بعد أن أنهى دانيال ترتيب ساحة المعركة، أخذ يومًا للراحة، ثم دعا الجنرال هاينريش شميت إلى صالون قصره.
هاينريش، الذي قبل الدعوة بسعادة، لم يرَ ضرورة للتأخير وتوجّه مباشرة إلى الصالون.
بفضل ذلك، جلس دانيال الآن على أريكة الصالون يواجه هاينريش وجهًا لوجه.
الندبة البارزة على وجهه المتجعد كانت دومًا تترك انطباعًا قويًا.
شعر دانيال، دون أن يدرك، بشيء من الرهبة، فاعتدل في جلسته وتحدث بنبرة مهذبة:
"الجنرال هاينريش، يسعدني أن أراك بصحة جيدة رغم مرور الوقت."
تحركت شفتا هاينريش، الذي كان يحمل تعبيرًا جادًا، وكأن ابتسامة كانت تلوح في الأفق.
وبالفعل، ضحك هاينريش بصوت عالٍ بعد أن راق له كلام دانيال.
"أنا أقود نخبة قوات الإمبراطورية، فكيف لا أكون في صحة جيدة؟! لكن، لا زلت غير معتاد على رؤية نجمة على كتفك. أتذكر جيدًا أنك كنت مجرد ملازم مبتدئ عندما التقينا أول مرة."
دانيال تذكّر أيضًا لقاءه الأول مع هاينريش في ربيع العام الماضي، حين كان برتبة ملازم.
وبينما كان يشعر بمرور الزمن، ابتسم ابتسامة خفيفة.
"أنا أيضًا لا أزال غير معتاد. رغم إنجازاتي، لم أتخيل أن أرتقي إلى رتبة عميد بهذه السرعة."
"صحيح أنها سابقة نادرة، لكنني أرى أن رتبتك مستحقة. فالإمبراطورية تقوم على مبدأ الثواب والعقاب، والجيش بحاجة إلى الكفاءات."
قال هاينريش ذلك وهو يخرج علبة سجائر من جيبه بابتسامة خفيفة.
"في هذه المعركة، لم نفعل سوى تقديم الدعم، وكل التخطيط كان من جانبك. لم نكد نبدأ حتى استسلم العدو، مما أفسد المتعة قليلاً..."
وبينما كان يضع السيجارة في فمه، اقترب منه مساعده وأشعلها له ثم تراجع للخلف.
أطلق هاينريش الدخان من بين شفتيه وهزّ كتفيه.
"على أية حال، الانتصار دون قتال هو الأفضل دائمًا. لكن، بما أنك دعوتني إلى هنا، فلا بد أنك تود مناقشة أمر مهم، أليس كذلك؟"
كالعادة، كان سريع البديهة.
لم يرَ دانيال سببًا لإخفاء الأمر، فأومأ برأسه.
"نعم، أود مناقشة مسألة تعيين قائد عسكري لمنطقة بينبارك التي نخضعها للحكم العسكري."
"وما رأيك في هذا الشأن؟"
"رغم أن اتباع قرار هيئة الأركان هو الأنسب، إلا أنني أرى أن الجنرال هاينريش هو الأنسب لهذا المنصب."
ارتفع حاجب هاينريش قليلاً.
(هل يحاول أن يحمّلني هذه المسؤولية؟)
كان من المعروف عن هاينريش، بصفته قائد القوات السحرية المتنقلة، أنه أحد المتحمسين للحروب في الإمبراطورية.
وبالنسبة له، فإن تولي مسؤولية إدارة منطقة محتلة يشبه المنفى.
فحتى وإن كانت فترة مؤقتة، كان كرهه لعدم مغادرة بينبارك كبيرًا.
"... ولماذا تعتقد أنني الأنسب؟"
رغم الضغط في نبرة هاينريش، أجاب دانيال بهدوء:
"رغم خضوع بينبارك لقوات الإمبراطورية، إلا أنها لا تزال تعيش حالة من الفوضى. ونحن بحاجة لحكم عسكري قوي، حتى لا نعطي فرصة للمتمردين أو من تبقى من القوات المعادية."
