الألم. كان هو الكون بأسره. لم يعد هناك برد، ولا ظلام، ولا حتى شعور بالضغط الساحق.

فقط محيط لامتناهي من الألم النقي، المطلق. كل عظمة مكسورة في جسدي كانت تصرخ، وكل ليفة ممزقة كانت تغني لحن عذابها الخاص.

شعرت برئتي المثقوبتين تحاولان يائستين سحب الهواء، لكن كل ما كانتا تحصلان عليه هو دفقة من دمي الداخلي، مما أدى إلى شعور بالغرق البطيء، المروع، من الداخل.

كنت محاصرًا. مدفونًا تحت جبل من الجليد والصخر، في قبر صنعته لي الطبيعة والقدر في أقصى بقاع الأرض.

السيف الأسود، ذلك الرمز للقوة النهائية، كان مجرد فكرة نائمة في وعيي.

والقناع المرعب، الذي كان سيجعلني شبحًا، كان هو نفسه شبحًا في هذا الظلام المطبق.

يا للسخرية المأساوية! لقد حصلت على الأدوات لأصبح لاعبًا رئيسيًا، فقط لأُسحق خارج اللعبة قبل أن أتمكن حتى من تعلم قواعدها.

وعيي بدأ يتلاشى، يتمزق، كقطعة قماش بالية. الصور بدأت تتراقص في بقايا عقلي: وجه أليستر البارد، ضوء الشفق الأخضر المريض، الابتسامة الشريرة التي ارتسمت على شفتي عندما حصلت على القوة، والآن... هذا الظلام. هذا الصمت. وهذه النهاية البائسة.

لم يعد هناك شيء.

فقط الفراغ. فراغ أسود، بارد، لا نهائي. حالة من اللاوجود، حيث لا يوجد ألم، ولا فكر، ولا حتى إحساس بالذات.

كنت مجرد نقطة من الوعي، تتلاشى ببطء في محيط العدم.

...

...

ثم، في قلب ذلك الفراغ المطلق، سمعت شيئًا.

أو بالأحرى، شعرت به.

لم يكن صوتًا له موجات، بل كان اهتزازًا في نسيج العدم نفسه. ترددًا أساسيًا، قديمًا، وقويًا بشكل لا يصدق، كأنه صوت النغمة التي بدأ بها الكون.

‹‹نير ڤيرتون...››

الاسم. اسمي. اخترق ذلك الفراغ، ذلك النسيان، كإبرة من ضوء أسود. لم يكن مجرد صوت، بل كان أمرًا. أمرًا بالعودة. أمرًا بالوجود.

بدأت شظايا وعيي المتناثرة تتجمع، تنجذب نحو هذا الصوت، نحو هذا الأمر.

كأنني مغناطيس مكسور يُعاد تجميعه بقوة لا يمكن مقاومتها.

الظلام بدأ يكتسب عمقًا، والفراغ بدأ يكتسب شكلاً. لم أكن أرى بعيني، بل بوعي مجرد، كنت أشاهد مشهدًا مستحيلاً.

قبري الجليدي. جبل الجليد والصخر الذي كان يسحقني.

رأيت، أو شعرت، به يتفكك. ليس بانفجار، ولا بانهيار. بل... كأنه يتلاشى.

كأن قوانين الفيزياء قد عُلقت مؤقتًا. كتل الجليد الهائلة كانت تتحول إلى غبار ناعم، أثيري، وتتبدد في الهواء.

الصخور كانت تفقد صلابتها، تصبح شفافة، ثم تختفي.

كل ذلك حدث بصمت. صمت مطلق، غير طبيعي، أشد رعبًا من أي صراخ.

وفي وسط هذا التلاشي الهادئ، كان هو يقف.

الرجل العجوز.

كان يقف هناك، ورداؤه الداكن لا يتحرك رغم الرياح التي كان يجب أن تكون موجودة.

عيناه السوداوان الفارغتان كانتا تنظران إلى الأسفل، إلى جسدي المحطم، الممزق، الذي بدأ يظهر ببطء من تحت الركام المتلاشي.

