الليل الذي تلا مواجهتي مع الأميرة سيرافينا كان طويلاً، ومظلمًا، ومليئًا بالأشباح.
لم تكن أشباحًا حقيقية، بل أشباح أفكاري، مخاوفي، وشكوكِي التي كانت تتراقص في زوايا جناحي الفاخر.
كلما أغمضت عيني، كنت أرى نظرتها الباردة، القاتلة، وذلك الفراغ المرعب في هالتها الذي عجزت "عين الحقيقة" عن اختراقه.
لقد ارتكبت خطأً. خطأً فادحًا. وبدلاً من أن أكون ظلًا، مراقبًا صامتًا، أصبحت الآن حشرة مثيرة للاهتمام تحت عدسة عالمة حشرات قاسية، تستمتع بتمزيق أجنحة فرائسها ببطء.
مرت الليلة، وجاء الصباح، حاملاً معه روتين الأكاديمية الممل والمصطنع.
ارتديت زيي الرسمي، وتناولت فطورًا لم أشعر بطعمه، ثم توجهت إلى قاعة المحاضرات، ووجهي قناع من الجليد، يخفي تحته بركانًا من القلق.
كانت المحاضرة اليوم في مادة "البيئة الوحشية وتكتيكات البقاء". والمحاضر كان شخصًا مختلفًا عن الأستاذة إيلارا.
كان رجلاً عجوزًا، ظهره منحني قليلًا، وشعره الأبيض خفيف ومتناثر على جمجمته المليئة بالبقع العمرية.
كان اسمه الأستاذ ألاريك. بدا وكأنه على وشك أن يتحول إلى غبار في أي لحظة، لكن عينيه الزرقاوين الباهتتين كانتا لا تزالان تحملان بريقًا من الذكاء، وحزنًا عميقًا، كأنهما رأتا الكثير من الأهوال في حياته الطويلة.
كان يشرح بصوت هادئ، جاف، عن أنواع الوحوش التي تعيش في الغابات المعتدلة، وعن كيفية التمييز بين آثار أقدامها، وكيفية إيجاد ملجأ آمن في البرية.
معظم الطلاب كانوا يشعرون بالملل. الأمير ثيرون كان يتثاءب بوضوح، وسيلين كانت تدون ملاحظات ببرود، كأنها آلة.
أما أنا، فكنت أستمع، ليس لأنني مهتم، بل لأن أي معلومة، مهما كانت تافهة، قد تكون مفيدة في هذا العالم الملعون.
بعد أن أنهى شرحه عن كيفية التمييز بين أنواع الفطر السام، توقف الأستاذ ألاريك، ونظر إلينا من فوق نظاراته نصف الدائرية.
"حسنًا، أيها الطلاب،" قال بصوته الهادئ.
"الكلام النظري لا يكفي. التعلم الحقيقي يأتي من التجربة المباشرة. ولهذا، يسعدني أن أعلن لكم عن الرحلة الميدانية التقليدية لطلاب السنة الأولى."
ضجة خافتة من الحماس والفضول سرت في القاعة.
"بعد ثلاثة أيام من الآن،" أكمل الأستاذ ألاريك، وابتسامة باهتة، كشمس شتاء، ارتسمت على شفتيه.
"سنتوجه في رحلة تخييم تعليمية إلى 'غابة خشب الفضة' المجاورة.
إنها غابة جميلة، هادئة، وتعد بيئة مثالية لتطبيق ما تعلمناه في بيئة آمنة ومراقبة."
غابة خشب الفضة.
الاسم.
ذلك الاسم.
في لحظة، تجمد كل شيء. صوت الأستاذ ألاريك تحول إلى طنين بعيد.
أصوات الطلاب المتحمسين اختفت. الهواء في رئتي تجمد. العالم كله، بكل ما فيه، تقلص واختفى، ولم يتبقَ سوى ذلك الاسم الذي كان يدق في رأسي كجرس إنذار لكارثة نووية.
غابة خشب الفضة.
وبدأت الذكريات، ذكريات تلك الرواية اللعينة، تتدفق إلى عقلي كطوفان من الحمض، تحرق كل شيء في طريقها.
