احتل دانيال القصر وأرسل تحذيرًا إلى كونت كالديرا، ثم أبلغ قوات الدفاع التي تخوض اشتباكات صغيرة داخل المدينة من خلال مشغلي اللاسلكي التابعين للحلفاء.
أخبرهم أن كونت كالديرا قد تخلى عنهم وهرب، فإذا كانوا يحرصون على حياتهم فعليهم الاستسلام فورًا.
وأضاف أن من يواصل المقاومة سيُعاقب حتى آخر رجل منهم.
ولم يكتفِ دانيال باستخدام اللاسلكي فقط لحثهم على الاستسلام، بل استخدم محطة الإذاعة داخل المدينة لنقل التحذير أيضًا.
ومع إدراك قوات الدفاع في بنبارك أن الاتصالات قد تم اختراقها، بدأ الجنود يخرجون واحدًا تلو الآخر رافعين الأعلام البيضاء، مما سهّل عملية السيطرة على المدينة.
بعد أن دفع بجميع الأسرى إلى الكنيسة، التي حُددت كمركز احتجاز مؤقت، بدأ دانيال بتأسيس مركز القيادة وتأمين الاتصالات.
وبعد يومٍ واحد.
اتصل دانيال بقيادة الأركان بعد تأمين شبكة الاتصال، ثم أمر بالتحول إلى وضعية الدفاع على الفور.
أعاد توزيع القوات التي دخلت المدينة لغرض السيطرة، وشكل قوات احتياطية.
رغم أنه قد سيطر على بنبارك، إلا أن الجسر يفصلهم عن قواتٍ معادية ما تزال تضم فرقتين، لذا كان من الطبيعي الاستعداد لصدّ الهجوم المتوقع.
بناءً عليه، أمر دانيال بنشر الأسلحة المضادة للدروع والمدفعية على أطراف المدينة ومداخلها، ووضع وحدات المدرعات في وضع استعداد على مسارات التقدم المتوقعة للعدو.
ثم أرسل فيلب، ضابط الاستخبارات، لإبلاغ دار البلدية بنيته في الزيارة، وخرج بنفسه برفقة لوسي إلى أطراف المدينة.
جاءت هذه الجولة للتأكد من تنفيذ الأوامر بالشكل الصحيح من خلال تفقد المواقع ميدانيًا.
عند تفقده للمنطقة، رأى أن المواقع المدفعية والخنادق قرب التلال كانت مهيأة بشكل جيد.
ولم تكن الدبابات، التي تُعدّ القوة الأساسية، بعيدة، إذ كانت موجهة بمدافعها نحو الغابة.
قال أحد الجنود: "لو اقتربوا فقط... سنمزقهم شرّ تمزيق. لا بد أن نثأر لرفاقنا الذين سقطوا بسببهم، أليس كذلك؟"
فأجاب دانيال: "أتفق معك. هذه المرة لسنا من سيتلقى الضربات، بل هم. علينا أن ننتقم منهم بقوة."
وأضاف ضابط آخر: "الزوايا مثالية، ونستطيع رصدهم أولًا، لذا ستكون معركة سهلة."
بدا واضحًا أن الروح المعنوية مرتفعة، إذ أن كلام الجنود والضباط كان مصحوبًا بالضحك والارتياح.
وبينما هم كذلك، لاحظ أحد الضباط وجود دانيال، ففزع ووقف منتصبًا محييًا إياه:
"س-سيادة القائد! أعتذر! لم أكن أعلم أنكم تقومون بجولة تفقدية!"
ورغم أن دانيال كان أصغر من ذلك الضابط، إلا أن التحية كانت مفعمة بالتوتر والاحترام.
تقبل دانيال التحية، ومضى مع لوسي في جولته.
قال: "التحصينات ممتازة، لا حاجة لأي ملاحظات."
أومأت لوسي موافقة، لكنها عبّرت عن قلقها:
"سيدي القائد، صحيح أننا في وضعية دفاعية، وهذا يمنحنا الأفضلية، لكن عدد قوات العدو يفوقنا. لو خسرنا هذا الموقع، فستندلع معارك داخل المدينة، أليس من الأفضل تأمين المواقع الاستراتيجية سلفًا؟"
كانت ملاحظة معقولة، لكن لوسي لم تكن تعلم شيئًا مهمًا.
قال دانيال: "لا داعي للقلق، القيادة العليا سترسل دعمًا قريبًا."
