مرت الأيام الثلاثة التالية كأنها حلم محموم، كأنها عد تنازلي لا يرحم ليوم إعدامي.
لم أنم. كيف يمكن لأحد أن ينام وهو يعرف أن نهايته محددة، وأن كل الطرق أمامه تؤدي إلى الموت؟
كنت أقضي الليالي الطوال أتجول في جناحي الفاخر كشبح، أقف أمام النافذة وأحدق في الظلام، أو أجلس على الأرض وأحدق في القناع المرعب الذي كنت أستدعيه بين الحين والآخر، كأنه صديقي الوحيد في هذا العالم، صديق سام يعدني بالنجاة مقابل روحي.
كل ليلة، كنت أخوض نفس المعركة في عقلي. الخياران المتاحان أمامي كانا كفكي كماشة، يطبقان على ببطء، يسحقان كل أثر للأمل.
الخيار الأول: الذهاب إلى "رحلة الموت". مواجهة ذلك الوحش من الرتبة السابعة. والموت.
الخيار الثاني: الرفض. التمسك بالحياة، ولو لساعات قليلة أخرى. وإعلان جبني على الملأ. والموت.
نعم، الموت في كلتا الحالتين.
الصباح المشؤوم أتى أخيرًا، حاملاً معه ضوء فجر رمادي، باهت، كأنه هو الآخر يرتدي ثياب الحداد.
صوت جرس الأكاديمية، الذي كان يدعو الطلاب للتجمع، كان بالنسبة لي كأنه ناقوس الموت.
"لقد حان الوقت،" تمتمت للفراغ في غرفتي، وشعرت بالبرد يتسلل إلى عظامي، برد لم يكن سببه الجو، بل كان قادمًا من أعماق روحي.
نهضت، وبدأت أرتدي ملابس الرحلة المخصصة، بحركات آلية، كجثة يتم تجهيزها للدفن.
كانت ملابس عملية، مصنوعة من جلد متين وقماش سميك، مصممة لتحمل عناء التخييم والمشي في الغابات.
لكنها في عيني، كانت تبدو كملابس سجين يتجه إلى المقصلة. كل حزام كنت أشده حول خصري، كل إبزيم كنت أغلقه، كان يبدو كقيد جديد يضاف إلى القيود التي تكبلني بالفعل.
نظرت إلى نفسي في المرآة. الوجه الشاحب، العينان الغائرتان اللتان تحيط بهما هالات سوداء من قلة النوم، والشفاه التي فقدت لونها.
كنت أبدو كمريض على فراش الموت. قناع "نير ڤيرتون" البارد، الهادئ، كان من الصعب الحفاظ عليه اليوم.
"أنت خائف،" قلت لانعكاسي، واعترفت بالحقيقة لنفسي. "خائف حتى النخاع."
لماذا أنا خائف؟ لأنني أعرف. لأنني الوحيد في هذا العالم المليء بالساذجين الذي يعرف الحقيقة المروعة لما ينتظرنا.
ولأنني، على عكسهم، قد تذوقت طعم الموت من قبل، وأعرف مدى مرارته، ومدى برودته.
ولأن كل الطرق أمامي تؤدي إلى الموت.
تخيلت المشهد. تخيلت ما سيحدث لو أنني تحديت الأوامر، لو أنني أعلنت أنني لن أذهب.
سيتم استدعائي على الفور. ليس من قبل الأستاذ ألاريك، ولا حتى من قبل أليستر. بل من قبله هو. والدي.
تذكرت ما قرأته في الرواية. ذلك الجزء الذي لم يكن يتعلق بالرومانسية، بل بالدم والتقاليد القاسية لعائلة ڤيرتون.
تذكرت قصة أحد أبناء عمومة الدوق، عاش منذ أجيال، رفض أن يذهب إلى حرب اعتبرها خاسرة.
لم يتم معاقبته بالسجن، أو بالنفي. بل تم "محوه". لقد استدعاه دوق ڤيرتون آنذاك إلى قاعة العرش، وأمامه، أمام كل أفراد العائلة، أعلن أن هذا الرجل قد "أهان اسم ڤيرتون بجبنه".
ثم، وبكل برود، أمره بأن ينهي حياته بنفسه، ليغسل عار أفعاله بدمه.
وعندما تردد الرجل، لم يتردد الدوق. قتله بنفسه، بضربة واحدة، ثم أمر بحرق كل سجلاته، وكل صوره، وكل ما يثبت وجوده.
"من أجل سمعة العائلة".
تخيلت نفسي واقفًا في قاعة العرش المظلمة، أمام والدي. أتخيل نظراته التي لا تُرى، وذلك الصمت الذي يسبق الحكم.
