تساءل مانراد إن كان بإمكانه قلب الموازين، فأبدى بعض الجرأة، لكن الأمر كان أبعد من متناوله.
مانراد قال بصوت خافت، بعد ان أدرك أنه أصبح في موقع العبد الخاضع تمامًا:
"ما الذي تنوي فعله بي...؟"
وجهه المشبع باليأس لم يحمل أي بصيص من الأمل.
بصراحة، حتى لو قرر دانيال شتاينر تنفيذ حكم الإعدام بنفسه، لما استطاع مانراد أن يعترض.
السبب؟ بمجرد أن يقدم دانيال، الذي اعتلى منصب مفوض الأمن العام المؤقت، تقريراً للإمبراطور بأنه "ساعد الدوق بيلفار زعيم الخونة في نشر تقارير إعلامية منحازة"، ستنتهي حياته.
"بعد الحرب، لا شك أن الإمبراطور بات يمقت كل نبلاء الإمبراطورية..."
استبعاد أن يرفض الإمبراطور كلام دانيال لم يكن مطروحًا.
تلك المقالات المنحازة التي كتبها طمعًا في دعم النبلاء المالي، ارتدت عليه كالطعنة في الظهر.
كان مانراد يعتقد أن لا مفر له، وأطلق زفرة خافتة، لكن حينها قال دانيال شتاينر بنبرة مريبة:
"رئيس التحرير، إن أطعت أوامري فقط، سأضمن لك النجاة."
كلام دانيال بدا كإغراء ناعم وهمس في أذن مانراد، لكنه حمل له رعبًا جديدًا.
"قبل قليل فقط..."
الرجل الذي كان على وشك أن يقتله قبل لحظات، بات الآن يبتسم وكأنه يستمتع بضعف خصمه بعد استسلامه التام.
أمام هذا الغموض، التزم مانراد الصمت، فتابع دانيال حديثه:
"اعترف بأنك نشرت تقارير منحازة، وأعلن أنك تتحمل المسؤولية وتستقيل من منصبك. أليست هذه صفقة رخيصة مقابل حياتك؟"
"... استقالة؟"
"هذا صحيح. بالإضافة إلى ذلك، بناءً على حقيقة وجود تيار منحاز داخل صحيفة الإمبراطورية، أتمنى أن تعين شخصًا من الخارج خلفًا لك."
"ومن يكون؟"
"عَيِّن فولم، رئيس تحرير صحيفة ميلباروتن."
اهتزت عينا مانراد بشدة.
"صحيفة ميلباروتن؟..."
لم يكن يستطيع تجاهل هذه المعلومة حتى لو أراد.
عندما عاد دانيال شتاينر من الجبهة، هاجمت معظم الصحف، بما فيها الإمبراطورية، قراره بالانسحاب، لكن صحيفة ميلباروتن لم تفعل ذلك.
بل إنها قالت: "لننتظر حتى نعرف السبب قبل إصدار الأحكام"، ودافعت عنه.
في ذلك الوقت، لم يفهم مانراد هذا الموقف، لكنه الآن فهم كل شيء.
"صحيفة ميلباروتن كانت وسيلة إعلامية تابعة لدانيال شتاينر."
ضغط مانراد على أسنانه بمرارة.
تنصيب رئيس تحرير من صحيفة ميلباروتن في صحيفة الإمبراطورية، يعني أن أكبر صحيفة يومية في الإمبراطورية ستصبح بيد دانيال شتاينر.
كان ذلك بمثابة تسليم كل ما بناه لخصمه، لكنه لم يستطع الرفض.
فمن كان يملك حياته الآن هو دانيال.
"... سأبلغ الناشر بالأمر."
"فكرة جيدة. وأيضًا، فقط لأوضح شيئًا...”
اقترب دانيال ووضع يده على كتف مانراد وهمس:
"اللسان الطويل سيُقطع."
بعبارة أخرى: لا تنطق بكلمة عمّا حدث، ولا تحاول مخالفة أوامري.
أومأ مانراد برأسه دون أن ينبس بكلمة، فابتسم دانيال وخرج من المكتب.
حينها، بدأ موظفو الصحيفة بالخروج من أماكن اختبائهم، بعضهم كان تحت الطاولات، والبعض واقف مذهول.