"……دعم؟"
"نعم، وهذه المرة ليس دعمًا مزيفًا. حالما يتم تفجير السد، ستتحرك كتيبة السحر المتنقلة بقيادة العميد هاينريش نحو هذا الموقع."
عندها فقط فهمت لوسي سبب هدوء دانيال وثقته الزائدة.
فالفرقة المؤقتة للعدو أصبحت معزولة بعد فرار كونت كالديرا وتركه لمركز القيادة.
وبغياب المعلومات، أصبح العدو كالأعمى والأصم.
ولأنهم لا يستطيعون الاستسلام، سيحاولون استعادة بنبارك اعتمادًا على تفوقهم العددي.
ومن المؤكد أن المعركة ستندلع هنا.
وفي ذلك التوقيت، إذا هاجمت كتيبة السحر النخبوية العدو من الخلف، ستقع الفرقة المؤقتة في كماشة نارية.
وسيتسبب هذا في انهيار معنويات العدو، وبالتالي سيكون النصر سهلًا.
"الشيء الوحيد المقلق في هذه المعركة هو مقابلة العميد هاينريش."
كان هاينريش، خلال عملية غزو نورديا سابقًا، من أطلق على دانيال لقب "الذئب المتعطش للدماء"، وهو يضحك بصخب.
كما أنه هو من ترك لدانيال منصب قائد القوات المحتلة دون أن يستشيره، ثم اختفى.
لذلك، لم يكن لدى دانيال أي ذكرى جيدة عنه.
أزاح دانيال هذه الذكريات المزعجة عن ذهنه وهز رأسه.
"على كل حال، أظن أن جولتنا كافية. سأتجه الآن للعودة. ابقي أنتِ وواصلي التفقد، ثم أرسلي تقريرًا."
"نعم؟ آه، حاضر. هل ستتوجهون إلى دار البلدية؟"
أومأ دانيال: "نعم. لدي بعض الأمور المهمة لأناقشها مع عمدة المدينة."
*
في هذه الأثناء، في غرفة الاستقبال بدار البلدية.
"…أيها السيد، إن كان لديكم مطلب، أرجو أن توضحوه صراحة."
كان في صوت العمدة كايمبوريت شيء من الارتجاف.
ولم يكن هذا مستغربًا، فالجدران كانت مصطفّة بجنود النخبة التابعين لدانيال شتاينر.
وهم بكامل تجهيزاتهم، فبدا الموقف مرعبًا.
أما فيلب، ضابط الاستخبارات الجالس أمامه، فكان يبدو هادئًا مطمئنًا، كما لو أنه يقول "اطمئن، لا تقلق".
قال :"لا أفهم لماذا تتصرف هكذا. ألم أقل لك للتو إن قائد اللواء سيأتي بنفسه للتحدث معك؟"
رد كايمبوريت بتوتر: "نعم، لكن... لا يمكن أن أبقى هنا دون أن أعلم ما الذي يريده بالضبط. أليس من المفترض أن يُعطيني تلميحًا على الأقل حتى أستعد؟"
ثم مال بجسده نحو فيلب وهمس بصوت لا يكاد يُسمع:
"هل... هل يطلب المال؟ إن كان كذلك، يمكنني تدبيره بسرعة. أستطيع أن أقدمه على شكل سبائك ذهب أيضًا..."
لكنه سكت فجأة.
فقد تغيّرت نظرات فيلب، وأصبحت باردة كالثلج.
فبالنسبة لفيلب، الذي يكنّ احترامًا عظيمًا لدانيال، كانت الإشارة إلى أن القائد يفعل هذا من أجل المال، بمثابة إهانة.
أحسّ كايمبوريت بالأجواء، فابتلع ريقه وتراجع إلى الوراء.
ثم تكلم فيلب بصوت هادئ وثابت، وهو يحدّق فيه:
"انتبه لكلامك، فصاحب السلطة في بنبارك الآن هو القائد، لا غيره."
ارتجف كايمبوريت من وقع هذا التهديد المبطن، وأومأ برأسه مذهولًا.
وفيما عاد فيلب لابتسامته الهادئة، سُمع صوت باب الاستقبال وهو يُفتح.
ودخل ضابط طويل القامة يرتدي بزته العسكرية ومعلّق على صدره وسام التنين الأبيض.
لقد كان دانيال شتاينر، الذي يعرفه كايمبوريت جيدًا.
تبادلت عيونهما، فابتسم دانيال واقترب.