لم يكن هناك أي تعبير على وجهه، لا شفقة، لا اهتمام، لا شيء. فقط ذلك الهدوء القديم، الأبدي.

رأيت جسدي من منظور خارجي. كان مشهدًا مروعًا. أطراف ملتوية بزوايا مستحيلة، صدر محطم، ودماء متجمدة تشكل قناعًا قرمزيًا على وجهي الشاحب. كنت ميتًا، أو على وشك الموت.

مد الرجل العجوز يده، ليس ليلمسني، بل فقط ليمررها فوق جسدي المحطم.

ومن يده، انبعث... لا شيء. لم يكن هناك ضوء، ولا حرارة، ولا أي نوع من الطاقة التي يمكن لـ "عين الحقيقة" إذا كانت تعمل أن تدركها.

كان مجرد... حضور. حضور مطلق، يتجاوز قوانين الحياة والموت.

وبدأت المعجزة المرعبة.

سمعت، أو شعرت، بصوت عظامي المكسورة وهي تعود إلى أماكنها.

ليس صوتًا لطيفًا، بل صوت طقطقة حادة، مؤلمة، كأن هيكلي العظمي يُعاد بناؤه بالقوة.

شعرت بأعضائي الممزقة وهي تلتئم، وأنسجتي وهي تنسج نفسها من جديد، كفيلم يتم عرضه بشكل عكسي.

الدم الذي كان يغطي جسدي، بدأ يتراجع، يعود إلى عروقي، تاركًا ورائي بشرة سليمة، وإن كانت شاحبة بشكل مرعب.

كانت عملية شفاء، لكنها لم تكن لطيفة. كانت عنيفة، غير طبيعية، كأنها انتهاك مباشر لقوانين الكون.

عندما اكتملت عملية الشفاء الجسدي، رأيت الرجل العجوز يلتفت قليلاً.

من بين ركام الجليد والصخر الذي كان لا يزال يتلاشى، طفت قطعة معدنية رمادية، لامعة، وارتفعت في الهواء حتى استقرت في راحة يده.

قطعة الانتقال الآني الثانية. لقد نجت من الانهيار، صلبة، وعنيدة، كما وصفتها الرواية.

أمسك بها الرجل العجوز، ونظر إليها للحظة، ثم نظر إليّ مرة أخرى. وفي تلك اللحظة، شعرت بأن وعيي يُسحب بقوة، يُدفع بعنف ليعود إلى جسدي الذي تم إصلاحه حديثًا.

العودة كانت صدمة.

الألم الشبحي لكل عظمة مكسورة وكل جرح ممزق انفجر في عقلي للحظة، قبل أن يهدأ ويتحول إلى وجع مكتوم، عميق.

البرد القارس للمكان صفع حواسي التي عادت للعمل، وشعرت به يحاول أن يجمدني مرة أخرى.

فتحت عيني. كنت لا أزال ممددًا على الأرض الجليدية، لكنني كنت... سليمًا. سليمًا بشكل مستحيل.

ورأيته. كان يقف فوقي مباشرة، وظله يغطيني. عيناه السوداوان الفارغتان كانتا تحدقان فيّ، وشعرت بأنني عارٍ تمامًا أمامه، ليس جسديًا فحسب، بل روحيًا أيضًا.

بجانبه، كان الهواء يتمزق مرة أخرى، تلك البوابة الفوضوية، ذات الألوان السامة، بدأت تتشكل، وعواء العالم الآخر بدأ يملأ أذني.

أجبرت شفتي المتجمدة على التحرك. خرج صوتي أجشًا، ضعيفًا، بالكاد مسموعًا فوق صوت البوابة المتنامي.

"من... من أنت بحق الجحيم؟"

نظر إليّ الرجل العجوز، ولأول مرة، شعرت بشيء يشبه... التفكير، في ذلك الفراغ الأسود لعينيه.

ثم، بصوته الذي يشبه احتكاك القارات، قال كلمتين، كلمتين هزتا فهمي للوجود نفسه.

"أنا... بلا قدر."

