الليالي في قصر ڤيرتون أصبحت تطبق على أنفاسي ككفن من حرير أسود.
كل يوم يمر كان يزيد من يأسي الصامت، من غضبي المكتوم تجاه هذا السحر المقيّد الذي يمثل وصمة عار على كوني سليل هذه العائلة الملعونة.
الجوكر، ذلك الشبح المقنع، كان يرسم لوحاته الدموية في العاصمة بحرية شبه مطلقة، يرسل برسائل رعب واضحة إلى النبلاء الفاسدين.
وأنا؟ أنا هنا، أمارس طعنات وصدّات بسيف تدريبي ثقيل، وأحاول عبثًا إيقاظ قوة نائمة ترفض أن تستجيب.
في إحدى تلك الليالي التي امتزج فيها الأرق بالحنق، اتخذت قراري. البرج القديم. ذلك الهيكل الحجري الذي ينتصب كشاهد أبكم على أطراف حدائق القصر الخلفية، البرج الذي قيل إنه كان مرصدًا لأجداد ڤيرتون الأوائل، أولئك السحرة الذين غاصوا في أسرار الكون المظلمة.
"عين الحقيقة" كانت قد أظهرت لي هالة من الطاقة السحرية القديمة، الخامدة، التي تلفه كضباب غير مرئي.
إذا كان هناك أي مكان في هذا القصر اللعين قد يحمل مفتاحًا لقوتي، أو على الأقل جزءًا من إجابة، فسيكون هناك.
كانت مخاطرة، أعرف ذلك. الأماكن القديمة المشبعة بالسحر المنسي نادرًا ما تكون ودودة.
لكن البقاء هنا، في هذا الجمود القاتل، كان مخاطرة أكبر على عقلي الذي بدأ يتمزق من فرط التفكير العقيم.
انتظرت حتى غطت ظلمة ما بعد منتصف الليل القصر بعباءتها الثقيلة. تسللت من جناحي، مرتدياً ملابس داكنة بسيطة، وحذاءً جلدياً ناعم النعل لا يصدر صوتاً.
لم أحمل معي سوى خنجري الفضي، رفيقي الصامت من الغابة السوداء، والذي أصبح كجزء من جسدي.
"عين الحقيقة" كانت نشطة، ترسم خطوطاً باهتة من الطاقة حول الأشياء، وتكشف عن التيارات الخفية في الهواء، والصداع الخفيف خلف جبهتي كان الثمن الذي أدفعه عن طيب خاطر مقابل هذه البصيرة.
الحدائق الخلفية للقصر كانت عالماً آخر في الليل. أزهار الظلال ذات الألوان القاتمة كانت تبدو وكأنها تتوهج بضوء شبحي خافت، ورائحتها الحلوة المقززة أصبحت أشد كثافة.
الأشجار القديمة كانت تلقي بظلال متطاولة، مشوهة، ترقص مع كل هبة نسيم باردة، كأرواح معذبة تحاول أن تحذرني.
اقتربت من البرج. كان أضخم وأكثر ترهيبًا مما بدا عليه من بعيد. حجارته سوداء، متآكلة بفعل الزمن والطقس، لكنها لا تزال تحمل شعورًا بالقوة الخشنة، كأنه نبت من الأرض نفسها ولم يُبنَ بيد بشر.
نوافذه القليلة كانت ضيقة، كعيون وحش نائم، مغطاة بغبار قرون.
"عين الحقيقة" أظهرت لي أن البرج كله كان ينبض بهالة أرجوانية داكنة، كثيفة، كأنها قلب ينبض ببطء شديد، وفيها تيارات من طاقة مضطربة، غير مستقرة.
كان هناك شعور بالضغط، كأن الهواء حول البرج أثقل، وأكثر كثافة.
بابه كان مصنوعًا من خشب السنديان الأسود، سميكًا وضخمًا، ومقوى بدعامات حديدية صدئة.
لم يكن عليه أي قفل ظاهر، لكنه بدا وكأنه لم يُفتح منذ قرون. دفعت بكل قوتي. في البداية، لم يتزحزح.
