[منظور سيلين دي فالوا]

كان المطر يجلد وجهي كما لو أنه يحاول سلخ جلدي، يمتزج بدموع الخوف التي لم أعد أقوى على كبتها. جسدي كان يرتعش بلا سيطرة، لا من البرد وحده، بل من رعبٍ متجذّر يعصر أحشائي.

"سيد الغابة المتحول" قد انشطر إلى نصفين، وانسكبت أحشاؤه على الأرض كما لو أن الغابة نفسها قد تقيّأت. المشهد كان كابوسيًا، لكنّه لم يكن كافيًا لزحزحة اليأس المزروع في أعماقي.

الجنرال ڤاليريوس، الذراع اليمنى للإمبراطور، وقف أمامي كتمثالٍ من الفولاذ واللعنات. كانت هالته الأرجوانية الداكنة تخنق الهواء، تبث رهبة تجرّد حتى الرياح من شجاعتها. ومع ذلك، لم أشعر بالأمان... على العكس، ازداد شعوري بأن شيئًا أسوأ بكثير على وشك الحدوث.

تلك المحادثة الغريبة، التي لم يكن ينبغي لي سماعها، تسلّلت إلى أعماق رأسي كدودة سامة. الحديث عن وحش من الرتبة السابعة؟ شيء كهذا لا يُذكر إلا في أساطير ما قبل النوم، والآن هم يتحدثون عنه بجدية مرعبة.

راقبت الجنرال ڤاليريوس وهو يحدق في الأفق، وعيناي تتشبثان به كمن يستجدي تفسيرًا لهذا الجحيم الذي سقطنا فيه. لم يكن وجوده هنا صدفة، ولم يكن المشهد الذي نعيشه مجرد انحراف في مجريات خطة. كل شيء حولي كان ينزف تحذيرًا، ينبض بكارثة وشيكة.

ثم... جاء الصوت.

لم يكن رعدًا. لم يكن مجرد هدير سماء. كان انفجارًا كونياً، وكأن السماء نفسها تمزقت من الداخل. اهتزت الأرض تحت أقدامنا وكأنها تتنفس رعبًا، كدت أهوى على ركبتي من فرط الصدمة، بينما تطاير الطين والدم في الهواء، وبلل وجهي بمزيج كريه يبعث على الغثيان.

رفعت رأسي... ببطء... برعب.

السماء لم تعد سماء.

لقد انشقّت.

لا وميض، لا برق عابر. بل شق هائل امتد على امتداد السماء، ينبعث منه ضوء بنفسجي خافت وشرير. الضوء لم يكن مجرد إضاءة… كان كائنًا حيًا، ينزف من جرحٍ في الفضاء، ينبض كقلب مذبوح يتشنج قبل موته.

رأيت نسيج الواقع نفسه يتفسّخ أمامي. الهواء كان يتمزق.

شيء ما خلف هذا الضوء… شيء لا يجب أن نراه… شيء لا ينتمي لهذا العالم.

أصوات أنين خافتة بدأت تتصاعد من حولي. طلاب، أصدقاء، أعداء… كلهم كانوا يهتزّون تحت وطأة المشهد. بعضهم بدأ بالبكاء، البعض الآخر حاول الهرب لكن أقدامه لم تطاوعه. الهالات التي بدأت تستعيد لمعانها، انكمشت كزهور ذابلة في ليلة جليدية.

حتى ڤاليريوس، ذلك العملاق الذي لم يهتز حتى في أعتى العواصف، كان يرفع رأسه ببطء نحو السماء، وكأنه عاجز عن فهم ما يراه. هالته الأرجوانية، التي كانت ثابتة، أصبحت تتأرجح كشمعة في مهب جحيم.

ثم…

سقط شيء من قلب الشق.

ببطء مروع، بصمت أبشع من الصراخ، كان كيانٌ عملاق ينحدر. كل لحظة كانت دهرًا، كل ومضة برق تكشف جزءًا جديدًا من كابوس لم تحكه أي قصة. كان ضخمًا، بحد لا يمكن للعقل البشري استيعابه. حتى "سيد الغابة المتحول" الذي تمزق أمامنا بدا كدمية مقارنةً به.

