أشرقت شمس الصباح.
وكان إشراق الصباح يعني أن على دانيال أن يكرّس نفسه للعمل.
مهمة دانيال اليوم كانت التوجّه إلى قاعة الاجتماعات الكبرى في القصر الإمبراطوري، ليقدّم تقريره مباشرة لجلالة الإمبراطور.
ولهذا السبب، كان في طريقه إلى القصر في مركبة عسكرية منذ الصباح الباكر.
وبينما كان يجلس في المقعد الخلفي يتأمل المناظر التي تمرّ مسرعة من نافذته، تنهد دانيال بهدوء.
(رغم عودتي إلى العاصمة، لم أجد وقتًا للراحة على الإطلاق... أشعر أني أصبحت أكثر انشغالًا من قبل.)
وبينما كان يعبّر عن استيائه في داخله، سمع صوت تقليب أوراق إلى جانبه.
كان ذلك صوت لوسي وهي تفتح ملفًا وتراجع بعض الوثائق.
وبعد أن تفحصت المستندات لفترة، التفتت إلى دانيال وبدأت الحديث:
"سيدي المفوض العام، كم من الوقت تنوي تخصيصه للتحقيق والإجراءات القضائية؟"
كان سؤالًا لا يحتاج إلى الكثير من التفكير.
"سأنهيها بأسرع وقت ممكن. لقد عرفنا كل ما نحتاجه، لذلك سأختم التحقيق خلال أسبوع وأشرع بتقديمهم للمحاكمة رسميًا."
"مفهوم. وهل فكرتَ في شكل المحاكمة؟"
"يجب أن تكون محاكمة علنية، لتثبيت سلطة العرش. علينا أن نظهر فساد النبلاء علنًا، حتى تتركز السلطة في يد جلالة الإمبراطور. وأعتقد أن جلالته يوافقني الرأي."
أومأت لوسي برأسها ثم أخرجت مفكرة من جيبها ودونت كلام دانيال.
نظرًا لكونها مساعدة دانيال شتاينر، تتعرض لعديد من الاستفسارات أثناء العمل، ولعلها تدون هذه التفاصيل لتتمكن من الإجابة لاحقًا.
ولأن دانيال لا يحب الظهور في المناسبات الرسمية إلا للضرورة، تتولى لوسي الكثير من الأدوار عنه.
(ربما تقوم بالكثير من المهام الأخرى لأجلي أيضًا...)
فشعر بشيء من الذنب حيال ذلك.
بينما كانت لوسي تراجع الوثائق بعد أن أعادت المفكرة إلى جيبها، قال دانيال ببرود:
"أنتِ جديرة بالاحترام."
ارتجف كتف لوسي للحظة.
نظر إليها دانيال مازحًا وضحك بخفّة.
"أن ترافقيني وسط كل هذه الأحداث والمشاكل ليس بالأمر السهل، ومع ذلك لم تشتكي يومًا."
"...أنا فقط أقوم بواجبي."
"أعلم. وأتمنى أن تظلي دائمًا بجانبي كمساعدتي، دون أن تغيري نيتكِ أبدًا."
وكان يقصد بها - ضمنيًا - أنه لو صدر أمر اغتيال بحقه من دول التحالف، فليتها تغضّ الطرف.
لكن بالنسبة إلى لوسي، بدا كلامه كامتداد لاعترافه السابق بحبه لها.
"أنا... لم أفكر يومًا..."
همست بصوت منخفض ومتردد.
"لم أفكر يومًا في غيرك..."
رغم أن ملامحها وصوتها بديا هادئين، إلا أن أذنيها كانتا محمرتين بشكل واضح.
وبات تنفسها مضطربًا بعض الشيء.
تساءل دانيال في نفسه عن سبب هذا التصرف، فنظر إليها باستغراب، فما كان منها إلا أن سعلت لتغيير الموضوع.
"بالمناسبة، هناك خبر أود إبلاغ العقيد دانيال به."
لاحظ دانيال تصرفها الغريب لكنه لم يعلّق عليه.
"خبر؟ ما هو؟"
"بعد التأكد من استقرار العاصمة، قامت بيلانوس بتخفيض تصنيف الإمبراطورية من دولة عالية الخطورة. حاليًا، تعتبر الإمبراطورية دولة تحتاج إلى عناية خاصة في بيلانوس، ويقال إنهم سيستأنفون العلاقات الدبلوماسية قريبًا."