"م... مس..." حاولت أن أقول شيئًا، لكن الكلمات تجمدت في حلقي.
"مستحيل... قُضي علي... كيف... كيف نسيت؟"
كيف يمكن أن أنسى؟ كيف يمكن لعقلي أن يمحو هذا الجزء من الذاكرة؟ ربما كان الرعب الذي مررت به في الغابة السوداء والبرج والمدينة المهجورة قد طغى على كل شيء آخر، وجعلني أنسى هذا الرعب القادم، هذا الكابوس المجدول.
الرحلة... الأولى.
الرحلة التي سمتها الرواية الملعونة، والكاتبة المعتوهة، في فصولها الداخلية، بـ"رحلة الموت".
شعرت بالدم يهرب من وجهي. شعرت ببرودة جليدية، أشد قسوة من برد المدينة المهجورة ، تسري في عروقي.
شعرت بالخوف. خوف حقيقي، نقي، بدائي. خوف طفل صغير تُرك وحيدًا في الظلام، وهو يعرف أن الوحش قادم.
شعرت برغبة قوية، عارمة، في البكاء. أردت أن أصرخ، أن أجهش بالبكاء، أن أرتجف كالأطفال، وأتمنى لو أن أمي (أي أم) هنا لتحتضنني وتخبرني أن كل شيء سيكون على ما يرام.
لكنني لم أفعل. أجبرت جسدي على البقاء ثابتًا، وأجبرت وجهي على الحفاظ على قناعه البارد، بينما كانت روحي تتمزق في الداخل.
"الرحلة التي مات بها عشرات الطلاب والمعلمين..." تذكرت سطور الرواية بوضوح مرعب.
"الرحلة التي بدأت كرحلة تعليمية ممتعة، وانتهت كمجزرة دموية، كوصمة عار في تاريخ الأكاديمية."
والسبب...
"الرحلة التي سيظهر فيها أحد الوحشين من الرتبة السابعة الذين ظهرا في الـ 400 فصل التي قرأتها."
الرتبة السابعة. "كارثة طبيعية". نفس رتبة والدي، دوق الظلال. نفس رتبة الإمبراطور.
مخلوق بقوة سامي صغير، سيظهر فجأة في غابة "آمنة"، وسط مجموعة من المراهقين الذين بالكاد يستطيعون إشعال نار بتعاويذهم.
يا لها من مزحة! يا لها من كوميديا سوداء! يا لها من مأساة سخيفة!
عقلي بدأ يعمل بسرعة محمومة، يبحث عن مخرج، عن ثغرة، عن أي طريقة للنجاة.
"هراء... لا يمكنني الرفض!" هذه كانت الحقيقة الأولى، والمرة، التي صدمتني.
"لماذا؟" سأل صوت في عقلي. "لماذا لا يمكنك أن ترفض؟"
"ليس السبب أنهم سيشكون في أمري،" أجبت نفسي بيأس. "أو ليس هذا هو السبب الرئيسي.
السبب هو أن هذه الرحلة، في نظر الأكاديمية والإمبراطورية، تعد جزءًا لا يتجزأ من المنهج الدراسي.
إنها 'جزء من الراحة والتعلم'، كما يسمونها. إنها فرصة للنبلاء الشباب 'للتواصل مع الطبيعة' و'صقل مهاراتهم القيادية'."
"إذًا، ماذا لو ادعيت المرض؟" سأل ذلك الصوت مرة أخرى.
"مستحيل،" فكرت بمرارة. "هذه الأكاديمية صارمة جدًا، ولا يمكنني التمثيل بأنني مريض، لأن هنالك طرق يستطيعون بها معرفة ما إذا كنت مريضًا حقًا أم لا."
تذكرت أن الرواية ذكرت أن الأكاديمية تمتلك أجهزة سحرية، ومعالجين من الرتبة العليا، يمكنهم تشخيص أي حالة بدقة متناهية.
كذبة بسيطة كهذه ستُكشف في ثوانٍ، وستكون العواقب وخيمة. سأبدو كجبان، ككاذب.
"إذًا، ارفض ببساطة. قل إنك لا تريد الذهاب."