كانت له أطراف كالجذوع، متهدلة كجثث مشنوقة. كان جسده مغطى بقشور سوداء براقة، كأنها دروع شيطانية.

أجنحته ممزقة، تبدو كرايات هزيمة عتيقة.

عيونه… كثيرة، مغلقة… وكأنها تنام في انتظار صحوة جحيمية.

لكن الأسوأ… كان الدم.

ذلك الدم الأسود الكثيف، يتسرب من الشقوق في جلده، ينزف كما لو أن العالم نفسه يصرخ من تحته. كل قطرة كانت لزجة، حية، كأنها تهمس بألف لعنة.

لم يكن كائنًا.

كان لعنة نازلة من السماء.

الجميع كانوا مذهولين.

البعض صرخ، البعض جثا على الأرض، البعض فقط… سكت.

ثم... ارتطم بالأرض.

لا يمكن وصف ما حدث بكلمة "ارتطام". كان زلزالًا من الجحيم.

انفجرت التربة، تمزقت الأشجار، وتدفق الطين والدم كطوفان.

صوت الارتطام لم يكن صوتًا… كان انفجار وجودي، جعل الغابة كلها تصرخ.

الهواء أصبح خانقًا.

الرائحة التي تصاعدت… كانت أسوأ من أي عفونة عرفتها.

رائحة موتٍ غريب… موت لا ينتمي لنا.

الصمت بعد ذلك كان أشد قسوة من الصوت.

الطلاب كانوا يحدقون في الجثة، في تلك الكتلة السوداء الملعونة التي ترقد وسط حفرة، وكأنها تنتظر أن تستيقظ من جديد.

نظرتُ إليها.

نظرتُ طويلاً.

وشعرتُ بأن قلبي لن ينبض كما كان بعد الآن.

هذا ليس كابوسًا انتهى.

بل هو الفصل الأول من كابوس لم يُكتب بعد.

[منظور نير ڤيرتون]

لم يكد صوت ارتطام الكيمايرا الميتة يتلاشى، ولم يكد عمود الغبار والدماء يستقر، حتى... انشقت السماء مجددًا.

لكن هذه المرة لم تكن بوابة.

بل كان الشقّ ذاته يتمدد، يتلوى، كأنما فم كوني هائل فتح فكيه لابتلاع الواقع. الضوء البنفسجي القاتم لم يعد خافتًا... بل صار يصرخ بالجنون. كان نابضًا، حارقًا، يتلوّى كنبض قلب مذبوح يُحتضر، وكأنه يبث لعنة عبر الأثير.

في البداية لم يسقط شيء.

بل... بدأ شيء ما بالهبوط.

هبوط بطيء، أشد بطئًا من أي سقوط رأيته، وكأن الزمن نفسه يتكسر من حوله. لم يكن يخضع لقوانين الجاذبية، بل بدا كأنه يحكمها. كلما اقترب، شعرت بأن نبضي يتباطأ، وبأن عظامي تبرد من الداخل، كما لو أني على وشك التجمد حيّة.

المطر... توقف.

ليس بفعل الرياح أو السحب.

بل لأن هذا الشيء... طرد المطر من الوجود حوله.

الهواء صار لزجًا، خانقًا، أثقل من أن يُستنشق. كانت الطاقة المنبعثة منه أعمق من الظلام، طاقة بدائية، كأنها سُحبت من بداية الخليقة نفسها. لم تكن طاقة وحش... بل طاقة شيء أقدم من الوحوش، أقدم من العالم.

وبعد لحظات بدت كأنها دهر من التعذيب الصامت...

رأيته.

ذلك الكائن... لم يُذكر في الرواية أبدًا.

قرأت 421 فصلًا من أصل 760، وكان كل فصل يغوص أعمق في أسرار هذا العالم...

ومع ذلك، لا وجود لهذا الكائن.

كان شيطانًا.

لكن ليس كما نعرف الشياطين.