وقف كايمبوريت بسرعة، فمدّ دانيال يده قائلًا:
"أنا اللواء دانيال شتاينر، حاليًا أتولى قيادة وحدة تابعة لقيادة الأركان."
"أنا... عمدة بنبارك، كايمبوريت."
صافحه دانيال ثم أشار إلى الأريكة.
"ما رأيكم أن نجلس ونتحدث براحة؟"
"أ... نعم، سيكون ذلك أفضل."
جلس كايمبوريت كما طُلب منه، وجلس دانيال أيضًا مقابلًا له، وخلع قبعته ووضعها على الطاولة.
تبادل بضع كلمات مع فيلب، ثم نظر إلى كايمبوريت قائلًا:
"كنت أتمنى أن نتحادث أثناء وجبة، لكنني مشغول جدًا للأسف، لذا سأضطر لمعالجة الأمور هنا. أرجو أن تتفهموا."
"لا، لا. بل أنا من يشعر بالشرف بلقائكم. لكن، إن سمحتم، ما سبب رغبتكم في رؤيتي؟"
مسح دانيال ذقنه وقال وكأن الأمر لا يستحق الذكر:
"أود أن تشهدوا بأن كونت كالديرا أجرى تجارب بشرية في بنبارك."
انفتحت شفتا كايمبوريت بدهشة تامة.
لم يكن لديه أدنى فكرة عن كيف عرف دانيال بهذه المعلومات.
وفوق ذلك، كان مطلب دانيال أشبه بأمرٍ مباشر بخيانة الكونت، مما ضغط عليه نفسيًا.
قال بتردد: "تجارب بشرية؟ هذا... هذا لا يبدو معقولًا."
ثم ابتسم بتكلف: "لا أفهم ما تقولونه. هل تقصدون أنه جرت تجارب بشرية في مدينتي؟"
إنكار؟ لم يكن مفاجئًا.
قال دانيال: "حسب معلوماتي، أنتم تشغلون منصب العمدة منذ ما قبل الحرب، أليس كذلك؟ وقد كنتم في مناصبكم حين تم إنشاء المختبر، صحيح؟"
"ذلك... نعم..."
"بناء أي منشأة داخل المدينة يتطلب موافقة العمدة. حتى لو أمر الجيش ببنائها، فلابد أن تُبلغ بها على الأقل."
ثم ابتسم دانيال:
"إذًا، لا يمكن أنكم لا تعلمون."
ارتعشت عينا كايمبوريت بشدة، وكأنه وصل إلى طريق مسدود.
لكنه لم يستطع خيانة الكونت.
وليس بدافع الولاء فقط.
فقد كان كايمبوريت يتقاضى أموالًا طائلة مقابل تغاضيه عن تلك التجارب، بل وساعد فيها عدة مرات.
لذا لم يكن لديه خيار آخر.
قال بحزم:
"حتى لو كنت العمدة، لا يمكنني معرفة كل مخططات الجيش."
حدّق فيه دانيال ورفع كتفيه:
"حسنًا. في هذه الحالة، دعنا نستعمل جهاز كشف الكذب لنرى إن كنتم تقولون الحقيقة."
"…جهاز كشف الكذب؟"
"نعم، لقد طور جيشنا مؤخرًا جهاز كشف كذب متطور جدًا. بما أنك تبدو مهتمًا، سأريك إياه."
في أثناء حيرة كايمبوريت من استخدام كلمة "طوّر"، صفق دانيال مرتين بيديه.
فُتح الباب، ودخلت ضابطة ترتدي زيًّا رسميًا، ذات مظهر هادئ يشبه الملائكة، بابتسامة دافئة تحت رموشها الكثيفة.
ظلّ كايمبوريت يحدق بها بذهول، ثم نظر إلى دانيال بتساؤل:
"لا تقل لي أن هذه الآنسة الرقيقة هي ما تقصده بجهاز كشف الكذب؟"
ظهرت على وجهه ملامح الاستهزاء، ثم انفجر ضاحكًا:
"هل تنوون أخذي إلى الاعتراف؟! لا بأس، فأنا لم أكذب، لكنني لا أفهم كيف يمكن لامرأة مثلها كشف كذبي!"
كان رد فعله طبيعيًا، بما أنه يجهل سمعة "فريين".
ولن يفيده الشرح، فالتجربة خير برهان.
بينما كان فيلب ينظر إليه بشفقة، ابتسم دانيال بهدوء وقال:
"ستعرف قريبًا."