ثم، مع صرير مؤلم، كأنه أنين وحش يحتضر، بدأ الباب يستجيب، وانفتح ببطء كافٍ ليسمح لي بالمرور.
ما إن خطوت إلى الداخل، حتى ابتلعني ظلام دامس، ورائحة غريبة، مزيج من الغبار المتراكم، والعفن، ورائحة معدنية خافتة تشبه رائحة الدم الجاف، وبشيء آخر، شيء لاذع، كأنه رائحة سحر قديم، محترق.
الهواء كان ثقيلاً، راكدًا، باردًا بشكل غير طبيعي، وشعرت على الفور بذلك الضغط المألوف في رأسي يتزايد، ذلك الصداع الذي كان يرافق استخدام "عين الحقيقة" أصبح الآن أكثر حدة، كأن شيئًا ما في هذا البرج يحاول أن يخترق عقلي، أن يضعف تركيزي.
"سبعة طوابق على الأقل فوق هذا،" تمتمت وأنا أتفحص المكان بعيني التي بدأت تتأقلم مع الظلام.
"وربما طابق أرضي أو قبو تحته." كان سقف هذا الطابق الأول عاليًا جدًا، يختفي في الظلال.
لم تكن هناك أي نوافذ، ومصدر الضوء الوحيد كان ما يتسلل من الباب المفتوح خلفي، وشعاع القمر الباهت الذي اخترق فتحة صغيرة، عالية جدًا في أحد الجدران، كعين شيطان تراقب.
لم تكن هناك أي مخلوقات. لا حشرات، لا فئران، لا حتى عناكب. الصمت كان مطبقًا، لكنه ليس صمت الفراغ، بل صمت مشحون، صمت الترقب، كأن الجدران نفسها تحبس أنفاسها، تنتظر.
"عين الحقيقة" كانت تعمل بصعوبة هنا. الصور كانت تتراقص، والهالات تتداخل، والصداع يزداد سوءًا مع كل محاولة للتركيز. لكنني رأيت ما يكفي لأشعر بالرعب يتسلل إلى عظامي.
الجدران الحجرية لم تكن مجرد حجارة. كانت مغطاة بنقوش، نقوش غريبة، معقدة، تمتد على كل شبر، كأنها جلد وحش أسطوري.
بعضها كان أنماطًا هندسية مستحيلة، تتغير وتلتوي إذا نظرت إليها مباشرة. وبعضها كان يصور أشكالًا بشعة، كائنات نصف بشرية ونصف وحشية، في أوضاع تعذيب أو طقوس مظلمة.
شعرت بالغثيان. هذا المكان... لم يكن مجرد مرصد. كان معبدًا لشيء قديم، وشيء شرير.
بدأت أتحرك بحذر، وقدماي بالكاد تلامسان الأرضية المغطاة بالغبار الناعم كالبودرة.
كل خطوة كانت تثير سحابة صغيرة من الغبار، تتراقص في شعاع القمر الوحيد كأرواح ضائعة.
الهواء كان يزداد برودة، والصداع في رأسي أصبح كقرع مطارق حديدية. تركيزي بدأ يتشتت، وشعرت بالدوار يهاجمني.
"عليّ أن أجد شيئًا... أي شيء..." تمتمت، وأنا أقاتل الشعور بالضيق الذي بدأ يطبق على صدري.
اقتربت من أحد الجدران، حيث كانت النقوش تبدو أكثر كثافة وتعقيدًا. كانت تصور ما يشبه خريطة سماوية، لكن النجوم والأبراج فيها لم تكن مألوفة.
وفي وسط الخريطة، كان هناك رمز كبير، يشبه عينًا مفتوحة، تحيط بها اثنتا عشرة علامة غريبة.
حاولت أن أركز "عين الحقيقة" على هذه النقوش. الألم في رأسي أصبح لا يطاق.
الصور أمامي بدأت تتراقص وتتشوه. لكنني صممت. أجبرت نفسي على التركيز، على اختراق طبقات الغبار والزمن والسحر القديم.