"هممم..."
"وجودك، سيدي، بحد ذاته يمثل قوة ردع. فلا أحد من مواطني التحالف يجرؤ على التمرد في وجه القوات السحرية المتنقلة."
لم يكن ما قاله دانيال خاطئًا.
لكن هاينريش لم يكن يرغب في قضاء وقته وسط الملفات والتوقيعات، ولهذا ظل مترددًا.
لاحظ دانيال تردده، فواصل حديثه بهدوء:
"الجنرال هاينريش، صدقًا، كنت أتمنى أن أتولى هذه المسؤولية بنفسي. لكن علي العودة إلى العاصمة في أقرب وقت ممكن، لإبلاغ جلالة الإمبراطور عن تجارب البشر التي جرت في بينبارك."
نصيحة صغيرة: إذا شعرت أن الإقناع صعب، فقط اذكر الإمبراطور.
كما توقّع دانيال، تنهد هاينريش وكأنه استسلم للأمر.
"لطالما شعرت أنني لا أستطيع مجاراتك بالكلام. حسنًا، سأرفع تقريرًا بأنني سأتحمل مسؤولية الإدارة العسكرية هناك."
ابتسم دانيال باختصار.
"أشكرك على تعاونك. بما أننا أنهينا الحديث، سأذهب الآن. لدي أمور أخرى يجب إنجازها قبل عودتي إلى العاصمة."
قال ذلك وانحنى احترامًا، فرد هاينريش بإيماءة رأس، بينما غادر دانيال الصالون.
وما إن غادر حتى أطلق هاينريش ضحكة خفيفة.
(لا أشعر بالسوء… لكن بطريقة ما…)
لم يستطع التخلص من الشعور بأنه انساق خلف كلمات دانيال.
وصل دانيال إلى مكتب القائد في القصر، وأطلق صرخة داخلية من الفرح.
(أحسنت! تم تمرير المسؤولية بنجاح!)
كان يعتبر ذلك إنجازًا عظيمًا، إذ كان يفضّل العودة بسرعة إلى العاصمة بدلًا من التورط في مشاكل استقرار المدينة.
(الجنرال هاينريش، لا تلمني كثيرًا، فأنا فقط أردت رد الدين لما حصل في نورديا.)
فكّر بذلك وهو يجلس خلف مكتبه.
وبينما كان يحاول تهدئة حماسه، ويرتب أولوياته، سمع صوت طرق خفيف.
طَرق طَرق──
رفع رأسه، فجاءه صوت من خلف الباب:
"سيدي القائد، أنا المساعدة لوسي إميليا. هل لي بالدخول؟"
فوجئ دانيال وظهرت علامة استفهام فوق رأسه.
(ألم أقل لها أن تأخذ اليوم راحة؟)
كان قد أمرها بالراحة ليوم كامل تعويضًا عن تعبها، فاستغرب من ظهورها.
لكنه لم يكن ليطردها، فأذن لها بالدخول.
دخلت لوسي، مرتدية ملابس مدنية خلافًا للعادة.
بلوزة بدون أكمام تركت كتفيها مكشوفتين بالكامل.
ومن الطبيعي أن هذه الملابس لم تكن من اختيار لوسي.
بل كانت من اختيار ناميرياس، التي أعارَتها إياها لمساعدتها في "إغواء" الجنرال دانيال.
تفاجأ دانيال لرؤية لوسي بهذا الشكل المدني، فتحدث بتردد:
"... ملابس مدنية؟"
"بما أنني في إجازة."
(هل هذه تعرف معنى الإجازة؟)
"مساعدتي؟ الإجازة تعني التحرر من العمل."
"أنا أعلم ذلك."
