بعد الانتهاء من حملة الاعتقالات الكبرى للمتعاونين، لم يتمكّن دانيال من العودة إلى مقرّ الشرطة المركزية إلا قبيل الفجر.
وكان برفقته عدد هائل من النبلاء مكبّلي الأيدي بالحبال.
لقد كانت مشاهد النبلاء، الذين كانوا سابقًا نشطين في الأوساط السياسية والاقتصادية، وهم يُساقون كالمجرمين، صادمة لكل من رآها.
وأمام دهشة المفوض الأعلى للشرطة والضباط التابعين له الذين كانوا يحرسون الشرطة المركزية، أصدر دانيال أوامره بهدوء.
أمر باحتجاز جميع المقبوض عليهم في الزنازين السفلية، وإذا لم تكن هناك أماكن كافية، فليطلبوا المساعدة من الشرطة العسكرية.
انحنى المفوض الأعلى حتى خصره وهو يتلقى الأوامر، وقد ارتسم في عينيه أثر من الرهبة من دانيال.
بعد ذلك، دخل دانيال إلى مكتب المفوض العام للشرطة وجلس يفكر قليلاً.
كان ما يؤرقه هو أن بعض النبلاء الأذكياء استطاعوا الفرار دون أن يُقبض عليهم.
وبعد أن تلقّى تقريرًا مفصلاً، تبيّن له أن عدد الفارّين ليس كبيرًا إلى حد يستدعي القلق، لكنه لم يستطع طرد شعور الانزعاج من داخله.
"لا بد أن بعض الذين أُمسك بهم اليوم على صلة بمن فرّوا..."
جمع المعلومات عنهم لن يكون أمرًا صعبًا، لكن المشكلة تكمن فيما سيحدث بعد ذلك.
"بمجرد أن تكتمل حملة الاعتقالات بنجاح، سيتم إعفائي من منصبي كمفوض طوارئ للشرطة."
وعندها لن يكون دانيال، المفوض الطارئ الذي كان يحكم بسلطة مطلقة بتفويض من الإمبراطور، بل سيعود ليكون ضابطًا عاديًا يخضع لأوامر القيادة العسكرية العليا.
"صحيح أنهم لن يعاملوني كما في الماضي..."
لكن الخضوع لقرارات القيادة العليا يعني سلوك طريق مجهول ومليء باللايقين.
بل قد يقال له فجأة: "لقد تم تطهير الداخل، حان الآن دورك في الجبهة الشرقية!" ويتم إرساله إلى هناك.
ودانيال لم ينسَ.
لم ينسَ القتال الذي خاضه حين كان رئيس أركان الفرقة المدرعة السابعة.
صوت الانفجارات، إطلاق النار، والصراخ المتبادل وسط الغبار المتصاعد الذي كان يمنع حتى الرؤية، بل حتى القناصة كانوا يتربصون لهم… لقد كان جحيمًا حقيقيًا.
"كنت محظوظًا، لا أكثر…"
لو أن القوات الرئيسية تأخرت قليلاً، أو لو كانت الغارات أكثر دقة، لما كان دانيال حيًّا الآن.
بمعنى آخر، ساحة المعركة هي أبعد ما يكون عن رغبته في البقاء على قيد الحياة.
رافضًا العودة إلى ذلك المكان البغيض، راح دانيال ينقر على سطح مكتبه وهو يدبّر أمره.
"مهما نظرت إلى الأمر، يبدو أن سيلفيا والقيادة العسكرية يرونني وكأنني شخص قادر على كل شيء."
رغم أنه لم يكن يقصد ذلك، إلا أن دانيال قد نفذ كل الأوامر التي وصلته من القيادات العليا بنجاح تام حتى الآن.
بل وأكثر من ذلك، فقد أثبت ولاءه للعائلة الإمبراطورية من خلال قيادته للفرقة المدرعة السابعة وتطهيره للمتعاونين المتمردين.
لذلك، لم يعد له مفرّ من نظرة المثالية المفرطة التي أُلصقت به.
"ولكن..."
سواء كان محظوظًا أم لا، فقد هرب بعض النبلاء خلال حملة الاعتقالات.
من حيث المبدأ، كانت هذه مجرد هفوة بسيطة.
وخطأ يسهل تداركه بمرور الوقت.
"لكن في السياسة، ما يهم ليس حجم الخطأ، بل مجرد وقوعه."
فكلما بدا الشخص مثاليًا أكثر، أصبح الخطأ الواحد أكثر خطورة وتأثيرًا عليه.
"لو تم تسليط الضوء على هذا الخطأ إعلاميًا..."