وفجأة، ومضت بعض الرموز بضوء خافت، أزرق داكن، لا يرى إلا بـ "عين الحقيقة". كأنها استجابت لتركيزي، أو لطاقة ما في داخلي.
وبدأت أرى كلمات، أو بالأحرى، مفاهيم، تتشكل في عقلي، كأن النقوش تتحدث إليّ بلغة تتجاوز الكلمات.
الكلمات كانت متقطعة، غامضة، لكنها كانت تحمل وزنًا مرعبًا:
«...اثنا عشر...»
«...واحد...»
«...شيطان...»
«...حاكم...»
"اثنا عشر... واحد... شيطان... حاكم..." كررت الهمس، وشعرت بالبرد القارس يغلف قلبي.
ماذا يعني هذا؟ اثنا عشر ماذا؟ هل هي أبراج؟ أم أقمار؟ أم شياطين؟ و"واحد"... هل هو واحد منهم؟ أم واحد يقف ضدهم؟ أم أنه "الواحد الأوحد"؟
و"شيطان"... هل هو وصف، أم اسم، أم لقب؟ و"حاكم"... حاكم من؟ حاكم هؤلاء الاثني عشر؟ أم حاكم الشيطان؟ أم أن الشيطان هو الحاكم؟
الغموض كان يقتلني. لكن الشعور بالرعب كان أشد. هذه الكلمات... لم تكن مجرد كلمات. كانت تحمل صدى قوة قديمة، قوة مظلمة، قوة تتجاوز فهمي.
فجأة، شعرت بأن الأرض تهتز تحتي بشكل طفيف. أو ربما كان مجرد رأسي الذي يدور.
الهمسات التي كنت أسمعها بشكل خافت في البداية، أصبحت الآن أكثر وضوحًا. لم تكن كلمات، بل أصوات، تنهدات، ضحكات مكتومة، كأن أرواحًا معذبة محبوسة في هذا البرج تحاول أن تتواصل معي، أو أن تسخر مني.
نظرت حولي، وشعرت بأن الجدران تقترب مني، بأن الظلال تتعمق، وتتشكل في هيئات بشعة.
هل كان هذا حقيقيًا؟ أم أن البرج يتلاعب بعقلي، يستغل ضعفي، وصداعي، وخوفي؟
الصداع أصبح الآن ألمًا حارقًا، كأن شيئًا ما يحاول أن يمزق دماغي من الداخل.
"عين الحقيقة" أصبحت عديمة الفائدة تقريبًا، الصور تتداخل وتتشوه، والهالات تتراقص كألسنة لهب مجنونة.
"كفى..." تمتمت، وشعرت بالدوار يزداد. "عليّ الخروج من هنا... الآن."
لكن عندما استدرت لأعود إلى الباب، لم أجده. الجدار الذي كان فيه الباب أصبح الآن جدارًا صلبًا، مغطى بنفس النقوش المرعبة.
"لا... لا يمكن!" صرخت، وشعور بالهلع البارد بدأ يسيطر علي. هل أنا محاصر؟
بدأت أتحسس الجدار بيدي المرتجفتين، أبحث عن أي أثر للباب، أي مفصل، أي شيء. لكن لم يكن هناك سوى الحجر البارد، والنقوش التي بدت وكأنها تسخر من يأسي.
الهمسات أصبحت أعلى، أقرب. شعرت بأنفاس باردة على مؤخرة عنقي. استدرت بسرعة، لكن لم يكن هناك أحد. فقط الظلال، والنقوش، والصمت المشحون بالرعب.
"هذا ليس حقيقيًا،" قلت لنفسي، محاولاً التشبث بما تبقى من عقلي. "إنه البرج... إنه يتلاعب بي."
أغمضت عيني، وحاولت أن أهدأ، أن أركز. تذكرت الغابة السوداء، وتلك الهمسات الخبيثة. تذكرت كيف قاومت.
فتحت عيني مرة أخرى، ونظرت إلى الجدار حيث كان الباب. ركزت بكل ما أملك من قوة، متجاهلاً الألم، متجاهلاً الهمسات، متجاهلاً الظلال.
