عادت سرية الاستطلاع إلى معسكر اللواء بعد مضي نحو ثلاث ساعات.
ورغم أن العائدين كانوا من القوات الصديقة، لم يتمكن الجنود المتمركزون في نقاط الحراسة المؤقتة من الترحيب بهم.
ذلك لأن أسرى يرتدون زي قوات الحلفاء كانوا يسيرون في صفوف خلف سرية الاستطلاع بخطى صامتة.
كانت وجوه الأسرى شاحبة وكأنهم رأوا شبحًا، يحدقون في الأرض أثناء سيرهم.
ولم يكن أفراد سرية الاستطلاع في حال أفضل.
إذ كان الجميع يتطلعون بخوف خفي إلى "لوسي" التي تمشي والدم يغطي جسدها.
لكن لوسي، وكأنها لا تشعر بنظراتهم، كانت تعبر المعسكر بوجه خالٍ من التعابير.
وحين علم "دانيال" بعودة السرية وخرج لاستقبالهم، بدأ العرق البارد يتصبب من جبينه.
(…ما هذا؟)
من الطبيعي أن يشعر بالارتباك حين تعود سرية الاستطلاع، التي خرجت بمهمة بسيطة، ومعها أسرى بهذا العدد.
ويبدو أن قائد السرية نفسه كان مرتبكًا أيضًا، إذ بلع ريقه الجاف قبل أن يتحدث.
"سيدي القائد، أرفع لسيادتكم هذا التقرير. في تمام الساعة 21:40 من مساء اليوم، وخلال عملية الاستطلاع قرب طريق تم اكتشاف ألغام مضادة للدبابات فيه، اشتبكنا مع قوة معادية بحجم كتيبة كانت متربصة في تلال الغابة. العدو بادر بالهجوم المفاجئ."
"تعرضتم لهجوم مفاجئ؟ وليس أنتم من بادر؟"
"نعم، سيدي. تحركنا فورًا للاختباء والرد بإطلاق النار، لكن الوضع كان غير مواتٍ، وكنا نفكر في الانسحاب. لكن... بفضل تدخل النقيب لوسي، انقلبت المعركة رأسًا على عقب، مما أعاد الثقة إلى جنودنا، فقمنا بالرد وحققنا نصرًا كبيرًا."
"ما هي الأرقام بالتحديد؟"
"خسائرنا اقتصرت على 4 قتلى و9 جرحى. أما العدو، فقد خسر حوالي 180 جنديًا، وأسرنا 120 آخرين. كما غنمنا كمية كبيرة من الأسلحة والمعدات."
بعبارة أخرى، تعرضت سرية استطلاع صغيرة لهجوم مباغت من كتيبة عدوة أكبر منها حجمًا، لكنها نجحت في قلب الطاولة والانتصار بخسائر طفيفة.
وقد يبدو هذا غير منطقي، لكن عندما نضيف إلى المعادلة اسم "لوسي إيميلي"، يصبح كل شيء قابلًا للتصديق.
"ليلة مظلمة، والرؤية ضعيفة، وعدونا لا يعرف قدرات لوسي... من الطبيعي أنهم لم يتمكنوا من مجاراتها."
من وجهة نظر قائد كتيبة العدو، فقد واجه كارثة طبيعية تمشي على قدمين.
تنهّد دانيال وهو يحدّق في لوسي، ثم وجه سؤاله إلى قائد السرية "إيهيريام".
"هل أُسر قائد كتيبة العدو؟"
"نعم، عندما وصلنا إلى مركز القيادة، ألقى سلاحه ورفع يديه، وقد بدا أنه فقد الرغبة في القتال كليًا."
"جيد. ضعوه في خيمة فارغة، وسنتحدث إليه لاحقًا. أما بقية الأسرى فاجمعوهم في مكان واحد لتسهيل إدارتهم."
"أمركم، سيدي."
استدار قائد السرية لينفذ الأوامر، وأثناء ذلك، عاد دانيال يتأمل لوسي.
"نائبة القائد."
كان صوته خافتًا، لا يكاد يُسمع.
لقد أراد أن يتحدث دون أن يسمعه الآخرون.
"لا أستطيع أن أفهم. لماذا قمتِ بكل هذا؟"
فما يعرفه دانيال عن لوسي هو أنها تبذل جهدًا كبيرًا لإخفاء حقيقتها.
