كان هذا سؤالًا جريئًا جدًا بالنسبة للوسي.
لقد ذكرت المرأة التي لم ينساها دانيال أبدًا.
من ناحية أخرى، كان دانيال في حيرة من أمره.
"كلبي؟ لماذا المقارنة مع كلب؟"
كانت صديقته في الطفولة، كلبة محبوبة، لكنه لم يكن ليقارنها بشخص.
فأجاب دون تردد:
"أنتِ بالطبع أكثر أهمية."
فور سماع الجواب، احمر وجه لوسي بالكامل.
وشعرت بأن عقلها توقف عن العمل.
فكلامه كان صادمًا أكثر مما توقعت.
كانت ستسعد لو قال إن كلاهما مهم، لكن أن يقول "أنتِ أكثر أهمية" تجاوز كل توقعاتها.
أما دانيال، فلم يفهم لماذا تجمدت بهذا الشكل.
"... مساعدتي؟"
عندها استعادت لوسي وعيها، ووقفت من مكانها.
كانت قد استعادت تعبير وجهها المعتاد، لكن لون بشرتها المحمر وأذنيها المتوردتين فضحا مشاعرها.
"سأذهب إلى غرفة الاستراحة... نسيت شيئًا هناك."
لم تكن قد نسيت شيئًا، لكنها شعرت أنها إن بقيت ستنطق بشيء قد تندم عليه.
أرادت أن تهدأ قليلًا.
أومأ دانيال برأسه.
"اذهبي."
"شكرًا."
غادرت لوسي بسرعة، وبقي دانيال وحده.
"ما بها الآن..."
لم يكن يفهم تصرفها، وارتشف رشفة جديدة من قهوته.
طَرق، طَرق
عندما سمع صوت الطرق على الباب، وضع فنجانه جانبًا.
"ادخل."
ظن أن لوسي قد عادت، لكن الداخل كان في الواقع الضابط الاستخباراتي فيلب، ممسكًا بعدة نسخ من
صحيفة الإمبراطورية
كان قد طلبها دانيال عبر الهاتف.
"عقيد دانيال."
انحنى فيلب بخفة ثم اقترب من دانيال ووضع الصحيفة على المكتب.
"جمعت كل ما طلبته. من تقارير الهزيمة في الجبهة الشرقية حتى اليوم."
"أحسنت. دعني أرى."
بدأ دانيال يتصفحها بترتيب زمني:
[هل بطل الحرب مجرد ذكرى؟ العقيد دانيال شتاينر يُهزم في الجبهة الشرقية!]
[الخائن دانيال شتاينر يظهر على حقيقته! انه في طريقه للعاصمة بقيادة الفرقة السابعة!]
[نُدين دانيال شتاينر، الخائن الذي لا يختلف عن الضباع!]
[الحرس الإمبراطوري يتحرك لإيصال أوامر الإمبراطور! أيها الأبطال، اقضوا على الخائن!]
[الحرس الإمبراطوري ينضم إلى دانيال شتاينر! هل هذا هو تأثير ثعلب المعركة؟ كيف أقنعهم؟]
[القائد العظيم دانيال شتاينر يصل العاصمة خلال 3 أيام! آراء تقول إن لعودته سببًا وجيهًا!]
[أمل الإمبراطورية الأخير والمخلص للإمبراطور، العقيد دانيال شتاينر، يطهر العاصمة من الخونة!]
وكانت آخر صحيفة قد نُشرت منذ ثلاثة أيام فقط.
ضحك دانيال بسخرية وهو يرى تحوّل لهجة الصحف.
"يتوسلون للنجاة، أليس كذلك؟"
أومأ فيلب .
"يبدو أنهم خائفون. كيف تنوي التعامل معهم؟"
"لو كانوا قد قاوموا، لكان الأمر مزعجًا. لكن طالما انحنوا بهذا الشكل، فالأمر بسيط. فيلب، اختر عشرين جنديًا من ذوي البنية القوية."
"هل تنوي...؟"
"نعم."
وقف دانيال، وأخذ قبعته الرسمية من فوق المكتب ووضعها على رأسه.
تحت ظلّ القبعة، تلألأت عيناه السوداوان ببرود قاتل.
"سيدفعون ثمن هجومهم المتكرر عليّ بكل ما أوتوا من قوة."