الأيام القليلة التي تلت ذلك اليوم الأول المشؤوم في الأكاديمية مرت في ضباب من الروتين الخانق.
محاضرات مملة عن تاريخ الإمبراطورية، تدريبات بدنية جماعية كنت أتفوق فيها بسهولة لكنني كنت أتعمد إخفاء كامل قدرتي، وجبات طعام فاخرة في قاعة الطعام الرئيسية، لكنها كانت تفتقر إلى الروح، كأنها طعام أشباح.
كنت ألتزم بخطتي. أبقى في الظل، أراقب، لا أتحدث إلا عند الضرورة القصوى، وأعود إلى ملاذي الآمن – غرفتي الخاصة – في أسرع وقت ممكن.
لكن في اليوم الرابع، شعرت بشيء مختلف. شعور بالملل، بالضجر، وبشيء آخر... جوع حقيقي.
ليس جوعًا للمعدة، فقاعة الطعام كانت تقدم ما لذ وطاب. بل جوع للتجربة، للاختيار، لشيء من الحياة في هذا المكان الميت المليء بالحياة الشابة.
"لا يمكنني البقاء حبيس هذه الغرفة إلى الأبد،" تمتمت لنفسي، وأنا أنظر من نافذتي إلى الطلاب الذين كانوا يتجولون في الساحات العشبية الشاسعة تحت شمس الظهيرة.
"سأصاب بالجنون."
ثم، لمعت فكرة بسيطة، تافهة، لكنها بدت كأعظم مغامرة في العالم في تلك اللحظة.
"ربما... ربما سأجد أكلاً يعجبني هناك."
ابتسامة خفيفة، حقيقية هذه المرة، ارتسمت على شفتي.
"هييي،" فكرت، وشعرت بموجة من الرضا السخيف.
"أفضل شيء في هذا العالم الملعون، بعد كل الأهوال التي مررت بها، هو أنني أمتلك الكثير من المال! مال لا أعرف حتى كيفية عده. يمكنني أن أشتري مملكة صغيرة إذا أردت، فما بالك بوجبة طعام لائقة؟"
هذه الفكرة، فكرة السيطرة المطلقة على شيء واحد على الأقل في حياتي الملعونة، كانت مغرية.
"يجب أن أشتري لي بعض الأكلات والمشروبات الطازجة،" قررت، وشعرت بدفعة من الطاقة.
"شيء لم يتم إعداده بناءً على جدول غذائي صارم للنبلاء، بل شيء له طعم... طعم الحياة العادية."
لكن مع هذا القرار، جاء ذلك القلق المألوف، ذلك الهمس البارد في مؤخرة عقلي.
"وأرجو... أرجو ألا أقابل أي شخصية رئيسية،" تمتمت وكأنني أتلو صلاة.
"أتمنى ذلك حقًا. لا أريد أن أرى آيلا، ولا سيلين، ولا ولي العهد وشقيقته الشيطانة. أريد فقط... شطيرة لحم وبعض العصير البارد. هل هذا طلب كبير أيها القدر اللعين؟"
ارتديت الزي الرسمي للأكاديمية، وتأكدت من أن مظهري كان كالعادة، باردًا، ومنظمًا، لا يشير بأي شيء عن تلك الرغبة الطفولية في الحصول على وجبة خفيفة.
لم آخذ معي أي شيء، فقط بضع عملات ذهبية في جيبي، وخاتم الأبعاد الذي لا يفارق إصبعي. السيف الأسود والقناع المرعب كانا نائمين في وعيي، كوحشين ينتظران أن يتم إيقاظهما.
خرجت من جناحي السكني الهادئ، وخطوت إلى العالم الخارجي للأكاديمية.
كانت الساحة الرئيسية شاسعة بشكل لا يصدق. ممرات مرصوفة بالحجارة البيضاء تلتوي بين مساحات شاسعة من العشب الأخضر الزمردي، الذي كان يبدو وكأنه يُقلم بشفرات سحرية كل صباح.
أشجار بلوط عملاقة، عمرها مئات السنين، كانت تلقي بظلالها الوارفة على بعض المقاعد الحجرية.