نظر إليهم دانيال وقال بنبرة خفيفة:
"أرى أن قسم السياسة هنا مليء بالوجوه المألوفة. أنتم من حاولتم جاهدين إجراء مقابلة معي سابقًا، أليس كذلك؟"
وأشار إلى أحدهم مبتسمًا، لكن الجو ازداد برودة.
"أما الآخرون، فأظنهم من فريق التحرير أو التصحيح. وربما أيضًا من النشر والطباعة والإعلانات والمبيعات."
كان صوت البلع فقط يُسمع في المكان.
"أنا لا أعتقد أنكم مذنبون. فقط كنتم تنفذون الأوامر من الأعلى. لذا لن أحاسبكم."
لكن لم يشعر أحد بالراحة.
فكلام دانيال لم ينته بعد.
"لكن، هذا لا يعني أنكم حصلتم على عفو مطلق."
رغم ابتسامته، كانت كلماته تحمل تهديدًا مبطنًا.
"إذا قررتم الاستمرار بكتابة مقالات منحازة بعد اليوم...”
سكت لحظة، ثم أردف:
"... فلن تنتهي الأمور بهذه السلاسة في المرة القادمة."
ارتعدت وجوه الصحفيين، وبعض موظفي التحرير الذين كانوا يختبئون تحت الطاولة بدأوا يطلقون شهقات مرتجفة.
عندما رأى دانيال أن التحذير قد وصل، أشار إلى جندي قريب:
"انسحبوا."
أومأ الجندي ونقل التعليمات.
فيما بدأ الجنود يغادرون، اتجه دانيال بهدوء نحو باب الخروج.
عند المدخل، كان فيلب ينتظره بجانب سيارة جيب عسكرية مع السائق.
أدى فيلب التحية، فردها دانيال بفتور.
"هل أنهى العقيد دانيال المهمة بنجاح؟"
"كانت سهلة بشكل ممل."
فتح له السائق الباب الخلفي، فركب دانيال، ثم لحقه فيلب في المقعد الجانبي.
بعد ذلك، صعد الجندي إلى مقعد السائق وشغل المحرك، ثم التفت فيلب إلى دانيال.
"سيدي، هل يمكنني معرفة الخطة التالية؟"
"تقصد تعقب فلول اتحاد النبلاء؟"
"نعم. فرغم كونهم فلولاً، إلا أنهم لا يزالون يملكون نفوذًا واسعًا. إذا لم نقضِ عليهم، فقد يثيرون أزمة أخرى."
رغم أن هذا تهويل، إلا أنه لم يكن مستبعدًا تمامًا.
لكن دانيال أجاب ببرود:
"لن أفعل شيئًا في الوقت الراهن."
تحركت السيارة باتجاه جهاز الأمن المركزي.
تفاجأ فيلب من الرد، ثم سأل بتردد:
"هل لي أن أعرف السبب؟"
"الرائد فيلب. خبر زيارتي لمقر صحيفة الإمبراطورية سينتشر بسرعة، أليس كذلك؟ سيعلم بقايا تحالف النبلاء بهذا الخبر أيضًا. خبر أنني لم أضع رئيس التحرير في السجن بل اكتفيت بإقالته من منصبه."
"... آه، لا تقل إنك..."
أومأ دانيال.
"بعدها، سيؤيد مدير الأمن إنشاء جهاز الأمن والمراقبة الوطني الذي اقترحته على جلالته. وعندها، ماذا سيظن فلول النبلاء؟"
"... سيظنون أن بإمكانهم النجاة من العقاب إن تعاونوا معك. وهذا سيخلق شرخًا بينهم، إذ لن يثق أحد بالآخر، خشية أن يُبلّغ عنه."
سيكون هناك من يفضل الوشاية على أن يُوشى به.
خطة استخدام سكين العدو لقتله.
كان دانيال قد أعد ساحةً لاقتتال النبلاء فيما بينهم.
شعر فيلب بقشعريرة تسري في جسده وهو ينظر إلى ملامح دانيال الصارمة.
ذلك الرجل يبدو كمن هو مستعد لفعل أي شيء من أجل الإمبراطورية.
لكن ما لم يكن يعلمه، هو أن دوافع دانيال كانت مختلفة تمامًا.