وهنا يكمن الرعب الحقيقي. "الرفض هو رفض لقوانين المدرسة،" شرحت لنفسي، وشعرت بأنني محاصر في قفص من حديد.
"ورفض قوانين الأكاديمية الملكية، التي تعمل تحت رعاية الإمبراطور مباشرة، هو أشبه بمعارضة نبيل للإمبراطور نفسه.
إنه تحدٍ مباشر للسلطة العليا. إنه إعلان بالتمرد أو الجبن، وفي كلتا الحالتين، هو وصمة عار لا يمكن محوها."
الإمبراطور. ذلك الرجل الأقوى في العالم، مناصفة مع والدي. كلاهما من الرتبة السابعة. كلاهما لا يتسامح مع الضعف أو التحدي.
"لا والدي، ولا الإمبراطور، قد يوافقون على مثل هذا التصرف،"
أدركت، وشعرت بأن آخر بصيص من الأمل قد انطفأ. والدي، رغم صمته، يهتم بسمعة عائلة ڤيرتون أكثر من أي شيء آخر.
وظهور ابنه نير بمظهر الجبان الذي يخشى رحلة تخييم "آمنة" سيكون إهانة لا تغتفر.
والإمبراطور، لن يسمح لأحد، حتى ابن دوق الظلال، بأن يتحدى سلطة مؤسسته التعليمية الأولى.
أنا محاصر.
محاصر تمامًا.
لا مفر.
أنا ذاهب إلى تلك الغابة. أنا ذاهب لمواجهة ذلك الوحش. وأنا ذاهب... لأموت على الأرجح.
رفعت رأسي، ونظرت حولي في القاعة. الطلاب كانوا لا يزالون يتهامسون بحماس عن الرحلة.
آيلا كانت تبتسم، وتتحدث مع صديقتها ذات الشعر الأحمر، وتبدو سعيدة بفكرة الخروج من أسوار الأكاديمية.
الأمير ثيرون كان يضحك بصوت عالٍ، ويتراهن مع أصدقائه حول من سيصطاد أكبر حيوان.
وسيرافينا كانت تراقب الجميع بابتسامتها الملائكية، وذلك البريق الخبيث في عينيها.
لم يكن أحد منهم يعرف.
لم يكن أحد منهم يعلم أنهم يضحكون ويخططون لرحلتهم إلى المسلخ.
وشعرت فجأة بوحدة ساحقة، كوحدة رجل يقف على حافة الهاوية، بينما الجميع من حوله يرقص ويغني، غير مدركين للخطر الذي يحدق بهم.
انتهت المحاضرة. بدأ الطلاب في المغادرة، وأصواتهم المتحمسة تملأ الممرات.
لكنني بقيت جالسًا في مقعدي، متجمدًا، وعيناي تحدقان في الفراغ.
"رحلة الموت..." تمتمت، والصوت كان مجرد هواء يخرج من رئتي.
ثلاثة أيام.
لدي ثلاثة أيام فقط لأستعد لمواجهة كائن بقوة والدي، وأنا لا أملك سوى سيف غامض، وقناع مرعب، وعينين تريان الحقيقة المرة، وسحر مقيد كأنه لعنة أبدية.
هذه المرة، لم يكن هناك شعور بالتحدي. لم يكن هناك أي أثر للكوميديا السوداء.
فقط رعب خالص، ويقين بارد، بأنني أسير نحو نهايتي.
وهذه المرة، قد لا يكون هناك رجل عجوز "بلا قدر" لينقذني.
---
---
لم أشعر بقدمي وهما تحملانني عائدًا إلى جناحي السكني. كنت أسير كآلة، كجثة متحركة.
أصوات الطلاب المتحمسة في الممرات، ضحكاتهم، وخططهم للرحلة "الممتعة"، كانت تصل إلى أذني كضجيج بعيد، مشوه، قادم من عالم آخر لا أنتمي إليه.
كيف يمكنهم أن يكونوا بهذه السعادة؟ كيف يمكنهم أن يكونوا بهذه الغفلة عن الجحيم الذي ينتظرهم؟
"عين الحقيقة" كانت تريني هالاتهم، مزيجًا من الأصفر "الفضول"، والأخضر" الطموح"، والوردي "الحماسة الشبابية". ألوان زاهية، حية، وساذجة.