"أمر سار، لم أكن أتوقعه."
في ظل سعي الإمبراطورية العاجل لتطوير الأسلحة النووية من أجل إنهاء الحرب، فإن استئناف العلاقات مع بيلانوس كان حدثًا يستحق الاحتفاء به.
(إن انتهت الحرب، قد أحظى أخيرًا بحياة هادئة.)
بينما كان يفكر بذلك، بدأت المركبة العسكرية في التوقف.
وعندما توقفت تمامًا، نزل الجندي من مقعد القيادة وفتح باب المقعد الخلفي.
"لقد وصلنا، سيدي المفوض العام!"
شكر دانيال الجندي على التحية ونزل من المركبة.
فإذا بعينيه تقعان على القصر الإمبراطوري الرئيسي، الشبيه بمجمع من القصور، وإلى جانبه وصيفات من الديوان الداخلي ينتظرن قدومه عند المدخل.
وما إن رأينه يترجل حتى اقتربن منه وحيّينه بتحية رسمية تقليدية.
"مرحبًا بكم، سيدي العقيد دانيال شتاينر. نحن هنا لنرافقكم إلى قاعة الاجتماعات الكبرى."
شعر دانيال ببعض الحرج من هذا الاستقبال الفاخر، لكنه لم يكن من اللائق رفضه، فهؤلاء مجرد موظفات ينفذن أوامر سيلفيا.
أومأ برأسه لهن وتبعهن إلى داخل القصر، وبعد أن قطعوا ممرًا طويلًا، وصلوا أخيرًا إلى قاعة الاجتماعات الكبرى ذات الباب المفتوح.
رأى شخصيات بارزة تجلس على المقاعد الدائرية وتتبادل الحديث.
كان الجو مختلفًا قليلًا عمّا كان عليه عندما اقتحم المكان للقبض على دوق بيلفار.
شعر دانيال ببعض التوتر دون أن يدرك.
عندها انحنت الوصيفة التي كانت ترافقه وقالت بأدب:
"بإمكانكم الدخول الآن. جلالة الإمبراطور سيصل متأخرًا قليلًا."
"أوه، شكرًا على إرشادكم."
"إنها فرصة لنا أن نرشد بطل الإمبراطورية، لذا نحن من نشكرك."
ثم انسحبت بابتسامة وهي تمشي إلى الوراء.
تابعها دانيال بنظره قبل أن يتوجه نحو القاعة.
كلما اقترب أكثر، بدأت أصوات الحديث داخل القاعة تتضح.
"العقيد دانيال شتاينر قد أطلق شرارة النظام الجديد. لا حاجة لانتقاده."
"أنا أيضًا كنت محتجزًا لديهم! أعرف فظائعهم جيدًا! لكن ما قيمة نظام بُني على جماجم القتلى؟!"
"سيدي مدير الاستخبارات، أولئك القتلى ليسوا سوى خونة. هل تنوي الدفاع عن من أشعلوا الفتنة؟"
"هذا ليس ما أعنيه! ما أحاول قوله هو أن القتل الجماعي لا يجب أن يصبح وسيلة سياسية! أنتم تجهلون ما جرى في الضاحية المهجورة البارحة..."
ثم توقف مدير الاستخبارات كيلتراك عن الكلام فجأة.
فقد رأى العقيد دانيال شتاينر يدخل القاعة.
اتباعاً لنظرة كيلتراك، ضبط الوزراء والجنرالات أنفاسهم وجلسوا بوضعية مستقيمة.
رغم أن جميع الموجودين في القاعة كانوا أعلى رتبة من دانيال شتاينر، إلا أنهم كانوا يراقبون تصرفاته بحذر شديد.
فهو مفوض الأمن العام المؤقت، وبطل الحرب المحبوب لدى الإمبراطور.
وفي زمن الحرب، تعتبر الإنجازات قوة وسلطة.
لذا التزم الجميع الصمت لتجنّب أي صدام معه.
وهذا ما كان يزعج كيلتراك.
فكأن دانيال شتاينر هو الإمبراطور الفعلي.
وبينما كان كيلتراك يحدّق فيه، جلس دانيال على كرسيه وقال بنبرة خفيفة:
"أه؟ ما الذي كنتم تتحدثون عنه؟ يبدو أنكم كنتم تتحدثون عني..."