"عين الحقيقة"، رغم تشوشها، أظهرت لي وميضًا خافتًا، خطًا رفيعًا من الطاقة، حيث كان يجب أن يكون إطار الباب.
"أنت هناك،" تمتمت، وابتسامة متعبة، لكنها عنيدة، ارتسمت على شفتي.
تقدمت نحو ذلك الخط الرفيع، ومددت يدي. لامست شيئًا صلبًا، باردًا. دفعت.
وللمرة الثانية، مع ذلك الصرير المؤلم، انفتح الباب، كاشفًا عن ضوء القمر الباهت في الخارج، الذي بدا الآن كأنه ضوء الجنة.
اندفعت خارج البرج، وكأن شيطانًا يطاردني. الهواء النقي، أو ما بدا نقيًا مقارنة بجو البرج الخانق، صفع وجهي كريح جليدية.
انطلقت من الباب الحجري الثقيل كأنني أهرب من فم الجحيم نفسه، ولم أتوقف عن الركض الأعمى إلا عندما تعثرت جذور شجرة ملتوية وكدت أسقط على وجهي.
استندت إلى جذعها الخشن، ألهث بشدة، والعرق البارد يغطي جسدي المرتجف.
البرج. ذلك الهيكل الملعون. لا يزال يقف هناك، صامتًا، شامخًا في ظلمة الليل، كشاهد أسود على الرعب الذي اختبرته للتو.
"اثنا عشر... واحد... شيطان... حاكم..." الكلمات كانت لا تزال تتردد في ذهني كصدى مشؤوم، كطنين بعوضة سامة.
"نجوت..." تمتمت، والكلمات خرجت متقطعة، ممزوجة بأنفاسي المتسارعة. "لقد نجوت..."
لكن احتفالي بالنجاة كان قصير العمر. قصيرًا بشكل مأساوي.
شعرت به أولاً كحرقة خفيفة في مؤخرة حلقي، ثم كوخز حاد في صدري، ليس في مكان الندبة الفضية، بل أعمق، كأن شيئًا ما يتمزق في داخلي.
الصداع الذي كان يرافقني داخل البرج، والذي خفت حدته قليلاً مع خروجي، عاد الآن بقوة مضاعفة، كأنه آلاف الإبر الحامية تنغرس في دماغي.
"آخخخ..." تأوهت، ورفعت يدي إلى رأسي، وشعرت بأن العالم يدور بي. "ما... ما هذا؟"
ثم بدأ.
سعال جاف، حاد، هز جسدي بعنف. ثم سعال آخر، أعمق، وهذه المرة، شعرت بذلك الطعم المعدني، الدافئ، في فمي. دم.
بصقت على الأرض، ورأيت في ضوء القمر الباهت بقعة داكنة، لزجة. رعشة عنيفة سرت في جسدي. لم يكن مجرد سعال دموي بسيط. كان شيئًا أسوأ.
شعرت بموجة من الغثيان تجتاحني. انحنيت إلى الأمام، وبدأ جسدي يرتعش بشكل لا يمكن السيطرة عليه.
ثم، تقيأت. لم يكن طعامًا، فلم آكل شيئًا تقريبًا منذ ساعات. كان دمًا. دمًا أحمر قانياً، كثيفًا، يتدفق من فمي كينبوع مرعب، يلطخ الأوراق الجافة تحت قدمي.
"لا... لا، لا، لا!" صرخت في عقلي، والخوف البارد، الخوف الحقيقي من الموت الوشيك، بدأ يطبق على قلبي كقبضة جليدية.
حاولت أن أتنفس، لكن كل نفس كان يجلب معه ألمًا حارقًا في صدري، وطعم المزيد من الدم.
ثم شعرت به يسيل من أنفي، دافئًا ولزجًا على شفتي العليا. رفعت يدي المرتجفة لأمسح وجهي، ورأيت أن أصابعي أصبحت حمراء.
والأسوأ... الأسوأ لم يأتِ بعد.
شعرت بوخز حاد في عيني. كأن رمالًا ساخنة قد ألقيت فيهما. رمشت بقوة، محاولاً التخلص من هذا الشعور.