أتخيل البرودة في صوته وهو يأمرني بأن أدفع ثمن جبني. والدي... لا مشكلة لديه أن يقتل ابنه،" كما ذكرت الرواية "، من أجل سمعة العائلة.
بالنسبة له، اسم ڤيرتون أثمن من أي حياة، حتى حياة ابنه نير. الموت على يده سيكون باردًا، مهينًا، ومطلقًا.
ثم، تخيلت الطريق الآخر. الموت في الرحلة.
تذكرت وصف الرواية للوحش. "الكيمايرا ناسج الفراغ". مخلوق مرعب من الرتبة السابعة، لا ينتمي إلى هذا العالم.
جسد أسد ضخم، مغطى بحراشف سوداء تمتص الضوء. أجنحة خفاش ممزقة، تقطر مادة حمضية.
وذيلان، كل منهما ينتهي برأس أفعى، تطلقان أنفاسًا من السم. ووجهه... لم يكن له وجه.
بل كان مجرد فجوة، دوامة من الظلام، تسحب كل شيء نحوها، الضوء، الهواء، وحتى أرواح ضحاياه.
تخيلت لحظة ظهوره. الهدوء الذي سيسبق العاصفة. ثم، ذلك الصراخ الذي يمزق نسيج الواقع.
الأشجار وهي تتحول إلى غبار. الطلاب وهم يركضون في هلع، يصرخون، قبل أن يلتهمهم الظلام.
المعلمون وهم يحاولون يائسين تشكيل دروع سحرية، لتتحطم كزجاج رقيق أمام قوة لا يمكن تصورها.
تخيلت موتي أنا. هل سيضربني بمخالبه؟ أم سيذيبني بحمضه؟ أم أنني سأنظر فقط إلى وجهه الفارغ، وأشعر بروحي وهي تُسحب من جسدي، قطعة قطعة؟
كلا الطريقين يؤديان إلى الموت. الموت مهانًا على يد والدي، أو الموت مرعوبًا على يد وحش من الجحيم.
أي موت أختار؟
شعرت ببرودة تجتاح جسدي. الخيار الوحيد... هو الذهاب. على الأقل، في الغابة، هناك فرصة.
فرصة ضئيلة، شبه معدومة، لكنها موجودة. فرصة أن يحدث شيء غير متوقع.
فرصة أن أستخدم السيف، أو القناع، بطريقة ما. فرصة أن يظهر ذلك الرجل العجوز مرة أخرى. فرصة... للنجاة.
أما في قاعة العرش، أمام والدي، فلا توجد أي فرصة على الإطلاق.
تنهدت بعمق، وشعرت بأن قرارًا ثقيلاً، قاسيًا، قد استقر في روحي.
سأذهب. سأسير نحو المسلخ بقدمي.
خرجت من غرفتي. الممرات كانت تعج بالطلاب المتحمسين، الذين كانوا يحملون حقائبهم، ويتبادلون النكات، ويتحدثون عن المغامرات التي تنتظرهم.
نظرت إليهم، وشعرت بأنني أنظر إلى قطيع من الخراف، يتم اقتياده بسعادة إلى الذئب.
وصلت إلى ساحة التجمع الرئيسية. كانت العربات التي ستنقلنا إلى أطراف الغابة مصطففة، والخيول تضرب الأرض بحوافرها بنفاذ صبر.
الأساتذة كانوا ينادون على الأسماء، يتأكدون من وجود الجميع.
رأيتهم مرة أخرى. أبطال هذه المسرحية المأساوية. آيلا، كانت تتحدث بحماس مع صديقتها، وعيناها تلمعان بالترقب.
سيلين، كانت تقف بصمت، وتفحص معداتها بدقة، كأنها تستعد لحرب حقيقية.
والأمير والأميرة ڤاليراك، كانا يقفان بعيدًا عن الجميع، محاطين بحراسهما الشخصيين، وعلى وجهيهما تعابير من الملل المتعجرف.
لم ينظر إليّ أحد. كنت مجرد ظل آخر في الحشد. وهذا ما أردته.
"هيا، تحركوا!" صاح أحد الأساتذة. "الرحلة طويلة!"
بدأنا في الصعود إلى العربات. صعدت إلى عربة كانت شبه فارغة، وجلست في أبعد زاوية، بجانب النافذة.
انطلقت العربات، تاركة وراءها أسوار الأكاديمية الآمنة.
كنت في طريقي إلى "غابة خشب الفضة". كنت في طريقي إلى "رحلة الموت".
أغمضت عيني، ووضعت يدي على صدري، فوق مكان الندبة الفضية.
شعرت بالخوف، نعم. خوف بارد، قارس، يلتف حول قلبي.