فمن المؤكد أن القيادة العليا، بل وسيلفيا نفسها، سيبدؤون في رؤية دانيال شتاينر بطريقة مختلفة.
فالتوقعات المفرطة تقتل الإنسان.
لذا، فإن هذه التوقعات بالنسبة لدانيال، الذي يتوق إلى النجاة، ليست نعمة بل سمّ قاتل.
وإن استطاع تخفيف هذا السم الآن، فلن يتردد.
وبعد أن حسم أمره، تناول دانيال سماعة الهاتف وبدأ بتدوير القرص.
كان قد اتصل برئيس تحرير صحيفة الإمبراطورية، "فولم".
وبعد رنينات عدة، سُمع صوت من الجانب الآخر.
─ "هنا فولم، رئيس تحرير صحيفة الإمبراطورية. ما هي حاجتكم؟"
نبرة صوته كانت مليئة بالغرور.
أثار هذا استغراب دانيال، فأمال رأسه قليلًا وقال:
"أنا دانيال شتاينر، المفوض الطارئ للشرطة. هل أنت السيد فولم؟"
ساد الصمت للحظة، ثم تلاه صوت ارتطام شيء ما. يبدو أن الكرسي قد سقط.
─ "دا- دانيال شتاينر، سيدي العقيد! ما الذي دعاك للاتصال بي؟! هل في الصحيفة ما لم يرضك؟"
قال فولم بارتباك وهو يتصبب عرقًا، يظن أنه ارتكب خطأ ما.
لكن دانيال لم يكن يهدف لتوبيخه، فابتسم ساخرًا وهز رأسه.
"ليس الأمر كذلك. اتصلت لأناقش موضوع المقال الذي سيتم نشره في الصفحة الأولى من عدد الغد."
─ "آه، فهمت الآن. لدينا مسودة جاهزة بالفعل. العنوان المقترح هو:
'ليلة التطهير انقضت! والعدالة الإلهية لحقت بالمتعاونين!'
"أفهم ذلك. وأنا أحترم صحيفة الإمبراطورية، لكن هل يمكنك تعديل العنوان والمحتوى قليلاً؟"
─ "تعديل؟ بالتأكيد، لا مانع. فقط أخبرني ما الذي لم يُرضك بالتحديد، وسأعمل على توجيهه."
"شكرًا لك. أود لو كان التركيز على المتعاونين الذين لم أتمكن من القبض عليهم. وليكن العنوان:
'المفوض الطارئ يشهر سيفه، لكن المتعاونين لازالوا مفقودين!'
ساد الصمت على الطرف الآخر من الخط.
لم يستطع فولم فهم نوايا دانيال.
وبعد لحظات من التفكير المتكرر، قال مترددًا:
─ "إن كنت فهمت الأمر جيدًا… فأنت تطلب أن نسلّط الضوء على خطأك في الصفحة الأولى؟"
"من وجهة نظر معينة، نعم."
─ "سيدي… لماذا؟ أرجو أن تشرح لي السبب حتى أتمكن من المضي قدمًا عن قناعة."
لكنه لم يكن ليشرح السبب الحقيقي.
فكر قليلًا، ثم أجاب بجفاف:
"لأنني أحتاج ذلك المقال."
الإطالة في الشرح لن تؤدي إلا إلى مزيد من التساؤلات.
─ "تحتاجه، إذًا..."
بدا أن فولم اقتنع بأن وراء دانيال خطة ما، فأومأ موافقًا رغم أنه لم يكن يراه.
─ "مفهوم. سنُعدّ المقال وفق التوجيهات."
أغلق دانيال الهاتف بعد أن شكر فولم، وابتسم ابتسامة هادئة وهو يسند ظهره إلى الكرسي.
"عندما ينشر المقال غدًا، سيتحطم ما في نفوسهم من أوهام تجاهي."
ربما لن يتمكن من إزالة كل ما تراكم من أوهام، لكن على الأقل سيتمكن من التخفيف منها إلى حدٍّ ما، ما جعله يشعر بالرضا.
في مساء اليوم التالي، عند مدخل محطة القطار المهجورة على أطراف العاصمة.
"بالنظر إلى الملابس التي تحمل شعارات العائلات لابد أنهم جنود تابعون للنبلاء. جميعهم قُتلوا، على كل حال."
قالها العقيد أوبوريان، قائد قوات الحراسة، وهو يقطّب حاجبيه بينما كان يتفحّص المكان.
وكان وجه مساعده بجانبه يبدو قلقًا كذلك.
"آثار الموت واضحة، والتحلل يوحي بأنهم قُتلوا منذ يوم على الأقل."
"صحيح، وإلى جانب ذلك..."
