ما إن انتهى دانيال من إصدار أوامره، حتى بدأت الفرقة تتحرك بسرعة.
تواصلوا مع هيئة الأركان وشرحوا لهم تفاصيل العملية وحصلوا على الموافقة للدعم، ثم باشروا التحرك ليلًا اعتمادًا على المعلومات التي حصلوا عليها من خلال استجواب أسرى قوات الدفاع (مثل طرق الاستطلاع، ونقاط المراقبة، وشبكة الرصد، إلخ).
وبما أنهم كانوا يعرفون توقيت ومسار الاستطلاع الجوي للعدو، فقد استطاعت فرقة دانيال أن تتحرك بأمان وسط الغابة طوال عشرة أيام تقريبًا دون أن تُكتشف.
ومع انبلاج الفجر، وكما كان يفعل كل يوم، أمر دانيال بإيقاف تحرك القوات وبتغطية العربات والدبابات بشبكات التمويه.
رغم أن هذه العملية مزعجة، إلا أنها كانت الوسيلة الأكثر فعالية لتجنب اكتشاف العدو لموقعهم.
"شد الجهة اليسرى! قلت لك الجهة اليسرى!"
"أحضروا أغصان شجر أو شجيرات لتغطية شبكة التمويه! بسرعة!"
"سنقيم شبكة حراسة ثلاثية! الكتيبة الثالثة تتولى المحيط الخارجي هذه المرة!"
رغم أنهم كانوا يصرخون بالأوامر، إلا أن صوتهم لم يكن مرتفعًا.
كانوا يتوخّون الحذر خشية أن تتسرب أصواتهم خارج نطاق الفرقة.
بينما كان دانيال يستمع لأصواتهم، فتح باب المدرعة ونزل منها.
وبينما كان يراقب الجنود المنهمكين في العمل، سمع صوت خطوات تقترب من الخلف.
عندما التفت، وجد أمامه المستشار الاستخباراتي فِلب، وضابط الطبابة فْرِيِين.
حين رأى دانيال انحناءة رأسيهما، بادرهما بالكلام:
"ما الأمر؟"
رفع الاثنان رأسيهما، وكان فِلب أول من تكلم:
"سيدي القائد، بحسب الاتصال اللاسلكي، يبدو أن قوات الحلفاء تتجمع عند موقع الجسر التابع للعدو. وكما توقعتم، يبدو أن الكونت كاليدرا ينوي مهاجمة قواتنا الوهمية التي تقع خلف الجسر."
كان هذا التقرير قد وصله إلى فِلب رغم تقنين الاتصالات (عشر دقائق يوميًا فقط) بسبب احتمال رصدها من العدو.
هز دانيال رأسه مؤكدًا، لكنه لم يُظهر أي فرح.
"هذه حركة متوقعة، فكاليدرا يريد التخلص مني بأي وسيلة."
لم يكن الكونت كاليدرا يحاول القضاء على دانيال شتاينر لمجرد أنه تسبب بأضرار جسيمة لقوات الحلفاء.
بل لأنه كان يعرف "سرًّا" من أسرار المختبر، لذا أراد أن يزيله من الوجود بأسرع وقت.
لو عاد دانيال إلى العاصمة وفضح ما رآه في مختبر بنبارك، فستكون الحلفاء في ورطة كبيرة.
"ولذلك، عندما علم أنني أعد العدة لهجوم مضاد، اعتقد أن الفرصة قد حانت."
القلق غالبًا ما يشوش التفكير.
كان كاليدرا مشغولًا بفكرة "التخلص من دانيال شتاينر" إلى درجة أنه حشد قوات كانت مخصصة لحماية المدينة عند الجسر.
وكان ذلك لأنه صدق الاتصالات المرسلة من فرقة دانيال الوهمية، والتي أفادت أن "القوات الداعمة من القيادة العامة على وشك الوصول وأن الهجوم الشامل سيبدأ فورًا بعدها."
بل وزادت القيادة العامة الطين بلّة عندما نشرت قبل أيام جريدة في العاصمة عنوانها: "دانيال شتاينر لم يتخلَّ عن بنبارك!"
"لا بد أن هذه كانت أوامر رئيس الأركان العام. يبدو أنه قدّم لي يد العون لخداع الكونت كاليدرا. كنت ألومه لإرسالي إلى بنبارك، ولكن..."
بالنظر إلى الموافقة الفورية على طلب الدعم، والمساعدات التي وصلت من عدة جهات، بدأ يشعر بشيء من الامتنان.
"بالطبع..."
إذا أردنا العودة إلى أصل المشكلة، فكل ما حصل سببه رئيس الأركان، ولا شك في ذلك.
وبينما كان دانيال يسترجع تلك الأفكار المزعجة، أوقف شروده وتحدث:
"إذًا، تركيزهم الآن ابتعد عن بوابة السد. الوقت مناسب. أرسلوا فرقة التسلل لتتمركز هناك بانتظار الإشارة."
"حسنًا. سأصدر أمرًا بانتقاء الأسرع منهم لتنفيذ المهمة."
انحنى فِلب بسرعة ثم غادر.
وأثناء مراقبته مغادرة فِلب، اقتربت فْرِيِين منه قليلًا.
"سيدي اللواء."
بصوت هادئ، تحدثت فْرِيِين وهي تمسك بترمس حراري.
نظر إليها دانيال، فابتسمت له وسكبت القهوة في غطاء الترمس.
"تفضل."
ناولته الغطاء بعدما ملأته بالقهوة.
نظر دانيال إلى الغطاء بدهشة خفيفة:
"هذه ليست قهوة الهندباء... وليست قهوة جاهزة أيضًا. هل احتفظتِ بحبوب البن وطحنتيها بنفسك؟"
"نعم. سمعت أنك تحب القهوة يا سيدي."