لكن عندما فتحت عيني مرة أخرى، كانت رؤيتي مشوشة، مغطاة بغشاء أحمر. دموع... دموع من دم بدأت تتسرب من زوايا عيني، ترسم خطوطًا قرمزية على خدي الشاحب.
"آخخخ! اللعنة!" صرخت بصوت مكتوم، وسقطت على ركبتي، وجسدي كله يرتعش من الألم والصدمة.
"ما الذي... ما الذي فعله بي هذا البرج اللعين؟"
"عين الحقيقة"، التي كانت بالكاد تعمل داخل البرج، أظهرت لي الآن رؤية مرعبة لجسدي.
رأيت هالتي الواقية، التي كانت تحيط بي كدرع خفي، ممزقة، متآكلة، كأن حمضًا قويًا قد أذابها.
ورأيت أن طاقتي الحيوية تتسرب مني كدخان أسود، تتبدد في الهواء البارد.
هذا البرج... لم يكن يضعف التركيز ويجلب الصداع فحسب. لقد كان يمتص الحياة. كان يسمم الروح.
"عليّ... عليّ أن أعود..." تمتمت، والكلمات بالكاد تخرج من بين شفتي المتشققتين.
"لا يمكنني... لا يمكنني أن أموت هنا..."
بجهد يفوق الوصف، أجبرت نفسي على النهوض. كل حركة كانت جحيمًا.
صدري كان يحترق، ورأسي كان ينبض بألم لا يطاق، وطعم الدم يملأ فمي. كنت أرى العالم من خلال حجاب أحمر، وكل شيء كان يتأرجح ويتشوه.
بدأت أتحرك، أتعثر، أجر جسدي المنهك نحو الاتجاه الذي ظننت أنه يؤدي إلى القصر. لم أعد أرى الممرات بوضوح، ولا الأشجار، ولا أي شيء. فقط ظلال داكنة، وأشكال مشوهة. كل خطوة كانت مغامرة. كل نفس كان صراعًا.
كنت أترك وراءي أثرًا. أثرًا من الدم. قطرات تتساقط من أنفي، من فمي، وربما من عيني.
لو رآني أحد الآن، لظن أنني وحش هارب من أعماق الجحيم.
الحدائق الخلفية للقصر، التي بدت لي في السابق قاتمة ومنظمة، أصبحت الآن متاهة مرعبة.
الأشجار كانت تبدو وكأنها تتحرك، تمتد أغصانها نحوي كأذرع هيكلية، تحاول أن تمسك بي، أن تسحبني إلى الظلام.
الأزهار ذات الألوان القاتمة كانت رائحتها الآن خانقة، مقززة، كأنها رائحة الموت نفسه.
"اثنا عشر... واحد... شيطان... حاكم..." الكلمات كانت لا تزال تتردد في ذهني، ممزوجة بأصوات الهمسات التي كنت أسمعها في البرج، والتي عادت الآن لتطاردني، لتسخر من ضعفي، من ألمي.
كنت أسقط وأنهض، أسقط وأنهض. يداي وقدماي أصبحت مغطاة بالوحل والأوراق الجافة.
ملابسي تمزقت في عدة أماكن. لكنني لم أتوقف. غريزة البقاء، تلك الشرارة العنيدة التي رفضت أن تنطفئ في الغابة السوداء، كانت لا تزال تحترق في داخلي، تدفعني إلى الأمام.
لا أعرف كم من الوقت مر وأنا على هذه الحال. كل دقيقة كانت دهرًا من العذاب.
لكن أخيرًا، بعد ما بدا وكأنه الأبدية، رأيت أضواء خافتة من بعيد. أضواء القصر.
شعرت بموجة من الارتياح اليائس تجتاحني. "قريبًا... قريبًا سأكون في... أمان..."
لكن حتى هذا الأمان المزعوم كان بعيد المنال. الممرات الحجرية الباردة للقصر، التي كانت في العادة مألوفة، بدت الآن كأنها لا نهاية لها.