ألوان على وشك أن تنطفئ، أن تلتهمها الظلمة. شعرت بموجة من الغثيان.
وصلت أخيرًا إلى باب غرفتي، ذلك الملاذ الذي أصبح الآن أشبه بقعر بئر.
دخلت، وأغلقت الباب خلفي، وأسندت ظهري إليه. الصمت في الغرفة كان مدويًا، يضخم صوت دقات قلبي المذعورة، وصوت أنفاسي المتقطعة.
"رحلة الموت..."
الكلمتان كانتا كجمرتين تحرقان عقلي. انزلقت على الأرض، وجلست القرفصاء، ودفنت وجهي بين ركبتي.
"لا، لا، لا..." تمتمت، والكلمات كانت ترتجف. "لا يمكن أن يكون هذا حقيقيًا.
لا بد أنني أخطأت. لا بد أن الرواية كانت تبالغ. لا يمكن أن يظهر وحش من الرتبة السابعة... هكذا... في رحلة مدرسية."
لكنني كنت أعرف أنني أكذب على نفسي. الرواية، رغم كل سخافاتها الرومانسية، كانت دقيقة بشكل مخيف في وصف الكوارث.
لقد وصفت هجوم الوحش الطاغية ، ولقد حدث. ووصفت هذه الرحلة بأنها مجزرة، وهذا ما سيحدث.
رفعت رأسي، وحدقت في الفراغ أمامي. بدأت أفكر، عقلي يعمل بسرعة محمومة، يبحث يائسًا عن أي مخرج، أي ثغرة، أي خطة.
الهروب؟ مستحيل. لقد استنفدت كل الأعذار. الرفض يعني التحدي المباشر، والانتحار السياسي والاجتماعي.
المواجهة؟ يا للسخرية! مواجهة كائن بقوة والدي؟ أنا، الذي لا يمتلك أي سحر، وبسيف تدريبي؟ سأكون أول من يتحول إلى غبار.
إذًا، ماذا تبقى؟ ما هي أسلحتي؟
لدي "عين الحقيقة". ستكون مفيدة، بالتأكيد. ستريني هالة الوحش المرعبة، ستريني قوة هجومه الساحقة... قبل ثانية من أن يبخرني من الوجود. أداة رائعة لمشاهدة موتي بتفاصيل دقيقة.
لدي السيف الأسود. سيف لا ينكسر. سلاح أسطوري. لكن السيف يحتاج إلى من يستخدمه.
ما فائدة سيف لا ينكسر في يد نملة تحاول أن توقف فيلاً هائجًا؟ قد لا ينكسر السيف، لكن النملة ستُسحق بالتأكيد.
وهناك... الخيار الآخر.
الخيار المظلم. الخيار المرعب.
بقيت جالسًا على الأرض لدقائق طويلة، والظلام يزحف في الغرفة مع غروب الشمس. ثم، ببطء، أغمضت عيني، وركزت.
شعرت بذلك الاتصال الغريب، بذلك الخيط غير المرئي الذي يربطني الآن بتلك القوة الملعونة.
وفجأة، ظهر أمامي، على السجادة الفاخرة، كأنه تقيأه الظل نفسه.
القناع.
قناع الظل الكاذب.
كان يرقد هناك، صامتًا، مرعبًا. تصميمه العضوي، الحاد، الذي يشبه وجه شيطان قديم، كان يمتص الضوء الخافت في الغرفة، ويخلق حوله بركة صغيرة من الظلام المطلق.
تجويفا العينين الفارغان كانا يحدقان فيّ، كأنهما بوابتان إلى العدم.
هذا... هذا قد يكون حلي الوحيد.
بدأت أفكر، أتذكر ما قالته الرواية عن هذا القناع اللعين. "إنه سلاح التسلل المثالي.
يخفي مرتديه تمامًا عن كل الحواس، وكل أنواع الكشف السحري. يجعلك شبحًا، همسًا، لا يمكن لأحد أن يلاحظه."
تذكرت جملة محددة، جملة جعلت دمي يتجمد في ذلك الوقت، وتجعله يتجمد الآن.