لكنها الآن كشفت عن كامل قدراتها دون تحفظ، وهو أمر غير مفهوم.
تجنبت لوسي النظر إلى عينيه، وردّت بصوت خافت:
"حين تعرضنا للهجوم، لم يكن لدي خيار آخر لحماية جنودنا."
"هل عليّ حقًا أن أصدق ذلك؟"
كان يقصد أنه يعتقد أنها تعمدت استدراج العدو إلى الهجوم.
أدركت لوسي ما يرمي إليه، لكنها لم تجب، بل ساد الصمت.
فتحت فمها لتبرر، لكن الكلمات لم تخرج.
لاحظ دانيال أن حالتها غير طبيعية، فعقد حاجبيه وسألها بهدوء:
"هل هناك سبب لا يمكنك الحديث عنه؟"
وكان حدسه صائبًا.
فكلما اقتربوا من "بنبارك "، كانت مشاعر الغضب والكره تتصاعد داخل لوسي دون أن تفهم السبب.
وكان دانيال يعتقد أنه فهم جزءًا من مشاعرها.
"إن كان ما قاله التاجر 'هامتال' صحيحًا، فإن بنبارك هو المكان الذي خضعت فيه لوسي لتجارب بشرية. من سلوكها، يبدو أنها تجهل هذه الحقيقة... لكن..."
وتساءل عما إذا كان عليه إخبارها، ثم هز رأسه.
"لا داعي لإثارة البلبلة بمعلومة غير مؤكدة."
قرر التزام الصمت، ثم وضع يده برفق على كتف لوسي.
"نائبة القائد. لن أحقق معك بشأن ما جرى اليوم. في النهاية، تصرفك أفاد الجيش. لكن ما فعلته جعلني وإياك نعبر نهرًا لا عودة منه. عليّ أن أرفع تقريرًا بما حدث."
إذا علمت القيادة العليا أن سرية استطلاع هزمت كتيبة عدوة، فلا بد أن يثير الأمر انتباههم.
وسيركز هذا الانتباه على "لوسي إيميلي"، مما قد يفتح أبواب المشاكل.
ولوسي تدرك ذلك، لذا ظهر الأسف على وجهها.
"أنا آسفة. بسبب تصرفي، تسببّت لكم بالمتاعب، سيدي."
"لا بأس."
قاطعها دانيال بابتسامة لطيفة.
"سأحميكِ مهما كان الثمن."
تفاجأت لوسي من كلماته، ورفعت رأسها ببطء، وقد بدا عليها الذهول.
أما دانيال، فحاول الحفاظ على ابتسامته المصطنعة وهو يستقبل نظراتها الشاردة.
"يجب أن ترسخ في ذهنها أنني الشخص الوحيد الذي يمكنها الاعتماد عليه داخل الإمبراطورية. إذا كنا متعاونَين، فلن تقع حوادث مؤسفة."
قال ذلك بدافع النجاة، لكن لوسي فهمته بشكل أعمق.
فارتعشت عيناها قليلًا.
"وأنا أيضًا..." – همست لوسي بصوت مرتجف – "سأحميك يا سيدي."
يالها من مفارقة.
رغم اختلاف نواياهما، إلا أن هدفهما النهائي كان واحدًا.
بعد أن هدأت الأمور، دخل دانيال إلى الخيمة التي يُحتجز فيها قائد كتيبة العدو.
كان "بنتال" جالسًا على كرسي، مقيدًا، ويبدو عليه الإنهاك.
رفع رأسه عند سماع وقع الأقدام، فرأى دانيال شتاينر يدخل بزيه العسكري المزين بالأوسمة التي تبعث في النفس رهبة غير مبررة.
"المقدم بنتال. سمعت أنك هُزمت رغم أنك قدت كتيبة ضد سرية صغيرة. هل هذا صحيح؟"
عَضّ بنتال على شفتيه وقال بصوت مرتفع:
"كان يفترض بنا أن ننتصر. نعم، كان من المفترض أن نفوز! لكن… تلك المرأة ذات العيون الحمراء… ما هي بحق الجحيم؟! ما ذلك الوحش؟!"
كان بنتال قد ركض نحو ساحة المعركة بعد سماع الصراخ، وهناك رأى ما لا يُصدّق.