وفي وسط الساحة، كانت هناك نافورة ضخمة، منحوتة على شكل حوريات ووحوش بحرية، والماء يتدفق منها بصوت هادئ، مريح.
"عين الحقيقة" أظهرت لي أن المكان كله كان ينبض بالطاقة. رأيت خطوطًا فضية من السحر تنساب عبر الأحجار المرصوفة، تغذي المصابيح البلورية التي كانت تطفو في بعض الأماكن.
ورأيت هالة واقية، زرقاء باهتة، تغلف حدود الأكاديمية بأكملها، كقبة غير مرئية.
كان هناك طلاب في كل مكان. مجموعة من طلاب الفنون القتالية، بملابسهم التدريبية الفضفاضة، كانوا يمارسون حركات السيف في ساحة تدريب مفتوحة، وأصوات احتكاك المعادن تتردد في الهواء.
"عين الحقيقة" أظهرت لي هالاتهم الحمراء والبرتقالية، المليئة بالطاقة الجسدية والروح التنافسية.
على العشب، تحت ظل شجرة عملاقة، كانت تجلس مجموعة من السحرة الشباب، وكتبهم مفتوحة، ويناقشون نظريات معقدة.
كانت هالاتهم زرقاء وبنفسجية، تنبض بالتركيز الذهني والطاقة السحرية الكامنة.
وبالقرب من النافورة، كانت هناك مجموعات من النبلاء، يتبادلون الأحاديث والضحكات المصطنعة.
كانت هالاتهم مزيجًا من الألوان، لكن اللون السائد كان الأصفر "الفضول والنميمة" والأخضر "الحسد والطموح".
كنت أسير بينهم كشبح. معظمهم كان يتجنب النظر إليّ مباشرة، لكنني كنت أشعر بأعينهم تتبعني، وهمساتهم تلاحقني.
"إنه ڤيرتون..."
"ماذا يفعل هنا وحده؟"
"يبدو مخيفًا حقًا..."
تجاهلتهم، وواصلت طريقي. كنت قد سمعت من همسات الخدم أن هناك ساحة أصغر، خلف المبنى الرئيسي للمحاضرات، تسمى "ساحة اللقاء"، حيث يتجمع الطلاب بشكل غير رسمي، وحيث توجد بعض المتاجر الصغيرة والمقاهي.
اتجهت نحوها، وكلما اقتربت، بدأت أشم روائح شهية، روائح اختلطت معًا لتشكل سيمفونية من الإغراء.
رائحة خبز الزنجبيل الطازج، ورائحة لحم مشوي على الفحم، ورائحة فواكه غريبة، حلوة ولاذعة.
كانت ساحة اللقاء مكانًا حيويًا، مختلفًا تمامًا عن الأجواء الرسمية لبقية الأكاديمية.
كانت هناك طاولات ومقاعد خشبية منتشرة في كل مكان، تحت مظلات ملونة. وكانت هناك أكشاك صغيرة، كل منها يبيع شيئًا مختلفًا.
كشك يبيع فطائر محشوة بكل أنواع الحشوات، من لحم الغزال المتبل إلى كريمة الفطر السحرية.
كشك آخر يبيع عصائر طازجة من فواكه لم أرَ مثلها من قبل، فواكه تتوهج بألوان غريبة، أو تغير لونها عندما تهز الكوب.
وكشك ثالث كان يشوي أسياخًا من لحم وحش صغير، تفوح منه رائحة التوابل والدخان.
شعرت بأنني طفل في متجر للحلوى. لعقود من الزمن في حياتي السابقة، كان طعامي عبارة عن وجبات سريعة، رخيصة، ومصنعة. وهنا، كان كل شيء طازجًا، حقيقيًا، ومثيرًا للاهتمام.
تجولت بين الأكشاك، أتفحص كل شيء بعناية.
"عين الحقيقة" كانت مفيدة هنا أيضًا، كانت تريني هالات الطعام، أيها طازج حقًا، وأيها يحتوي على طاقة حيوية أعلى.
أخيرًا، استقر قراري على كشك صغير، تديره امرأة في منتصف العمر، ذات وجه بشوش وخدين محمرين.
كانت تبيع ما يشبه الشطائر، لكن الخبز كان داكن اللون، محمصًا، واللحم الذي بداخله كان عبارة عن شرائح رقيقة من لحم وحش مشوي، مع جبن ذائب، وخضروات مقرمشة.
