الساعات الأولى في ذلك العالم الأبيض الملعون لم تكن صراعًا من أجل تحقيق هدف، بل مجرد معركة بدائية، وحشية، ضد الموت نفسه. البرد، ذلك العدو الذي لا يرحم، كان ينهش جسدي بلا هوادة.
كل نفس كنت ألتقطه كان كاستنشاق شظايا من زجاج جليدي، يحرق رئتي ويجعل صدري يتجمد من الداخل.
طبقات الملابس الفاخرة، التي بدت كافية في دفء القصر، شعرت بها الآن كأوراق شجر واهية في وجه إعصار قطبي.
بعد ما بدا وكأنه دهر من الزحف والتعثر ضد الرياح العاتية التي كانت تعوي كأرواح معذبة، وجدت أخيرًا ملجأً مؤقتًا.
لم يكن أكثر من صدع عميق في جدار جليدي ضخم، كهف ضيق بالكاد يتسع لجسدي.
انزلقت إلى الداخل، وانهار جسدي المرتجف على الأرضية الجليدية الصلبة.
هنا، بعيدًا عن اللسعات المباشرة للرياح، كان البرد لا يزال قاسيًا، لكنه أصبح محتملًا... بالكاد.
قضيت الساعات التالية وأنا أرتجف بشكل لا إرادي، أسناني تصطك محدثة صوتًا مسموعًا في الصمت الذي تخلله عواء الريح.
أخرجت من خاتم الأبعاد المزيد من طبقات الفراء والملابس، ولففت نفسي بها حتى أصبحت ككتلة ضخمة من القماش والجلد، لكن البرد كان لا يزال يتسلل إلى عظامي.
"عين الحقيقة"، التي كانت تعمل بصعوبة بالغة في هذا المكان المشبع بالطاقة البدائية والباردة، أظهرت لي أن هالتي الواقية، التي تمزقت في البرج، كانت الآن بالكاد موجودة، كشعلة شمعة واهنة على وشك أن تنطفئ.
مر يوم، أو ربما يومان. فقدت الإحساس بالوقت في هذا الشفق الأبدي.
كنت أخرج من ملجأي الحجري فقط عند الضرورة القصوى، أتناول قوالب الطعام عالية الطاقة التي لا طعم لها، وأشرب الماء الذي كان يتجمد تقريبًا ما إن يخرج من القارورة السحرية.
كل شيء كان مؤلمًا. كل حركة كانت تتطلب جهدًا جبارًا. وكل لحظة صمت كانت تملؤها أفكاري السوداء، وذلك السؤال الذي يتردد في ذهني كجرس كنيسة مهجورة:
"ما الذي أفعله هنا؟"
لكنني كنت أعرف الإجابة. الضعف. هذا هو السبب. أنا هنا لأنني ضعيف، ولأن هذا المكان اللعين قد يكون هو فرصتي الوحيدة لأصبح قويًا.
بعد أن استعدت جزءًا ضئيلاً من قوتي، واستطاع جسدي أن يتأقلم قليلاً مع هذا البرد القاتل، قررت أن الوقت قد حان للتحرك. البقاء في هذا الكهف إلى الأبد يعني الموت البطيء.
عليّ أن أجد تلك المدينة المهجورة. عليّ أن أجد السيف الأسود، والقطعة الأثرية النادرة.
خرجت من ملجأي، وواجهت مرة أخرى ذلك المشهد المرعب. عالم من الأبيض والأسود والأزرق الجليدي، يمتد إلى ما لا نهاية.
الرياح كانت قد هدأت قليلاً، مما أتاح لي رؤية أوضح. الجبال السوداء الحادة كانت لا تزال تخترق السماء المريضة من بعيد، وكانت هي وجهتي الوحيدة، بناءً على تلك الخريطة القديمة.
بدأت أسير، وكل خطوة كانت محسوبة، حذرة. الأرض كانت مزيجًا من الجليد الأسود الزلق، والثلوج العميقة التي كانت تهدد بابتلاعي مع كل خطوة.
كنت أستخدم "عين الحقيقة" بشكل مستمر، ليس فقط للبحث عن أثر للمدينة، بل للبحث عن أي خطر كامن.
كانت تريني الصدوع الخفية في الجليد، والمناطق التي كان فيها الجليد أرق من غيرها، والهالات الباهتة للطاقة الخبيثة التي كانت تنبعث من بعض التكوينات الصخرية الغريبة.
الصداع كان يرافقني كظل مخلص، لكنني اعتدت عليه، أو ربما تجاهلته، فكل شيء آخر كان مؤلمًا أكثر.
بعد ساعات من السير المضني، كنت أعبر واديًا واسعًا، تحيط به جدران جليدية شاهقة، عندما رأيته لأول مرة.