لكن تحت الخوف، كان هناك شيء آخر.
شيء صغير، عنيد، كبذرة تحاول أن تنبت في أرض متجمدة.
إرادة البقاء.
"لن أموت،" تمتمت لنفسي، والكلمات كانت وعدًا، وتحديًا. "لن أسمح لهذه الرواية اللعينة بأن تقتلني. سأجد طريقة. سأنجو."
لكن حتى وأنا أقول ذلك، كنت أعرف أن الكلمات سهلة. والواقع... الواقع على وشك أن يكون أكثر رعبًا من أي شيء تخيلته.
---
---
العربة المدرعة كانت تلتهم الطريق بصمت، كأنها حيوان مفترس يزحف نحو فريسته.
كنت جالسًا في زاويتي، أحدق من خلال الكريستال المسحور في المناظر الطبيعية التي تمر بسرعة، لكنني لم أكن أراها حقًا.
الحقول الخضراء، القرى الصغيرة، السماء الزرقاء الصافية... كل هذا الجمال كان يبدو كإهانة، كديكور مزيف لمسرحية مأساوية على وشك أن تبدأ.
الطلاب الآخرون في العربة كانوا يتبادلون الأحاديث والضحكات الخافتة.
نبلاء شباب، لم يعرفوا في حياتهم سوى الرفاهية والأمان، يتحدثون عن "المغامرة" التي تنتظرهم في "غابة خشب الفضة" الآمنة.
كانوا يتراهنون على من سيجد أندر زهرة، أو من سيتمكن من تتبع أثر حيوان بري.
استمعت إليهم، وشعرت بفجوة هائلة، ببعد لا يمكن قياسه، يفصلني عنهم.
كانوا يعيشون في عالم، وأنا أعيش في عالم آخر تمامًا، عالم تتراقص فيه ظلال الحقيقة المروعة التي أعرفها وحدي.
حاولت أن أركز. أن أفكر كقائد عسكري، كاستراتيجي. أن أحلل الموقف بموضوعية.
"أنا أعرف أن الخطر قادم. هذه ميزة." لكن ما فائدة معرفة أن تسونامي قادم وأنت مقيد في الشاطئ؟
"لكن... في الرواية..." بدأت فكرة تتشكل في ذهني، بصيص من ضوء واهن في ظلام يأسي.
"في الرواية، نير الأصلي... نجا."
نعم. تذكرت الآن.
"جميع الأبطال سينجون في الرواية،" فكرت، وشعرت بموجة من المشاعر المعقدة تجتاحني.
"تمكن نير من النجاة، وجميع أبطال الرواية نجوا. سيلين، بفضل سحرها الجليدي القوي، تمكنت من حماية نفسها ومجموعة صغيرة من الطلاب.
الأمير ثيرون، بفضل حراسه الشخصيين الأشداء والقطع الأثرية التي يمتلكها، صمدت.
آيلا، طبعًا، نجت بفضل حمايتها من قبل نير. وكايلين، بمهارته الخارقة في السيف، شق طريقه عبر الوحوش الأدنى التي أطلقها الكيان الرئيسي."
لكن كيف؟ كيف نجا نير الأصلي؟
ثم، كأن صاعقة من الذاكرة المسمومة ضربت عقلي، تذكرت.
تذكرت ذلك السيناريو الرخيص.
"تلك الكاتبة..." تمتمت، وشعرت بالغضب يبدأ في التكون في صدري، ككرة من نار سائلة. "تلك الكاتبة المعتوهة..."
تذكرت المشهد بوضوح يثير الغثيان. الكيمايرا ناسج الفراغ، ذلك الوحش من الرتبة السابعة، كان قد حاصر نير الأصلي وآيلا في كهف صغير.
كان الموت وشيكًا. الوحش كان على وشك أن يطلق هجومه النهائي، أن يمحوهما من الوجود.
آيلا كانت تصرخ، ونير الأصلي، ببطولة مسرحية مقرفة، وقف أمامها ليحميها بجسده.
وفجأة، في تلك اللحظة الأخيرة، عندما كانت كل الآمال قد تلاشت، ومن أجل "الحب"، من أجل حماية البطلة البريئة، حدثت "المعجزة".
"لقد جعلت نير يوقظ إحدى قدرات سحره،" فكرت، وشعرت بأنني أريد أن أحطم شيئًا. "
ذلك السيناريو الرخيص، المبتذل، الذي استخدمته مئات المرات في روايات أخرى! 'قوة الحب' التي تكسر كل القيود!
لقد تمكن من إطلاق موجة من الظلال الحادة، لم تكن كافية لقتل الوحش، لكنها كانت كافية لتشتيت انتباهه للحظات، اللحظات التي كانت كافية لوصول المساعدة. وهكذا، نجا، ومعه آيلا."