"هاه؟"

هذا كل ما استطعت أن أقوله. "بلا قدر"؟ ماذا يعني ذلك؟ هل هو حاكم؟ شيطان؟ أم شيء يتجاوز هذه المفاهيم التافهة؟ هل هو كيان لا يخضع لقوانين المصير، لقوانين القصة؟ هل هو... خارج الرواية؟

عقلي كان يتأرجح على حافة الجنون. لم يكن هناك وقت لفهم أي شيء. لم يكن هناك وقت لطرح سؤال آخر.

البوابة كانت قد اكتملت الآن، وقوة الجذب التي تنبعث منها أصبحت لا تقاوم.

الرجل العجوز لم يدفعني، ولم يلمسني حتى. فقط أومأ برأسه إيماءة طفيفة، كأنه يعطي إذنًا للكون بأن يأخذ مجراه.

شعرت بأنني أُنتزع من مكاني، أُسحب بقوة لا يمكن مقاومتها نحو ذلك الجرح الدوار في نسيج الواقع.

آخر ما رأيته كان تلك العينين السوداوين، الباردتين، اللتين لا تحملان أي إجابة، فقط حقيقة وجودهما المطلقة.

الانتقال مرة أخرى كان جحيمًا. تمزيق، وعصر، وفوضى.

ثم، هبطت.

ليس على جليد بارد، بل على سجاد فارسي فاخر.

رائحة خشب الأرز والعطور الفاخرة ملأت أنفي، بدلاً من رائحة الجليد والموت.

وصوت... صوت الصمت المطبق لقصر ڤيرتون.

كنت قد عدت.

كنت ممددًا على أرضية جناحي، ألهث، وجسدي كله يؤلمني، ليس من جروح حقيقية، بل من صدمة الشفاء العنيف، والانتقال المزدوج، ومن ذلك اللقاء الذي لا يمكن استيعابه.

"ماذا... ماذا كان ذلك؟" تمتمت، وأنا أنظر إلى يدي السليمتين، إلى صدري الذي لم يعد يحمل أي جرح، فقط تلك الندبة الفضية القديمة من حادثة البرج، كأنها الأثر الوحيد الذي سُمح له بالبقاء.

نهضت ببطء، وشعرت بالضعف الشديد، كأنني لم آكل أو أنم لأسابيع.

وعندما نظرت إلى التقويم الجلدي على مكتبي، أدركت أن شعوري كان صحيحًا.

لقد مرت ثلاثة أسابيع. ثلاثة أسابيع كاملة منذ أن وقفت أمام والدي، وطلبت منه تلك القطع الأثرية.

"ثلاثة أسابيع..." تمتمت، وشعرت بالدم يهرب من وجهي. "هذا يعني... أنه تبقى للأكاديمية أسبوع واحد فقط."

أسبوع.

سبعة أيام فقط لأستوعب ما حدث، لأتعلم كيفية استخدام قوتي الجديدة، لأستعد لمواجهة عالم كامل من المخاطر.

شعرت بموجة من الهلع، تلتها موجة من الإرهاق المطلق.

تجاهلت كل شيء. كل الأسئلة، كل المخاوف، كل الألغاز. كان هناك شيء واحد فقط أحتاجه الآن.

شيء واحد يمكن أن يطهرني، على الأقل ظاهريًا، من الرعب الذي مررت به.

سحبت جسدي المنهك، خطوة بخطوة، نحو الحمام الفاخر في جناحي.

الحمام كان عبارة عن قاعة صغيرة من الرخام الأسود المعرق بالفضة.

تجاهلت حوض الاستحمام الضخم، وتوجهت مباشرة إلى الدش. أدرت المقابض النحاسية، ووقفت تحت تيار الماء الساخن الذي كان يتدفق كشلال.

البخار ملأ المكان بسرعة، مشكلاً ضبابًا كثيفًا، كأنه يحاول أن يخفيني عن العالم، عن ذكرياتي.

الماء الساخن الذي كان يغسل جسدي لم يتمكن من الوصول إلى البرد الذي تجذر في روحي.

خرجت من الحمام، والبخار يتصاعد من حولي كأنه ضباب شبحي، ولففت نفسي برداء سميك من القطن الأسود.