"بسببكم، ذهب حلم تقاعدي أدراج الرياح. الآن حتى احتمال التقاعد لم يعد موجودًا. كيف تجرؤون على جعلي عبدًا دائمًا للإمبراطورية؟!"
ضغط دانيال على أسنانه وهو ينظر إلى المناظر الطبيعية خارج النافذة.
'سأجعلكم تشعرون بألمي.'
أقسم أنه سيجعل فلول النبلاء يدفعون الثمن.
*
بعد بضعة أيام، شارع فولبيرفيرك 11 – مقر صحيفة ميلباروتن.
"نعم، هنا رئيس التحرير فولم. من المتصل؟"
صُدم فولم من كلام الطرف الآخر في الهاتف.
"رئيس تحرير صحيفة الإمبراطورية؟!"
أن يتصل أعلى مسؤول في صحيفة كبرى به فجأة، كان أمرًا لا يُصدق.
حتى توم، الذي كان في المكتب، تجمد من الدهشة.
"فولم؟ صحيفة الإمبراطورية؟ ما الأمر؟"
أشار له فولم بالصمت وأكمل المكالمة.
"نعم، أنا هو. ماذا؟ تريدونني أنا؟ بل ويمكنني جلب جميع موظفينا؟! هل هذا حقيقي؟ بالطبع، لا أمانع إطلاقًا!"
كان يتحدث بحماسة ويُخفض رأسه احترامًا للطرف الآخر، رغم أنه لا يراه.
"أنا من عليه أن يشكركم! نعم، سأباشر بالتحضيرات فورًا! شكرًا جزيلًا!"
أنهى المكالمة، ثم نظر إلى توم بدهشة.
"توم... لقد اتصل بي مسؤول من صحيفة الإمبراطورية..."
"و...؟"
"عرض عليّ منصب رئيس التحرير لديهم."
اتسعت عينا توم بدهشة:
"رئيس تحرير صحيفة الإمبراطورية؟! هل تمزح؟"
"في البداية ظننتها خدعة، لكني تعرفت على صوته. مستحيل أن أنسى نبرته الخاصة وطريقته بالكلام."
"لكن لماذا أنت بالذات؟"
"ليس بالأمر المفاجئ."
فولم كان يملك حدسًا قويًا.
"أنت تعرف أن العقيد دانيال زار مقر صحيفة الإمبراطورية مؤخرًا."
"لا تقل إن دانيال هو من..."
"نعم. وإلا لما اختارونا نحن من بين كل الصحف."
بدا توم مذهولًا، بينما أطلق فولم ضحكة مرحة.
"يا لها من هدية لا تُصدق. هدية أكبر من أن أتحملها. كنت دائمًا أشعر أن العقيد دانيال سيكون شخصية عظيمة."
قطّب توم حاجبيه في ضيق:
"ما هذا الهراء؟"
كان يتذكر جيدًا كيف بكى فولم كالأطفال عندما تعاون أول مرة مع دانيال، واعتبره كأنه عقد صفقة مع الشيطان.
لكن بالنسبة لفولم، كل ذلك أصبح من الماضي.
نهض بحماسة وقال:
"توم! يبدو أننا بحاجة إلى حزم أمتعتنا. أحضر صورة جلالة الإمبراطور، ولا تنسَ صورة العقيد دانيال شتاينر أيضًا. سأضعها في إطار وأعلقها في مكتبي الجديد."
أومأ توم وخرج من المكتب.
وبينما بقي فولم وحيدًا، وضع يده على قلبه المفعم بالنشوة وتذكّر دانيال.
"يقولون إن الخط الفاصل بين الإله والشيطان رفيع جدًا."
ذلك الرجل الذي كان يخشاه من قبل، بدا له الآن كإله قادر على كل شيء.
لقد أنقذه من الإفلاس، والآن أهّله لمنصب رفيع في أكبر صحيفة.
"أظنني بدأت أفهم لماذا يلجأ الناس إلى الإيمان."
أن يكون لك من يقودك ويمنحك الأمل، لهو شعور عظيم.
قرر فولم أن يجعل من صحيفة الإمبراطورية صوتًا يخدم دانيال شتاينر.
"ردًا على هذا الجميل..."
سيكون تابعًا مخلصًا له بلا تردد.