"فكما ذكر في الرواية، حتى دوق الظلال، بعينيه اللتين تريان كل شيء، لا يستطيع رؤية من يرتدي هذا القناع."
حتى والدي... لا يستطيع رؤيته.
هذا يعني أنني لو ارتديته، فإن ذلك الوحش من الرتبة السابعة لن يراني.
لن يشعر بوجودي. يمكنني أن أسير في قلب المجزرة، بين صرخات زملائي وهم يموتون، وبين أشلاء المعلمين، كشبح غير مرئي. يمكنني أن أنجو.
شعرت بموجة من الأمل، لكنها كانت موجة قذرة، سوداء، طعمها كالرماد.
لأنني تذكرت الثمن.
"ولكن ذلك القناع... يستنزف قوة حياة مرتديه."
لم يكن يستنزف الإيترا، أو أي طاقة سحرية يمكن تعويضها.
بل كان يلتهم جوهر وجودك. يمتص سنوات حياتك، شعلة روحك، ويحولها إلى وقود لقدرته الشيطانية.
الرواية لم تصف الأمر بالتفصيل، لكنها لمحت إلى مصير من حاولوا استخدامه دون أن يمتلكوا القوة الكافية للسيطرة عليه:
جثث هشة، ذابلة، كأنها عاشت ألف عام في دقائق معدودة.
وهنا تكمن مأساتي الحقيقية. "خاصة شخص مثلي، لا يمتلك أي إيترا ! فأنا مقيد!"
لو كنت ساحرًا عاديًا، ربما كان بإمكاني استخدام طاقتي السحرية كدرع، كحاجز يبطئ من عملية الامتصاص القاتلة.
ربما كان بإمكاني ارتداء القناع لدقائق، أو حتى ساعة، قبل أن يصبح الخطر حقيقيًا.
لكن أنا؟ أنا لا أملك أي حاجز. لا أملك أي درع. إذا ارتديت هذا القناع، فسيكون كأنني أوصلت شريان حياتي مباشرة بفم شيطان جائع. سيبدأ في التهام روحي مباشرة، دون أي وسيط.
كم من الوقت سأصمد؟ دقيقة؟ ثلاثون ثانية؟ أم أنني سأتحول إلى غبار في اللحظة التي يلامس فيها وجهي؟
هذا هو خياري.
الخيار الأول: الذهاب إلى رحلة الموت بدون القناع. مواجهة وحش بقوة سامي صغير.
والموت بطريقة سريعة، عنيفة، وربما... بطولية في عيون الآخرين الساذجة.
الخيار الثاني: ارتداء القناع. النجاة من الوحش. لكنني سأبدأ في الموت ببطء، بطريقة صامتة، مرعبة، وأنا أشاهد الآخرين يموتون حولي.
سأموت وأنا أتحلل من الداخل، وقوتي الحيوية تُسرق مني قطرة قطرة.
إنه ليس خيارًا بين الحياة والموت. إنه خيار بين طريقتين مختلفتين للموت. طريقتين مختلفتين للجحيم.
نهضت، وتقدمت نحو القناع. ركعت أمامه، وحدقت في تجويفي عينيه الفارغين.
شعرت بأنه يناديني، يغويني، يعدني بالنجاة، بالخلاص، بينما يخفي أنيابه السامة خلف وعوده الكاذبة.
مددت يدي المرتجفة، ولامست سطحه البارد، الأملس. شعرت مرة أخرى بذلك الوخز النفسي، بتلك الهمسات التي لا تعد ولا تحصى، التي تتحدث عن القوة والظلام.
"ماذا أفعل؟" همست للفراغ في غرفتي. "أي جحيم أختار؟"
شعرت بالدموع تحرق عيني مرة أخرى
. ليس من الحزن، بل من الغضب المطلق، من اليأس المطلق.
اللعنة على هذا العالم. اللعنة على هذه الرواية. اللعنة على هذا القدر الذي وضعني في هذا الموقف المستحيل.
بقيت هناك، راكعًا أمام القناع، لفترة طويلة جدًا. والظلام يلتف حولي، كأنه ينتظر قراري.
والصمت... كان هو الإجابة الوحيدة.