كل حركة كانت لا تزال تحمل في طياتها صدىً خافتًا لألم لا يمكن وصفه، كأن عظامي تتذكر شعور السحق والكسر، وأن عضلاتي لا تزال تحمل ذكرى الشفاء العنيف، غير الطبيعي.

وقفت أمام المرآة الضخمة التي تغطي جدار الحمام الرخامي. لم يكن الانعكاس الذي يحدق فيّ هو نفسه الذي غادر هذا القصر قبل أسابيع.

الوجه كان وجه نير ڤيرتون، شاحبًا، ذا ملامح حادة، لكن العينين... كانتا كهفان مظلمان شهدا نهاية العالم وعادا منها. كان فيهما عمق لم يكن موجودًا من قبل، عمق مليء بالرعب، بالدهشة، وبالغموض المطلق.

مررت يدي على صدري. لا شيء. لا أثر للجرح المروع الذي سببه انهيار الجبل الجليدي.

لا شيء سوى تلك الندبة الفضية الرقيقة، الباردة، التي خلفها البرج القديم، كأنها الأثر الوحيد، الشاهد الصامت على رحلتي إلى الجحيم وعودتي منه.

"ثلاثة أسابيع..." تمتمت لانعكاسي، وصوتي كان لا يزال أجشًا قليلاً.

"ثلاثة أسابيع ضاعت في الفراغ، في الموت، وفي عودة لا يمكن تفسيرها."

"أسبوع واحد متبقٍ على الأكاديمية."

ضغط الوقت كان كقبضة جليدية تعتصر قلبي. كيف يمكنني أن أستعد في أسبوع واحد لما ينتظرني؟ كيف يمكنني أن أواجه عالمًا كاملاً وأنا لا أزال أحاول أن أفهم ما حدث لي؟

لكن تحت هذا القلق، كان هناك شيء آخر. شيء جديد. هدوء غريب، بارد، كهدوء مركز العاصفة.

لقد واجهت الموت، ليس مرة، بل عدة مرات.

لقد رأيت قوى تتجاوز الفهم، وتحدثت مع كيان قد يكون هو نفسه... خارج نطاق القدر. المشاكل التي كانت تبدو لي جبالاً شاهقة قبل رحلتي – غضب أليستر، مؤامرات النبلاء، سخافات الرواية الرومانسية – بدت الآن... تلالاً صغيرة، تافهة.

تجاهلت الأسئلة التي كانت تعج في رأسي كأسراب من النحل الغاضب. الرجل العجوز.

"بلا قدر". السيف. القناع. كل ذلك كان أكبر من أن أستوعبه الآن. كل ما أردته في تلك اللحظة هو شيء واحد بسيط، شيء يعيدني إلى واقع ملموس.

ضغطت على جرس استدعاء الخدم، ذلك الجرس الحريري الذي كان يتدلى بجانب سريري الضخم. لم أنتظر طويلاً. بعد أقل من دقيقة، سمعت طرقًا خافتًا، مترددًا، على باب جناحي.

"ادخل،" قلت بصوت هادئ، لكنه كان يحمل ثقلاً لم يكن يمتلكه من قبل.

دخل الخادم. كان جيرارد، كبير الخدم العجوز، الذي كان يخدم عائلة ڤيرتون منذ عقود. ما إن رآني، حتى تجمد في مكانه، والصينية الفضية التي كان يحملها والتي كانت تحتوي على بعض المرطبات، كالعادة ارتجفت في يديه بشكل عنيف.

عيناه الواسعتان كانتا تحملان مزيجًا من عدم التصديق، والرهبة، وشيء يشبه... الخوف.

"سيدي... سيدي الشاب نير؟" تلعثم، وصوته كان يرتجف. "أنت... لقد عدت!"

"عين الحقيقة" أظهرت لي هالته. كانت هالة رمادية باهتة، كعادة خدم هذا القصر، لكنها الآن كانت تضطرب بعنف، كسطح ماء ألقي فيه حجر.

ومضات من اللون الأصفر " المفاجأة " والأزرق الداكن" الخوف " كانت تتراقص فيها.