نجا.
بسبب حبه لآيلا.
لكن أنا... أنا لا أحب آيلا. أنا أكرهها. أكره كل ما تمثله. أكره دورها في هذه القصة اللعينة .
بالنسبة لي، هي ليست مصدر قوة، بل مصدر كوارث. ذلك "المحفز" الذي أنقذ نير الأصلي، غير موجود بالنسبة لي.
وهنا، انكسر شيء في داخلي.
ذلك الهدوء البارد الذي كنت أحاول التشبث به، ذلك التصميم القاسي الذي بنيته حول روحي، كل ذلك انهار.
شعرت بغضب عارم، حارق، يمزج بحزن عميق، ساحق. شعرت بأنني طفل صغير، ضائع، قد سُرقت منه لعبته الوحيدة، أمله الوحيد.
شعرت بأنني أريد أن أصرخ. أن أصرخ حتى تتمزق حبالي الصوتية.
أن أضرب بقبضتي جدران هذه العربة الفاخرة حتى تنزف. أن أبكي.
نعم، لأول مرة منذ وصولي إلى هذا العالم، شعرت بأنني أريد أن أبكي بحرقة.
أن أبكي على هذا الظلم الكوني، على هذه السخرية القاسية من القدر.
قبضت على ركبتي بقوة، حتى ابيضت مفاصل يدي. حنيت رأسي، وشعري الأسود غطى وجهي، وأنا أقاتل تلك الرغبة في الانهيار.
لم أستطع أن أظهر أي ضعف. ليس هنا. ليس أمام هؤلاء.
"لكنني أنا..." صرخت في صمت عقلي المنهار. "أنا بطل جُرد من مكانته!
أنا نير ڤيرتون، لكن بدون 'معجزة' الرواية! أنا الشخصية الرئيسية، لكن بدون حماية الكاتبة!
أنا أمتلك نفس الجسد، نفس الاسم، وأواجه نفس المصير، لكن سحري مقيد!"
أنا نسخة معطوبة. نسخة منزوعة السلاح، ألقي بها في نفس ساحة المعركة التي كان من المفترض أن أنتصر فيها.
شعرت بالمرارة تملأ فمي، طعمها أشد قسوة من أي سم.
هذا هو الرعب الحقيقي.
ليس الوحش من الرتبة السابعة. ليس الموت نفسه. بل معرفة أن هناك طريقًا للنجاة، لكن هذا الطريق مغلق أمامي، لأنني لا أمتلك "المفتاح" الصحيح،
مفتاح الحب السخيف الذي صممته الكاتبة.
رفعت رأسي ببطء، ونظرت من النافذة مرة أخرى. رأيت انعكاسي في الكريستال المسحور.
وجه شاحب، وعينان تحترقان بألم وغضب صامتين.
العربة بدأت تبطئ من سرعتها. لقد وصلنا إلى أطراف غابة خشب الفضة.
كانت تبدو جميلة، وهادئة. أشجارها ذات أوراق فضية كانت تتلألأ تحت أشعة الشمس، والأرض كانت مغطاة بطبقة ناعمة من الطحالب الخضراء.
كانت تبدو كغابة من الحكايات الخرافية.
لكنني كنت أعرف الحقيقة.
تحت هذا الجمال الخادع، كان يكمن الموت. كانت تنتظر مجزرة.
توقفت العربات، وبدأ الطلاب في النزول، وأصواتهم مليئة بالحماس والترقب.
نهضت على قدمي، وشعرت بأن جسدي ثقيل، كأنه مصنوع من الرصاص. كل خطوة كانت تتطلب جهدًا هائلاً.
فتحت باب العربة، وخطوت إلى الخارج. الهواء النقي، المعطر برائحة الصنوبر والأرض الرطبة، لم يجلب لي أي راحة. بل شعرت بأنه هواء المقصلة.
وقفت هناك للحظة، أنظر إلى هذه الغابة الجميلة، التي ستكون قبري على الأرجح.
لم أعد خائفًا بنفس الطريقة. الخوف الحاد، الذعر، تحول الآن إلى شيء أعمق، أبرد. إلى يأس هادئ، واستسلام مرير.
"فلتأتِ،" همست للغابة، للوحش، للقدر. "فأنا لم يعد لدي ما أخسره."
لكن في أعماق روحي، كانت هناك شرارة صغيرة، عنيدة، لا تزال ترفض أن تنطفئ.
شرارة الغضب، شرارة الرغبة في الانتقام من هذا المصير الظالم.
وهذه الشرارة... قد تكون هي كل ما أملكه الآن.