كان تجسيدًا للرعب، ملكًا من الجحيم، وهيبته وحدها تُفرّغ الأرواح من أجسادها.

طوله تجاوز الثلاثة أمتار، لكن لم يكن الضخامة ما يرعب... بل الرشاقة الملكية المميتة.

جسده لم يكن مجرد جسد عضلي، بل تمثال شيطاني نُحت من الظلال الصلبة. جلده أسود لامع كزيت مغلي، ينبض أحيانًا وكأنه حيّ، كأن اللعنة تتنفس تحته.

كان يمتلك زوجين من الأجنحة السوداء، هائلة الحجم، لكنها لم تكن مفرودة... بل مطوية بتحدٍّ أرستقراطي مرعب.

وعلى ظهره امتدت قرون ملتوية ضخمة، منحنية للخلف بشكل متناظر، تبدو كما لو أنها تيجان مكسورة لحاكم سقط ذات يوم في الهاوية، لكنه عاد منها أقوى وأشد ظلمة. كانت منحوتة بدقة كأنها نُقشت بأظافر كائنات جهنمية.

وجهه؟

أجل... وجهه لم يكن بشريًا.

لكنه لم يكن شيطانيًا بالكامل أيضًا.

كان خليطًا فريدًا من الجمال المخيف والشرّ النقي.

عيناه جمرتان بلا بؤبؤ، تشتعلان بلون أحمر داكن، يشعان بذكاء لا يُحتمل... ونظرة لا ترى البشر ككائنات، بل كـ"تشوّه مؤقت" في عالمه.

ابتسامته؟

لم تكن ابتسامة.

بل جرح مفتوح على وجهه، يكشف عن أسنان سوداء طويلة كالسكاكين، متراصة كأنها أدوات تعذيب أكثر من كونها أسنانًا.

أنفاسه كانت تنفث دخانًا أسود، ليس كالدخان العادي، بل بخار كراهية خام، ينبعث من أعماق الفراغ ذاته.

وكان يرتدي... درعًا أسود ملكيًا، يلتف حوله ككفن نبيل. لم يكن ثقيلاً، بل أنيقًا بشكل مقلق، مزين بزخارف داكنة تشبه رموزًا لا معنى لها، أو ربما... معناها الوحيد هو الجنون. الدرع كان جزءًا منه، يلتصق بجسده كأن الجلد والدروع وُلدت معًا.

الهالة؟

لا. ليست هالة.

كانت حفرة في الوجود نفسه.

دوامة من سواد حيّ، تسحب الضوء، تُسكت الهواء، وتُجمد الزمن.

لم تكن مجرد طاقة... بل كُفر بالطبيعة.

رأيته...

ورأيت معه النهاية.

الطلاب لم يتحركوا.

الأساتذة لم يتنفسوا.

حتى ڤاليريوس... ذلك الكائن الذي لا يهتز... ثبت في مكانه كطفلٍ رأى كابوسًا واستيقظ ليجده أمامه.

وجوههم كانت ميتة، شاحبة، خاوية.

بعضهم سقط على الأرض وكأن قلوبهم توقفت.

بعضهم ظل واقفًا لكن بعيون فارغة، بلا روح.

والبعض... جلس، يضحك بهدوء.

ضحكة من انهار عقله.

هذا الكائن...

ليس من هذا العالم.

ليس من أي عالم.

إنه شيء لم يُخلق، بل تم استحضاره...

كنت أعلم، في تلك اللحظة، أن الرواية...

خرجت عن سيطرة كاتبتها.

هذا لم يكن جزءًا من الحبكة.

لم يكن من شخصيات الخلفية.

لم يكن من الأسرار الكبرى أو الجانبية.

كان شيئًا جديدًا.

شيئًا أفظع.

شيئًا لا ينتمي للمنطق.

شعرت بروحي تنسلخ من داخلي.

توقّفت أنفاسي في حلقي، لا لأن الهواء قد انعدم، بل لأن قلبي ذاته رفض أن ينبض.