أومأت برأسي ببطء. "أريد بعض الطعام، جيرارد. شيء دافئ، ومغذي. ولا أريد أن يزعجني أحد."

انحنى جيرارد انحناءة عميقة، كادت جبهته تلامس الأرض.

"أمرك، سيدي الشاب! فورًا!"

استدار، وخرج من الغرفة بسرعة، كأنه يهرب من شبح. لم يغلق الباب خلفه تمامًا.

ومن خلال الفتحة الصغيرة، ومن خلال حواسي التي أصبحت الآن أكثر حدة بشكل مقلق، ومن خلال "عين الحقيقة"، شعرت بالخبر ينتشر.

لم يكن انتشارًا عاديًا. كان كصدمة كهربائية تسري عبر جسد القصر. شعرت به في تغير إيقاع خطوات الخدم في الممرات البعيدة.

شعرت به في الهمسات المكتومة التي بدأت تتردد في قاعات الخدم.

شعرت به في تغير "طاقة" المكان نفسه. التوتر، الذي كان دائمًا موجودًا في هذا القصر، اكتسب الآن نبرة جديدة، نبرة من عدم اليقين، من الصدمة.

"نير ڤيرتون قد عاد."

جلست على مقعد وثيرة بجانب النافذة، وأنا أراقب هذا التفاعل الصامت ببرود، كعالم يراقب مستعمرة من النمل المضطرب.

هذا هو عالمي الآن. عالم من الأسرار، والهمسات، والوجوه التي تخفي خلفها ألف قناع.

لم يمر وقت طويل قبل أن يعود جيرارد، يتبعه خادمان آخران، يدفعون عربة طعام فضية.

لم تكن وجبة بسيطة. كانت وليمة مصغرة. حساء دافئ، كثيف، تفوح منه رائحة الأعشاب العلاجية واللحم الطري.

شرائح من لحم مشوي، لا تزال ساخنة. فواكه نادرة، مقطعة بدقة. وخبز طازج، دافئ.

أكلت بصمت، وببطء. كل لقمة كانت تعيد الحياة إلى جسدي المنهك.

لكن عقلي كان في مكان آخر. كان لا يزال هناك، في ذلك الكهف المتجمد، أمام ذلك الرجل العجوز، يحاول أن يفهم معنى كلمتين:

"بلا قدر".

كنت في منتصف تناول طعامي، عندما سمعت تلك الطرقات على الباب مرة أخرى.

لكن هذه المرة، لم تكن طرقات مترددة. كانت حادة، دقيقة، تحمل في طياتها سلطة وبرودة لا تخطئها الأذن.

حتى قبل أن يفتح الباب، كنت أعرف من هناك.

دخل أليستر.

كان كالعادة، أنيقًا بشكل لا تشوبه شائبة. سترته السوداء كانت مكوية بدقة، وشعره الرمادي مصفف بعناية.

وجهه كان قناعًا من الجليد المصقول. لكن "عين الحقيقة" أظهرت لي شيئًا آخر.

هالته الرمادية الباردة كانت تدور بشكل أسرع من المعتاد، وفيها ومضات من اللون الأحمر الداكن ا" لغضب المكبوت " والأصفر الحاد " الشك والارتباك ".

لم ينظر إلى الطعام، ولا إلى الغرفة. عيناه الرماديتان استقرتا عليّ مباشرة، تفحصاني من رأسي إلى أخمص قدمي، كعالم يفحص عينة غريبة تحت المجهر.

كان يبحث عن أي ضعف، أي تفسير.

"لقد عدت،" قال، وصوته كان باردًا، ومسطحًا، كسطح بحيرة متجمدة.

أنهيت مضغ لقمتي ببطء، ثم وضعت الملعقة الفضية بجانب الطبق. رفعت رأسي، وقابلت نظرته بنظرة هادئة، باردة بنفس القدر.

لم أعد ذلك الأخ الأصغر الذي كان يرتجف من مجرد نظرة منه. لقد رأيت أشياء تجعل غضب أليستر يبدو كنزوة طفل.

"كما ترى،" أجبته ببساطة.