كنت أبحث عن مكان لأحتمي به من الرياح التي بدأت تعوي مرة أخرى، عندما لفت انتباهي شيء يتحرك على أحد الرفوف الجليدية العالية، على بعد عدة مئات من الأمتار.
في البداية، ظننته مجرد انهيار ثلجي صغير. لكن "عين الحقيقة" أظهرت لي هالة قوية، هالة زرقاء باردة، تنبض بقوة وحشية.
ركزت نظري، واستخدمت ما يشبه القدرة على تقريب الرؤية التي اكتشفت أنها جزء من قدرات "عين الحقيقة" البدائية.
وما رأيته جعل دمي يتجمد في عروقي، وهذه المرة ليس بسبب البرد.
"الغوريلا الجليدية،" تمتمت، والكلمات خرجت كبخار أبيض كثيف من فمي.
كانت تمامًا كما وصفتها الرواية، لكن رؤيتها على الحقيقة كان شيئًا آخر تمامًا.
كانت ضخمة، ضخمة بشكل لا يصدق، أكبر من أي غوريلا أرضية بعشر مرات على الأقل.
فروها كان أبيضًا ناصعًا كلون الثلج حديث الهطول، مما جعلها شبه غير مرئية على خلفية الجليد.
عضلاتها كانت تتكتل تحت جلدها مع كل حركة، كأنها جبال صغيرة من القوة البدائية.
وعيناها... كانتا صغيرتين، زرقاوين، تتوهجان بذكاء جليدي، بارد، وحشي.
والشيء الأكثر رعبًا... كان ظهرها. لم يكن مجرد ظهر مغطى بالفراء. بل كان مغطى بمسامير جليدية ضخمة، حادة، تشبه الشظايا العملاقة، تتلألأ بضوء الشفق الباهت.
لم تكن مجرد زينة، بل كانت أسلحة. الرواية قالت إنها تستطيع إطلاق هذه المسامير كقذائف، بدقة وقوة قادرتين على اختراق أقوى الدروع.
هذا المخلوق... كان من الرتبة الرابعة، "طاغوت صغير". مخلوق قادر على تدمير فرقة كاملة من الفرسان المدججين بالسلاح بمفرده. وأنا... أنا كنت مجرد نملة أمامه.
لحسن الحظ، كانت الغوريلا مشغولة بشيء آخر. كانت تحفر في جدار الجليد بقبضتيها الهائلتين، وتقتلع قطعًا ضخمة من الجليد وتلتهمها، محدثة صوت تكسير مدوٍ كان يتردد في الوادي.
"جيد أنها لم تراني،" همست لنفسي، وشعرت بقلبي يخفق بعنف.
تراجعت ببطء شديد، خطوة خطوة، محاولاً ألا أصدر أي صوت، أي حركة قد تلفت انتباهها.
اختبأت خلف نتوء صخري أسود ضخم، ولم أجرؤ على التنفس حتى أصبحت الغوريلا العملاقة مجرد بقعة بيضاء بعيدة، قبل أن تختفي تمامًا خلف أحد المنعطفات الجليدية.
بقيت في مكاني لعدة دقائق، أحاول أن أهدئ من روعي. هذا كان مجرد مخلوق من الرتبة الرابعة.
ماذا عن مخلوقات الرتبة الخامسة، أو السادسة، أو حتى السابعة، التي قيل إنها تجوب هذه الأراضي الملعونة؟
هذه الرحلة... كانت أكثر جنونًا مما تصورت.
واصلت طريقي، لكن حذري تضاعف الآن ألف مرة. لم أعد أسير في العراء، بل أصبحت أتسلل من ظل إلى ظل، من نتوء صخري إلى صدع جليدي، كفأر خائف في أرض العمالقة.
"عين الحقيقة" كانت تعمل بأقصى طاقتها، تفحص كل شبر من الأرض أمامي، وكل ظل، وكل صوت.
وهنا، بدأت أرى المزيد من أهوال هذا العالم المتجمد.
في إحدى المرات، بينما كنت أختبئ في كهف جليدي صغير، رأيت شيئًا يزحف على السهل المتجمد في الأسفل.
كان يشبه حريشًا عملاقًا، طوله عشرات الأمتار، لكنه كان مصنوعًا بالكامل من جليد شفاف، كأنه هيكل عظمي من الكريستال.
كان يتحرك بصمت تام، ومئات الأرجل الجليدية الحادة كانت تتحرك بتناغم مخيف، تاركة وراءها خطوطًا رفيعة على سطح الجليد.