"فلماذا أتيتِ إلى العمل إذًا؟"
"كنت مارّة بالمنطقة، وتذكرت أمرًا يجب معالجته بسرعة..."
لم يعرف دانيال بمَ يرد. حتى لو كان هناك أمر عاجل، ليس من الطبيعي المجيء في إجازة.
حاول التفكير لإيجاد مبرر، ثم توصّل إلى نتيجة سطحية:
(هل هي مدمنة عمل؟)
… لا، لم تكن كذلك.
لوسي أرادت فقط قضاء بعض الوقت مع دانيال بملابسها المدنية.
لكن دانيال، الذي لم يكن يعلم نيتها، أومأ برأسه بقبول.
"إن كان هذا ما ترغبين به، فلن أمنعك. اجلسي وراجعي ما ترغبين."
"شكرًا لتفهمك."
جلست لوسي خلف مكتبها وأخرجت بعض الأوراق.
وبينما كانت تتظاهر بمراجعتها، تذكرت نصيحة ناميرياس:
— "آنستي! الرجال ينبض قلبهم عندما يرون امرأة تربط شعرها أمامهم! حاولي ذلك!"
رغم أنها لم تفهم السحر الكامن خلف تلك الحركة، أرادت تجربتها.
لكن كان يجب أن تلتقط نظر دانيال قبل أن تربط شعرها.
كيف تجذبه للنظر؟
تظاهرت بالتذمر وقالت:
"الجو حار جدًا هذه الأيام."
"صحيح. يجب أن نأمر بارتداء القبعات خلال النهار لمواجهة الحرارة."
لكن دانيال لم يرفع عينيه عن الأوراق.
شعرت لوسي بالحيرة، ثم تمتمت بتوتر:
"آه... الجو حار. أعتقد أنه يجب أن أربط شعري..."
رفع دانيال رأسه، ليس بسبب الشعر، بل لأن نبرة صوتها كانت غير طبيعية تمامًا.
لم تدرك لوسي ذلك، وظنت أن اللحظة المناسبة قد حانت.
وضعت رباط الشعر في فمها، ورفعت يديها لتجمع شعرها.
وبحركتها، تقدّم صدرها إلى الأمام وظهر بوضوح، وبدت إبطيها مكشوفين.
أحسّت بالخجل الشديد، لكنها تمسكت بالمشهد كما قالت لها ناميرياس.
دانيال، الذي كان يراقب بصمت، فكّر:
(لماذا تستغرق كل هذا الوقت لربط شعرها؟)
لم يفهم شيئًا.
فجأة نظر إلى ساعته ونهض من مكانه.
لقد حان وقت الاجتماع مع طاقم القيادة.
"مساعدتي، سأذهب إلى غرفة القيادة. إن انتهيتِ من عملك، فعودي للراحة."
"مم..."
صدر منها صوت غريب، فقد كانت تمسك الرباط بين شفتيها.
أزالت الرباط بخجل، وأومأت بصوت منخفض:
"… حاضر."
ظنّت أن خطتها فشلت، وغمرها شعور بالحرج.
لاحظ دانيال أنها لا تجرؤ على رفع رأسها، فابتسم بهدوء.
جمع أوراقه، ثم، قبل أن يخرج، التفت إليها وقال:
"رغم أنه اختيار جريء، إلا أن البلوزة تليق بك كثيرًا."
رفعت لوسي رأسها بدهشة، لتجد دانيال يبتسم برقة.
"أقصد البلوزة التي ترتدينها."
قال ذلك وخرج.
تركت وحدها، أعادت كلماته في ذهنها، وشعرت بحرارة وجهها ترتفع.
عضّت شفتها بخفة وأغمضت عينيها.
(كنت أحاول إغواء دانيال...)
لكن ما حصل هو العكس تمامًا.
(يبدو أنني…)
وقعت في حبه أكثر من قبل.
ت.م : لقد وصلت الي بيتي اخيرا و معذرة علي الانقطاع لم تكن اموري مستقرة