رفع أوبوريان سلاحًا من الأرض وهو يرتدي قفازات بيضاء، وسحب المخزن منه.
"المخزن مليء. لم يطلقوا حتى رصاصة واحدة."
"وهذا يعني…"
"أنهم تعرضوا لهجوم مفاجئ من طرف كان متخفيًا هنا مسبقًا. الرماة بارعون أيضًا، فجميع الجثث تلقّت رصاصة في الرأس."
"هذا يدل على أنهم ليسوا هواة. ربما محترفون؟"
"أجل، أفضل حتى من معظم الجنود العاديين."
سعل أوبوريان بسبب الرائحة الكريهة، ثم التفت إلى الجنود في الخلف.
"ابقوا في مواقعكم! لا تسمحوا لأي أحد بالاقتراب!"
"نعم، مفهوم!"
بعد سماع الأوامر، دخل أوبوريان ومساعده إلى المحطة المهجورة، مستندين إلى أضواء المصابيح اليدوية.
وما إن دخلا غرفة التحكم بالإشارات، حتى شهق كلاهما.
"يا إلهي…"
"كانت معركة حقيقية هنا."
سحب أوبوريان منديلاً ووضعه على أنفه وهو يتقدّم أكثر.
كان هناك نبلاء جالسون على الكراسي، وكل واحد منهم تلقّى رصاصة في الجبهة.
واحد فقط كان ممددًا على الأرض، يبدو أنه حاول الهرب، فاستقرت الرصاصة في مؤخرة رأسه.
اقترب أوبوريان من أحد الجثث ونزع القناع ببطء.
فإذا به يرى عيونًا بيضاء وفمًا مفتوحًا بجمود.
"…البارون تيكبورامبول. لقد سمعنا مؤخرًا أنه يتصرف بشكل غريب، ويبدو أنه انضم إلى الدوق بيلفار."
"أليس هذا البارون يدير شركة للزجاج المعالج؟"
"نعم. سمعنا أن أعماله تراجعت مؤخرًا، ويبدو أنه اختار الطريق الخطأ."
ألقى المساعد نظرة استهجان على تيكبورامبول، ثم التفت إلى أوبوريان.
"سيدي، يبدو أن الآخرين أيضًا من النبلاء بحسب ملابسهم وشعارات عائلاتهم. مما يعني…"
"أنهم جميعًا متعاونون. وحقيقة أنهم اجتمعوا في هذا المكان النائي تعني أنهم على درجة من الأهمية في شبكة دعم الدوق بيلفار."
"لكنهم جميعًا قُتلوا... من فعل هذا؟"
تنهد أوبوريان وقال:
"هناك شخص واحد فقط يمكنه فعلها. العقيد دانيال شتاينر."
"لكن... الصحيفة قالت هذا الصباح إنهم في عداد المفقودين؟"
"هذا مجرد مقال مضلل للتنصل من المسؤولية. إنه يريد أن يُظهر أن الجريمة لا علاقة لها بمركز الشرطة."
"لكن لماذا يفعل ذلك؟"
"أحمق! فكر قليلاً! رغم أنهم خونة، فإنهم نبلاء، ولا يمكن إعدامهم بهذه البساطة. إن لم يقاوموا، يجب محاكمتهم."
وفي تلك المحاكمات، فإن معظمهم لن يُعدم، باستثناء القلة ممن اقترفوا أعظم الجرائم.
لو تم إعدامهم جميعًا، فإن الأثر الاجتماعي والسياسي سيكون هائلًا.
"لذا، استعان العقيد دانيال بتنظيم سري لتصفيتهم تمامًا. لم يُرد تركهم أحياء ليشكلوا تهديدًا مستقبليًا."
"فهمت… لقد قتلهم جميعًا، لكنه لن يتحمل المسؤولية، لأنه ادعى أنهم مفقودون في التقرير."
من يمكنه أن يعارض دانيال شتاينر؟
لا أحد يعلم شيئًا عن تنظيمه السري، ما يجعل هذا الجرم مثالًا على الجريمة الكاملة.
وفي الوقت ذاته، فقد كانت هذه المجزرة رسالة تحذير صارخة:
"لا تفكروا حتى في معارضتي."
لقد شعر مساعد أوبوريان بأن هذه النية العدوانية تملأ المكان بأسره.
"سيدي…"
ابتلع مساعده ريقه وهو يحدق في النبلاء المذبوحين جالسين على الكراسي.
"العقيد دانيال شتاينر… شخص مخيف حقًا."
ولم يجد أوبوريان ما يردّ به على هذا الكلام.
"لو أنني... كنت قد تعاونت مع دوق بيلفار، لكنت الآن جثة جالسة على أحد هذه الكراسي."