كل ممر كان يؤدي إلى ممر آخر، وكل زاوية كانت تخفي رعبًا جديدًا.
كنت أرى ظلالاً تتراقص في زوايا رؤيتي المشوشة، وأسمع أصواتًا خافتة، كأن الخدم يتحدثون عني، يسخرون من حالتي المزرية.
"جناحي... عليّ أن أصل إلى جناحي..." همست، وأنا أستند إلى جدار بارد، محاولاً التقاط أنفاسي.
الدم كان لا يزال يسيل، وإن كان بشكل أبطأ قليلاً. شعرت بالدوار يزداد، وبأن قوتي على وشك أن تخونني تمامًا.
وأخيرًا، بعد رحلة عذاب أخرى، وصلت إلى الممر المؤدي إلى جناحي. كان الممر طويلاً، معتمًا، ومغطى بسجاد أحمر داكن بدا وكأنه يمتص الضوء. رأيت باب جناحي في نهاية الممر، وبدا وكأنه أبعد من النجوم.
خطوة... أخرى... ثم أخرى...
كنت على وشك الوصول. يدي كانت ترتجف وأنا أمدها نحو مقبض الباب. شعرت بأنني سأنهار في أي لحظة.
"فقط... بضع خطوات... أخرى..."
وفجأة، من الظلال عند منعطف قريب، ظهر شكل طويل، داكن، وصامت.
تجمدت في مكاني، وقلبي يكاد يتوقف من الرعب. لم يكن شبحًا، ولم يكن وحشًا. كان أسوأ.
أليستر.
كان يقف هناك، كتمثال من الجليد الأسود، وذراعاه معقودتان على صدره. ملابسه كانت كالعادة، سوداء، أنيقة، لا تشوبها شائبة.
وجهه كان في الظل، لكنني استطعت أن أرى عينيه الرماديتين الباردتين، تحدقان فيّ، تخترقاني، كأنهما سكينان من الجليد.
لم يتحرك. لم يقل شيئًا. فقط وقف هناك، يراقبني وأنا في هذه الحالة المزرية، ملطخًا بالدم، بالكاد أستطيع الوقوف، وأنفاسي تخرج كصفير مؤلم من صدري المثقوب.
الصمت الذي تلا ظهوره كان أثقل من أي صمت شعرت به في حياتي. لم يكن هناك سوى صوت تنفسي المتقطع، وصوت قطرات دمي وهي تتساقط على السجاد الأحمر الداكن، محدثة بقعًا سوداء صغيرة.
"عين الحقيقة" أظهرت لي هالته. كانت كالعادة، رمادية، باردة، كعاصفة ثلجية على وشك الانفجار.
لكن هذه المرة، كان هناك شيء آخر. وميض خافت من... شيء لا يمكنني تحديده. هل هو مفاجأة؟ أم شك؟ أم... رضى خفي؟
رفعت رأسي ببطء، ونظرت إليه. لم أستطع إخفاء الألم، ولا الرعب، ولا اليأس في عيني.
كنت مكشوفًا تمامًا أمامه، ككتاب مفتوح، صفحاته ملطخة بالدم والمعاناة.
ماذا سيفعل؟ ماذا سيقول؟ هل سيستدعيني؟ هل سيستجوبني؟ أم أنه سيكتفي بمشاهدتي وأنا أموت هنا، على عتبة جناحي؟
الوقت بدا وكأنه تجمد.
كل ثانية كانت تمتد كأنها دهر. والبرج القديم، بكلماته المشؤومة، كان لا يزال يتردد في ذهني:
"اثنا عشر... واحد... شيطان... حاكم..."
ثم، ببطء شديد، تحرك أليستر. خطوة واحدة نحوي. ثم أخرى.
وتوقف أمامي مباشرة، وظله الطويل يغطيني تمامًا، كأنه ظل الموت نفسه.
لم أستطع التنفس. لم أستطع التفكير. كل ما شعرت به هو ذلك الألم الحارق، وذلك البرد القارس الذي ينبعث من عيني.
نهايتي... هل ستكون هنا، الآن، على يد أخي؟