"أريد واحدة من هذه،" قلت، وأشرت إلى أكبر شطيرة معروضة.
نظرت إليّ المرأة بابتسامة دافئة.
"اختيار ممتاز، يا سيدي الشاب. هذه شطيرة لحم 'الثور الصخري'، مع جبن 'جبال الضباب'. ستعجبك بالتأكيد."
أعطيتها عملة ذهبية صغيرة. اتسعت عيناها للحظة عندما رأت قيمة العملة، ثم أسرعت لتعطيني الباقي.
"لا حاجة،" قلت ببرود. "اعتبريها إكرامية."
انحنت المرأة بانحناءة عميقة، وشكرتني بحرارة. أخذت الشطيرة، التي كانت ملفوفة في ورق سميك، وتفوح منها رائحة شهية، ثم توجهت إلى كشك آخر واشتريت كوبًا كبيرًا من عصير أزرق سماوي، كانت تطفو فيه فقاعات صغيرة تتلألأ كنجوم صغيرة.
الآن، أين يمكنني أن آكل بسلام؟ الساحة كانت مزدحمة، ومليئة بالثرثرة والضحك. لم أكن أريد أن أجلس هنا.
نظرت حولي، ورأيت، في زاوية بعيدة من الساحة، شجرة صفصاف قديمة، عملاقة، أغصانها تتدلى كستارة خضراء، وتخفي تحتها مقعدًا حجريًا منعزلاً.
المكان المثالي.
توجهت إلى هناك، وجلست على المقعد البارد، وشعرت بأنني أخيرًا وجدت واحة صغيرة من الهدوء في هذا العالم المزعج.
أخذت قضمة من الشطيرة.
يا إلهي.
الخبز كان مقرمشًا من الخارج، وطريًا من الداخل. اللحم كان طريًا، غنيًا بالنكهة، والتوابل كانت متوازنة بشكل مثالي.
الجبن الذائب كان يضيف لمسة من الملوحة والدسامة، والخضروات كانت تمنح قرمشة منعشة. كان... مثاليًا.
أغمضت عيني، وأنا أستمتع بكل لقمة. للحظات، نسيت كل شيء. نسيت ڤيرتون، ونسيت الرواية، ونسيت القطب الجنوبي، والبرج، والأكاديمية. كنت مجرد شخص جائع، يتناول وجبة لذيذة.
شربت من العصير الأزرق. كان طعمه منعشًا، حلوًا قليلاً، مع لمسة من نكهة التوت البري، والفقاعات المتلألئة كانت تفرقع بلطف على لساني، تاركة وراءها شعورًا بالبرودة اللطيفة.
كانت هذه هي السعادة الحقيقية، البسيطة. سعادة لم أشعر بها منذ وقت طويل جدًا.
لكن، كالعادة، السعادة في هذا العالم الملعون لا تدوم طويلاً.
بينما كنت على وشك أن آخذ قضمة أخرى، سمعت أصواتًا تقترب. أصوات فتيات، يضحكن ويتحدثن.
تجمدت. رفعت رأسي ببطء، ونظرت من خلال ستارة أغصان الصفصاف.
كانت مجموعة من الفتيات تمر على الممر القريب. وفي وسط المجموعة... كانت هي.
آيلا.
كانت تتحدث مع فتاة أخرى، ذات شعر أحمر قصير، وتضحك على شيء قالته.
كانت تبدو مختلفة هنا، أكثر استرخاءً، وأقل توترًا مما كانت عليه في قاعة التجمع.
لكن رؤيتها كانت كافية لتجعل طعم الشطيرة يتحول إلى رماد في فمي.
"اللعنة!" همست، وانحنيت إلى الأمام، محاولاً أن أختبئ أكثر خلف الأغصان. "لماذا هنا؟ لماذا الآن؟"
لحسن الحظ، لم ينظرن في اتجاهي. واصلن طريقهن، واختفين خلف أحد المباني.
تنهدت بارتياح، لكن شهيتي كانت قد اختفت تمامًا. ذلك الشعور بالسلام، بالرضا، تبخر كأنه لم يكن.