كانت هذه القهوة ترفًا نادرًا في زمن الحرب.
شمَّ دانيال رائحتها، ثم أخذ رشفة منها وتنهد بهدوء.
"مذاقها رائع... ربما لأنني لم أشرب قهوة مثلها منذ زمن. شكرًا لكِ."
"إذا كنتَ ممتنًا، فأتمنى أن تدعوني لاحقًا على وجبة طعام. ليس في مطعم هيئة الأركان، بل في مكان راقٍ يشبه المطاعم الراقية."
"لا بأس بذلك. وسأشتري لكِ مثلجات النعناع المفضلة لديكِ أيضًا."
"هذا رائع! مع النقيب لوسي أيضًا..."
لكن صوت فْرِيِين خفت فجأة حين ذكرت اسم لوسي.
وفي لحظة الصمت المحرجة، أشاحت ببصرها وقالت:
"أتمنى أن تكون بخير في بنبارك... لا شيء سيء يحدث هناك، أليس كذلك؟"
"كما قلتِ، ستكون بخير."
نظر دانيال نحو اتجاه بنبارك.
"لوسي فتاة قوية."
كان المطر يهطل في بنبارك.
وأول من لاحظ ذلك كانت لوسي إيميليا.
فمنذ أن حُبست في القصر، لم تكن تفعل شيئًا سوى التحديق عبر النافذة.
"......"
كانت قطرات المطر تتساقط بشكل مائل بسبب الرياح وتصطدم بزجاج النافذة.
وبدأت تلك القطرات تتجمع وتنزلق نحو الأسفل.
كانت لوسي تراقب ذلك المشهد بلا حراك لأكثر من ساعة حين انتفضت فجأة.
فقد سمعت أصوات الجنود خلف الباب.
─ هل حان وقت التبديل؟ كدت أموت من الملل.
─ أحسنت. اذهب واسترح وادخن سيجارة.
─ سأفعل. بالمناسبة، هل سمعت الخبر؟
─ أي خبر؟
─ الكونت حشد قوات الدفاع في المدينة عند الجسر.
فتحت لوسي عينيها نصف المغلقتين ببطء.
─ نعم، سمعت. لهذا تغادر القوات المدينة الآن.
─ من حسن حظنا أننا أوكلنا لحراسة القصر.
─ فعلاً، لو لم نكن هنا لكان علينا الذهاب إلى الجسر الآن.
─ لكن لماذا يحشد القوات عند الجسر فجأة؟
─ لا أعرف. يبدو أنه ينوي التخلص من دانيال شتاينر هذه المرة.
شهقت لوسي من الصدمة.
ولأنهم ظنوا أنها نائمة، واصل الجنود حديثهم:
─ دانيال شتاينر؟ كيف؟
─ لا أعلم التفاصيل، لكن المخابرات قالت إنها اعترضت اتصالات بينه وبين وحدته.
─ يعني حددوا موقعه؟
─ بالتأكيد، ولهذا حشدوا الجيش هناك.
─ خبر سار! أخيرًا سيموت دانيال شتاينر على يد الكونت.
عضّت لوسي شفتها السفلى بقوة حين سمعت ذلك.
لكن الصدمة لم تدم طويلًا.
تنفّست بعمق، ثم تحدثت خادمتها ناميرِياس بصوت خافت:
"آنستي..."
كان القلق ظاهرًا على وجهها الذي انعكس على زجاج النافذة.
"هل أنتي بخير؟ أقصد..."
كانت هناك شائعات تقول إن لوسي إيميليا أنقذت دانيال شتاينر.
رغم أن القليلين فقط كانوا يعرفون، فإن ناميرِياس التي سمعت الكثير من الأحاديث أثناء عملها في القصر، كانت تدري ببعض الأمور.
وعرفت جيدًا من قدّم لها ذاك العقد الذي تتقلده على عنقها.
ولذا كانت تخشى من وقع ما سمعته آنفًا على لوسي.
لكن على عكس توقعاتها، استعادت لوسي هدوءها.
"أنا بخير."
ازداد صوت المطر بالخارج.
ومن خلال النافذة، استطاعت ناميرِياس رؤية تحركات الجيش عن بُعد.
في وسط أصوات المطر، خيّم صمتٌ عميق.
فتحت لوسي عينيها نصف فتحة.
"أن أقول إنني لست قلقة... سيكون كذبًا."
لكنها لم تكن متأثرة إلى الحد الذي يدفعها للانهيار.
اقتربت منها ناميرِياس وهي تتابع بنظرها ما كانت تحدق فيه لوسي.
أرادت أن تعرف ما الذي كانت تراه، لكن لوسي لم تكن تحدّق في شيء.
كانت تنظر إلى المطر المتساقط على النافذة بلا أي تعبير.
"لقد مرت أكثر من عشرة أيام منذ بدأت أخدم آنسة لوسي..."
لكن لوسي لم تطلب شيئًا من ناميرِياس قط.
بل كانت تكرمها وتشاركها الطعام وتنصت لها بصبر.
بالنسبة إلى ناميرِياس، كانت لوسي شخصًا طيبًا.
ولم تستحق أن تُعامل كمعتقلة في قصرها.
وبينما كانت تدعو لها بصمت، قالت بحذر:
"......أتمنى أن يكون بخير. لا يحدث له مكروه، أليس كذلك؟"
ورغم أنها لم تذكر الاسم، إلا أن لوسي فهمت تمامًا من كانت تقصد.
صمتت للحظة، ثم أمسكت بعقد الكهرمان في عنقها وأجابت:
"نعم."
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي لوسي وهي تتذكر دانيال.
"إنه شخص قوي."
تمامًا كما كان دانيال يثق بلوسي، كانت لوسي أيضًا تثق به.