"عين الحقيقة" أظهرت لي أن هذا المخلوق، الذي أسمته الرواية "حائك الصقيع"، كان ينسج خيوطًا رفيعة جدًا، شبه غير مرئية، من الجليد، ويصنع منها شباكًا ضخمة بين الصدوع، في انتظار فريسة غافلة. هالته كانت من الرتبة الرابعة أيضًا، لكنها كانت مختلفة، أكثر خبثًا، وأكثر صبرًا.
وفي مكان آخر، شعرت باهتزازات خفيفة في الأرض. في البداية، ظننت أنه انهيار جليدي بعيد. لكن الاهتزازات أصبحت أقوى، وأكثر انتظامًا.
اختبأت في شق عميق، ونظرت بحذر. رأيت الجليد أمامي يتشقق، ثم ينفجر إلى الأعلى، وخرج منه شيء... لا يمكن وصفه.
كان دودة هائلة، عملاقة، قطرها كقطر البرج القديم في قصر ڤيرتون.
جلدها كان أبيضًا شاحبًا، كجلد جثة، وفمها كان عبارة عن فجوة دائرية، مليئة بصفوف لا نهائية من الأسنان التي تشبه شظايا الجليد، تدور كطاحونة لحم.
لم تكن لها عيون، لكنها كانت تشعر بالاهتزازات، بالحرارة، بالحياة. أطلقت "دودة التندرا" كما وصفتها الرواية صرخة مدوية، لم تكن صوتًا، بل موجة من الضغط الهائل الذي جعل الهواء يهتز، والجليد يتشقق حولي.
ثم غاصت مرة أخرى في الأعماق الجليدية، تاركة وراءها حفرة ضخمة، وفراغًا مرعبًا.
هالتها... كانت أقوى من الغوريلا وحائك الصقيع. لقد كانت من الرتبة الخامسة. مجرد وجودها كان كافيًا لبث الرعب في قلبي.
رأيت أيضًا أسرابًا من "أشباح الشفق"، كائنات شبه شفافة، تشبه قناديل البحر الطائرة، تتراقص مع أضواء الشفق القطبي، وتنجذب إلى أي مصدر للدفء أو الطاقة الحيوية، لتلتهمه بصمت.
"عين الحقيقة" أظهرت لي أنها كائنات طفيلية، تتغذى على الأرواح، وتترك وراءها أجسادًا مجمدة، فارغة من أي أثر للحياة.
كل هذه المخلوقات، كل هذه الأهوال، رأيتها من بعيد، من ملجئي، كشبح يراقب جحيمه الخاص. كنت أنجو، نعم، لكنني لم أكن أتقدم.
مرت أيام، وربما أسابيع. فقدت الإحساس بالزمن تمامًا. لم يكن هناك ليل أو نهار، فقط ذلك الشفق الأبدي، وذلك البرد القارس، وذلك الرعب المستمر.
كنت أسير، أختبئ، أراقب، وأسير مرة أخرى. الجبال السوداء كانت لا تزال بعيدة، كأنها تبتعد عني كلما اقتربت منها.
لم أجد أي أثر للمدينة المهجورة. لم أجد أي علامة على وجود السيف الأسود، أو القطعة الأثرية النادرة. فقط جليد، ورياح، ووحوش مرعبة.
وفي إحدى اللحظات، بينما كنت مختبئًا في صدع جليدي آخر، والرياح تعوي في الخارج، واليأس يطبق على قلبي كقبضة من حديد، انفجرت.
"اللعنة! لماذا لا أجد أي شيء؟!" صرخت، وصوتي ضاع في عواء الريح.
"هل كان كل هذا... عبثًا؟ هل أتيت إلى هنا لأموت من البرد واليأس، وأنا أطارد أسطورة، وهمًا، ذكرته رواية سخيفة؟"
ضربت بقبضتي جدار الجليد، وشعرت بالألم الحاد في يدي، لكنه لم يكن شيئًا يذكر مقارنة بالألم الذي كان يعتصر روحي.
كنت محاصرًا. محاصرًا في هذا الجحيم الأبيض، محاصرًا في جسدي الضعيف، محاصرًا في قدري الملعون.
نظرت إلى المساحات البيضاء الشاسعة التي تمتد أمامي، وشعرت بأنني أصغر وأكثر تفاهة من أي وقت مضى.
مجرد بقعة داكنة، دافئة بشكل مؤقت، في عالم من الجليد الأبدي، تنتظر أن يبتلعها البرد، أو يلتهمها وحش، أو يسحقها اليأس.
لم أكن أعرف ما الذي يجب أن أفعله بعد ذلك. هل أستمر في هذا البحث اليائس؟ أم أحاول العودة، مستخدمًا قطعة الانتقال الآني الثانية، وأعترف بهزيمتي؟
لم يكن لدي أي إجابات. فقط البرد، والصمت، والرعب الذي لا نهاية له.