لقد تم تذكيري مرة أخرى بأنني لا أستطيع الهروب. لا يهم أين أذهب في هذه الأكاديمية، سأظل دائمًا على بعد خطوات قليلة من "القصة الرئيسية".
نظرت إلى ما تبقى من شطيرتي، ثم إلى العصير الأزرق. فقد كل منهما جاذبيته.
نهضت، وألقيت بما تبقى في سلة مهملات قريبة، وبدأت أسير عائدًا إلى جناحي.
ا
الجولة القصيرة في البحث عن الطعام كانت ناجحة من ناحية، وفاشلة من ناحية أخرى.
لقد وجدت طعامًا لذيذًا، نعم. لكنني وجدت أيضًا تأكيدًا لمخاوفي.
لا يوجد مكان آمن. لا يوجد مكان للهدوء. أنا في قلب العاصفة. وسواء أعجبني ذلك أم لا، عليّ أن أتعلم كيف أرقص معها.
عدت إلى غرفتي، وأغلقت الباب خلفي. الصمت والظلال رحبا بي كصديقين قديمين.
شعرت بالأمان مرة أخرى.
لكنني كنت أعرف أن هذا الأمان... مجرد وهم مؤقت.
---
---
المكان لم يكن على أي خريطة، ولا في أي عالم معروف. كان جرحًا في نسيج الواقع، غرفة عرش أبدية، محفورة في قلب مستحيل.
لم تكن الجدران من حجر، بل من مادة تشبه العظم المتحجر، سوداء، لامعة، تتخللها عروق أرجوانية داكنة تنبض ببطء شديد، كأن هذا المكان كله هو الهيكل العظمي لكائن سامي مات منذ دهور.
السقف كان قبة هائلة، ليست من زجاج، بل من بلورة سوداء، معتمة، تبكي.
نعم، كانت تبكي، قطرات بطيئة، لزجة، من سائل داكن كانت تنز على سطحها الداخلي، لكنها لا تسقط أبدًا، بل تتلاشى وتعود لتتشكل من جديد في دورة أبدية من الحزن الصامت.
لم تكن القبة تظهر أي سماء. بل كانت كعدسة مشوهة، تعرض ومضات صامتة، مجردة، من أحداث تقع في العالم السفلي:
غابة تحترق في صمت، موجة تسونامي تتجمد في لحظة اصطدامها باليابسة، وجه ملك يصرخ في عذاب صامت. كانت رؤى من الكوارث، معروضة كفن تجريدي مرعب.
في وسط هذه القاعة التي تفوح منها رائحة الغبار الكوني والأسى القديم، كان هناك عرشان. منحوتان
من ما بدا وكأنه العمود الفقري لذلك الكائن الميت. أحدهما كان سليمًا، مهيبًا، والآخر كان متصدعًا، ومكسورًا جزئيًا، كأنه شهد معركة كونية وخسر فيها.
على العرش السليم، كان يجلس هو.
الرجل العجوز.
كان هادئًا كالموت، يمسك بكأس بسيط مصنوع من حجر غريب، يرتشف منه سائلاً داكناً يتصاعد منه ضباب بارد.
بدا وكأنه ملك منفي، يحكم على مملكة من الذكريات الميتة واللحظات المحطمة.
الظلال في أبعد زاوية من القاعة، حيث لا يصل أي ضوء مشوه من القبة، تحركت. لم تكن مجرد حركة، بل تجمعت، تكثفت، ونسجت نفسها في هيئة بشرية.
ظهرت هي.
صورة ظلية حادة، خطرة، لمعطف داكن طويل يرفرف بصمت. لم يكن بالإمكان تحديد ملامحها، فوجهها السفلي كان مغطى بوشاح أسود، لكن عينيها كانتا كافيتين.
كانتا جمرتين من ضوء أرجواني نقي، تحترقان بغضب وقوة لا يمكن احتواؤها في جسد بشري.
توهجهما كان مصدر الضوء الوحيد الذي كسر كآبة القاعة، ملقيًا بظلال أرجوانية راقصة على الجدران العظمية.
كانت تمسك بمقبض سيف أسود عند خصرها، وقفتها كانت وقفة ذئب يواجه أسدًا عجوزًا.