تقدم أليستر بضع خطوات إلى داخل الغرفة، ووقف أمامي، وظله الطويل يمتد على الأرض.

"ثلاثة أسابيع، نير. ثلاثة أسابيع كاملة. القصر كله كان يبحث عنك. أين كنت؟"

ابتسامة خافتة، لا تحمل أي أثر للفرح، ارتسمت على شفتي.

"كنت أتدرب."

ضاق أليستر عينيه قليلاً. "تتدرب؟ لمدة ثلاثة أسابيع؟ في أي مكان في هذه القارة يمكن أن يجعلك تختفي بهذا الشكل، وتعود... وأنت تبدو... هكذا؟" كان يشير بعينيه إلى حالتي.

صحيح أنني كنت نظيفًا وسليمًا، لكن لا بد أن الهزال والشحوب والتعب العميق كانت واضحة على وجهي.

ولا بد أن هناك شيئًا مختلفًا في نظراتي، شيء رآه هو بدهائه.

"كنت في مكان أحتاج أن أكون فيه،" قلت، وصوتي كان لا يزال هادئًا، لكنه يحمل نبرة من النهائية.

"وهذا كل ما تحتاج إلى معرفته."

شعرت بالتوتر يزداد في الغرفة. "عين الحقيقة" أظهرت لي أن هالة أليستر أصبحت أكثر اضطرابًا.

كان غاضبًا. غاضبًا جدًا. كان يكره أن يفقد السيطرة، أن يجهل شيئًا.

وغيابي وعودتي كانا لغزًا كبيرًا لا يستطيع حله. لكنه كان ذكيًا بما يكفي ليعرف أن الضغط المباشر عليّ الآن لن يجدي نفعًا.

"الأكاديمية تبدأ بعد أسبوع،" قال، مغيرًا الموضوع فجأة، لكن التهديد كان لا يزال كامنًا في صوته.

"أتوقع منك أن تكون جاهزًا. وأن تتصرف بما يليق باسم ڤيرتون. لا مزيد من المفاجآت، نير. لا مزيد من الاختفاء. هل هذا واضح؟"

أومأت برأسي ببطء. "واضح تمامًا، يا أخي."

بقي واقفًا هناك للحظة أخرى، كأنه يريد أن يقول شيئًا آخر، لكنه في النهاية استدار، وغادر الغرفة بنفس الصمت البارد الذي دخل به.

ما إن أغلق الباب، حتى تنهدت بعمق، وشعرت بأن جزءًا من قوتي قد استنزف في هذه المواجهة الصامتة.

لكنني كنت أنتظر شيئًا آخر. كنت أنتظر استدعاءً من والدي. كنت أتوقع أن يتم استجوابي أمامه، أن أضطر إلى تبرير أفعالي أمام ذلك الكيان المظلم.

لكن الساعات مرت، وتحولت إلى ليل. ولم يأتِ أي استدعاء.

لا ردة فعل من دوق الظلال. كالعادة.

هذا الصمت... كان أكثر إثارة للقلق من كل غضب أليستر. هل كان يعرف؟ هل كان كل هذا جزءًا من خطته؟ هل كانت رحلتي إلى المدينة المهجورة، ومواجهتي للرجل العجوز، وحصولي على السيف والقناع... هل كان كل ذلك مسرحية من إخراجه؟

لم يكن لدي أي إجابات.

نظرت إلى الخارج من نافذتي. القمر كان يطل من بين الغيوم، يلقي بضوئه الفضي البارد على الأبراج السوداء للقصر.

أسبوع واحد.

أسبوع واحد لأستعد لدخول عالم جديد من المؤامرات والأكاذيب، وأنا أحمل في داخلي أسرارًا يمكن أن تحرق العالم بأسره.

شعرت بأنني لم أعد مجرد قارئ سقط في رواية. بل أصبحت لغزًا داخل لغز آخر أكبر.

والحل... كان لا يزال بعيد المنال. بعيدًا بشكل مرعب.

2025/06/19 · 62 مشاهدة · 2475 كلمة
Vicker
نادي الروايات - 2025