لكن لم يجيبه أحد.
فأخذ يداعب أصابعه بتوتر وسط الصمت، حتى تحدث كيلتراك أخيرًا:
"لقد سمعت جيدًا. كنا نتحدث عنك، العقيد دانيال شتاينر."
فوجّه دانيال نظره نحوه وقال:
"أحقًا؟ وما كان موضوع الحديث؟"
"كنا سنناقش الأمر في غيابك في الأصل، لكن لا يبدو أن ذلك يهم. أيها العقيد دانيال شتاينر. وردت معلومات تفيد بأنك قمت بمذبحة جماعية للنبلاء المدرجين في قائمة الدوق بيلفار في محطة مهجورة بضواحي العاصمة."
رمش دانيال بعينيه بدهشة.
ثم هز كتفيه وضحك بخفّة.
"هذه أول مرة أسمع بها هذا الكلام. أنا من ارتكب مجزرة جماعية بحق نبلاء؟"
واستمر في الضحك.
لوّح بيده كمن يسمع مزحة سخيفة وقال بابتسامة باهتة:
"أعتقد أن هناك خطأً ما. لا أدري أين تبدأ النكتة، هل يجب أن أعتبر جزء (مجزرة بحق نبلاء) هو الجزء الكاذب؟"
بهذا الرد البارد، بدأ كيلتراك يتصبب عرقًا باردًا.
أما الوزراء والجنرالات فكانت تعابيرهم مختلفة، وكلهم يرمقونه بتوتر.
ولأن كيلتراك لم يتوقع هذا الرد، تلعثم قليلًا قبل أن يستجمع نفسه:
"...لم تكن مزحة. ما حدث في الضاحية كان مذبحة حقيقية ومنظمة. ولا أحد يملك القدرة على تنفيذها سواك."
توقّف دانيال عن الضحك فور أن لاحظ جدية ملامحه.
"إذاً، تقصد أنني..."
وأشار إلى نفسه.
"...المسؤول عن المجزرة؟"
شعر الجميع بهيبة غامضة.
لكن كيلتراك لم يتراجع.
"نعم. بناءً على الظروف، لا يوجد تفسير آخر."
"هل لديكم دليل؟"
لم يستطع كيلتراك الإجابة بسهولة.
فلم يتم العثور على أي دليل في مكان الحادث.
"إن كنتم تتهمونني دون دليل، فاستعدوا لعواقب ذلك."
سادت أجواء ثقيلة في القاعة.
"بصفتي المفوض العام، تلقيت أمرًا مباشرًا من جلالة الإمبراطور بالقضاء على الخونة. وإذا فسرنا كلمة 'خونة' بشكل واسع، فهي تدخل ضمن جرائم التمرد. وتشويه سمعة شخص بريء يعتبر أيضًا نوعًا من التمرد."
توقف دانيال قليلًا ليمنح كيلتراك فرصة لفهم حجم كلامه.
وبعد عدة ثوانٍ من صوت عقارب الساعة، استأنف دانيال حديثه:
"سيدي مدير الاستخبارات."
وصلت كلماته الباردة مباشرة إلى أذني كيلتراك.
"أنت تعلم أن منصب نائب مدير الاستخبارات شاغر حاليًا."
كان يشير إلى اعتقال نائب المدير فيليستون لتواطئه مع دوق بيلفار.
"وبصفتي شخصًا حريصًا على أمن الإمبراطورية..."
ربّت دانيال بأصابعه على الطاولة بخفة، ثم اتكأ على الكرسي.
"لا أرغب في أن يصبح منصب مدير الاستخبارات شاغرًا أيضًا مما يُغرق الإمبراطورية في الفوضى."
اتسعت عينا كيلتراك بفزع.
وبينما كان يبتلع ريقه ويداه ترتجفان، ابتسم له دانيال محاولًا تلطيف الجو.
"بالطبع، إنها مجرد مزحة. ربما كنت تمزح معي أيضًا بنكتة سيئة. لأن فكرة أنني ذبحت النبلاء في المحطة المهجورة سخيفة بالتأكيد."
أطلق ضحكة خافتة وكأن ما قيل لا يصدَّق، ثم نظر مباشرة إلى كيلتراك.
وبهدوء، نطق بكلمات وكأنها إنذار أخير:
"أليس كذلك، سيدي مدير الاستخبارات؟"