وقفت بصمت للحظة، والتوهج الأرجواني يزداد قوة. ثم، صوتها، الحاد كشظايا الجليد، مزق الصمت الأبدي للقاعة.
"يالك من عجوز خرف! كيف تسمح بحدوث مثل هذا الشيء؟"
الرجل العجوز أخذ رشفة أخرى من كأسه، رشفة بطيئة، مستمتعًا بالبرودة التي لا تطاق.
لم ينظر إليها حتى. تنهد تنهيدة عميقة، تحمل في طياتها ملل عصور لا تحصى.
"وما أدراني أن ذلك الغر سيتجول داخل ذلك الكهف!" قال أخيرًا، وصوته، الذي كان يشبه احتكاك الجبال، كان يحمل نبرة... تململ.
كأنه أب غاضب من ابنه المراهق المتهور.
"لقد وضعت الكنز هناك ليكون في مأمن حتى يحين الوقت المناسب.
لم يخطر ببالي أن هذا المعتوه، هذا الخطأ في الحسابات، سيذهب في رحلة انتحارية إلى نهاية العالم ويجد المكان بالصدفة! اللعنة على حياتي!"
"حياتك؟" قالت الفتاة بسخرية لاذعة. "أنت لا تمتلك حياة لكي تلعنها."
تجاهلت شكواه كأنها ضجيج مزعج.
"وأيضًا، لماذا اخترت هذا الموعد المتأخر؟ لماذا كل هذا الانتظار؟"
"لأن الأمور لم تنضج بعد،" قال العجوز ببرود. "ولأن التسرع من شيم الحمقى."
"ومتى ستنضج؟" سألت بحدة.
"ستعلمين قبلها ببضع أيام."
"عجوز وغد،" تمتمت الفتاة بصوت خفيض، مليء بالازدراء.
"ماذا؟"
صوت العجوز هذه المرة لم يكن متعبًا. كان حادًا، باردًا، كصوت انكسار جبل جليدي.
الهواء في القاعة أصبح أثقل فجأة، والضغط أصبح لا يطاق. الظلال المحيطة بعرشه تعمقت، والتوهج الأرجواني في عيني الفتاة اهتز للحظة تحت وطأة هذا الضغط الهائل.
لكنها لم تتراجع. بل رفعت ذقنها، وابتسامة ساخرة، غير مرئية تحت وشاحها، بدت وكأنها ترتسم في توهج عينيها.
"يبدو أن سمعك قد ضعف أيضًا."
الضغط الهائل اختفى فجأة، كأنه لم يكن. الهواء عاد إلى طبيعته الراكدة.
تنهد الرجل العجوز تنهيدة أخرى، وهذه المرة كانت تحمل في طياتها استسلامًا متعبًا.
"أيتها الشقية، لقد سمعتك."
"جيد،" قالت الفتاة. "إذًا أنت تعرف أنك لا تبرع بشيء سوى الشرب. ستتعدى المائة وأنت على حالتك الهشة هذه."
"لكنني لا أزال شابًا،" قال العجوز بنبرة دفاعية، طفولية، لا تليق بكيان مثله على الإطلاق.
هذه المرة، لم تستطع الفتاة أن تخفي صوت ضحكة مكتومة، ساخرة.
"سأموت من هرائك."
استدارت، وقبل أن تذوب في الظلال مرة أخرى، توقفت للحظة.
"فقط... لا تفسد الأمر أكثر، أيها العجوز."
ثم، اختفت. كأنها لم تكن هنا أبدًا.
بقي الرجل العجوز وحيدًا على عرشه العظمي، يحدق في الكأس الفارغ في يده.
ثم، ابتسم. ابتسامة لم تكن شريرة، ولا سعيدة. كانت ابتسامة كائن قديم، وحيد، يشاهد مسرحية سخيفة، لكنها مسلية بشكل غير متوقع
"شقية..." همس في صمت القاعة الميتة. "لكنها على حق. ذلك الصرصور العنيد... قد يجعل الأمور أكثر إثارة للاهتمام مما خططت له."
رفع رأسه، ونظر إلى القبة البلورية، إلى تلك الصور الصامتة للكوارث البعيدة، كأنه يبحث عن مشهد جديد في مسرحيته الأبدية.