وحشًا ذا عيون حمراء يذبح جنوده واحدًا تلو الآخر بسرعة لا يمكن متابعتها بالعين.
كانت حركتها سريعة للغاية، كما أنها شكلت حقل جاذبية جعل من المستحيل على الجنود حتى رفع أسلحتهم.
في ذاكرة بنتال، بدت لوسي كمفترس هائج وسط قطيع من الأغنام.
"تلك المرأة… تتجاوز حدود البشر بمراحل. هل أجريتم تجارب بشرية؟! أيها الأوغاد!"
كاد دانيال يرد بأنهم، أي الحلفاء، هم من بدأوا بتجارب البشر، لكنه تراجع. فهذا لم يكن الوقت المناسب لذلك.
"المقدم بنتال. لم أسمح لك بطرح الأسئلة. أنا فقط من يطرح الأسئلة هنا، وأنت تُجيب. هل هذا واضح؟"
عضّ بنتال على أسنانه من القهر.
وحين رأى دانيال استعداده للكلام، تابع:
"أخبرني عن خطوط دفاع المدينة. أين تبدأ؟ وهل هناك نقاط ضعف يمكننا استغلالها؟"
ضحك بنتال ساخرًا:
"هل تطلب مني خيانة بلدي؟ مضحك!"
"الخيانة الآن خير من الخيانة لاحقًا."
"لن أخضع لقاتل جنودي. ابتعد عني حالًا!"
كان ذلك ردًا متوقعًا.
لكن دانيال شعر بالأسى على عناده.
"بنتال، اسمعني جيدًا. إن لم تجب الآن، فحسب البروتوكول، سيتولى أحد أتباعي استجوابك بطريقة... مختلفة."
"أتعتقد أني لم أكن مستعدًا لذلك؟!"
"لا. لكن المشكلة أنك
لست مستعدًا بما فيه الكفاية
خفض دانيال صوته وهو يلمّح إلى من ينتظره خارج الخيمة:
"من سيقوم بالاستجواب مجنون حقيقي. وأي تدريب خضعت له لن يُقارن بما ستذوقه على يديه. رجاءً… أجب الآن."
رغم صدق لهجة دانيال، لم يتراجع بنتال.
"ابتعد. لن أتحالف مع العدو."
"إذًا..."
تنهد دانيال وغادر الخيمة.
وبعد لحظات، دخلت امرأة وهي تحمل صندوق أدوات.
كانت "فريين".
"مرحبًا؟ أنت المقدم بنتال، صحيح؟ هل تمانع أن نبدأ؟"
أنزلت صندوق الأدوات، وأخرجت منه كماشة.
وتقدّمت بخفة نحو بنتال.
"لنبدأ بشيء بسيط، مثل الأظافر، ما رأيك؟"
"ماذا؟! أليس من المفترض أن تطرحي عليّ الأسئلة أولًا؟!"
"صحيح، لكن يمكننا فعل ذلك لاحقًا، أليس كذلك؟"
تجمّد بنتال في مكانه.
لم يفهم ما تعنيه هذه المرأة.
ابتسمت فريين بلطف وهي تتوقف أمامه.
"الآن وقت العقاب لمحاولتك إيذاء السيد دانيال. إن شعرت بالندم لاحقًا، حينها فقط سأبدأ بطرح الأسئلة. ولا تقلق من عدم القدرة على التوبة..."
"لأني سأظل أعلّمك حتى تفعل. حتى لو أغمي عليك، سأستخدم قدرتي العلاجية لإيقاظك فورًا. أليست هذه نعمة؟"
كلماتها الرقيقة كانت كفيلة بأن تبعث القشعريرة في الجسد.
اقتربت الفتاة بالكماشة من يده.
"فلنبدأ التوبة الآن."
حاول بنتال الهروب، وهو يهز رأسه بجنون، لكن فريين لم تهتم.
"الجميع في البداية ينكر ذنبه. لكن مع الوقت، يبكون ويندمون. وأنت، لن تكون استثناء."
وحين أمسكت بأحد أظافره، بدأ بنتال يلهث من الخوف.
نظر إليها بعينين جاحظتين، وأدرك الحقيقة المروعة:
"لقد كان دانيال شتاينر على حق..."
"هذه المرأة… ليست عاقلة."