الشيطان... لا، ذاك الشيء... ذاك الوجود القديم، واصل هبوطه البطيء، الملكيّ، المتعالٍ، من فُوَّهة السماء المشقوقة.

لم يكن صمته مجرد غيابٍ للصوت، بل كان فراغًا حيًّا يلتهم المعنى، يتمدد من حوله ويخنق الوعي.

هالةٌ ليست طاقة، بل نقطة انقراضٍ كونية تمشي على قدمين، تُطفئ الضوء، وتُخرس العقول.

"عين الحقيقة" في داخلي كانت ترتجف، تتوسل، تتشقق...

لقد حاولت أن ترى هالته...

لكن كل ما استطاعت أن تراه هو لا-شيء.

فراغٌ لا نهاية له.

نقطة موت روحيّ.

كان جسده أشبه بكابوس ملكي...

ثلاثة أمتار من الهيبة المطلقة، بأجنحة مطوية كأعلام مملكة منتهية، وقرون مُزخرفة كتيجانٍ ملعونة التفت حول رأسه بأناقة مروعة.

وجهه؟ كان جميلاً بشكل مثير للاشمئزاز. ملامحه منحوتة بجمال إلهي... لكن فيه شيء غلط، شيء يجعل روحك ترتعد، وتطلب الهروب دون أن تفهم السبب.

ثم... رفع يده.

كانت إيماءة بطيئة، راقية، كأنها أمرٌ صادر لحشدٍ غير مرئي. لم تكن تهديدًا، بل حقيقة تُقال بالإصبع. وفي اللحظة التي تحركت فيها يده، بدأت ابتسامته تموت.

ذلك الجرح المفتوح على وجهه، ابتلع نفسه ببطء، لتظهر على ملامحه تعابير جديدة...

أبرد...

أكثر حيادية...

كأن الابتسامة كانت مظهرًا من مظاهر رحمته، والآن تخلى عنها.

توقف عن الهبوط.

وقف في الهواء، على بعد أمتار فقط فوق الأرض.

هالته تدور حوله، لا كطاقة، بل كـكفن حيّ يلعق الزمان والمكان.

ثم نظر إلينا...

لكن ليس بعينيه فقط.

كل شيء فيه كان يحدق:

قرونه، درعه، جناحاه، جلده، حتى ظله، كلهم نظروا داخلنا.

شعرت أن روحي تُسلخ ببطء، وتُوضع على طاولة ممددة، تُفحص كأنها أثرٌ مكسور.

ثم تحدث.

لكن... لم يكن صوتًا.

كان اهتزازًا في صميم الوعي.

همسًا خارج حدود الزمن.

كأن الفراغ ذاته قرر أن ينطق.

كلماته لم تكن تُسمع... بل كانت تُشعَر.

اهتزت عظامي مع كل حرف، ونزفت أذنيّ من دون أن أسمع شيئًا.

قال:

"ما كان يجب أن لا يُفتح... قد فُتح."

كلمة واحدة... وهوت الأرض في داخلي.

لم تكن اتهامًا، ولا تحذيرًا.

بل سردٌ لواقعة تاريخية... بصوت أحد من عاشها.

ثم همس ثانية:

"ومع انفتاحه... لم يعد هناك ما يُغلق."

ارتعش الهواء.

ارتجفت الأرض.

وبدأت الهالات تتشقق.

نظرتُ حولي، فرأيت الطلاب يتساقطون كدمى.

البعض شهق حتى الموت، البعض صرخ بلا صوت، وآخرون... صمتوا للأبد.

ڤاليريوس... رأيت ذراعه ترتعش.

سيفه الذي لم يهتز أبدًا، انخفض قليلاً.

هالته الأرجوانية كانت تتشظى كما لو أنها تحترق.

قال الشيطان بعدها:

"أنتم... آثار تائهة من صراع لم تدركوه.

توهّمتم أن الضوء يخصكم، بينما أنتم لم تكنوا سوى ظلالًا بالية."

كل كلمة كانت كأنها ضربة مطرقة على جمجمة زجاجية.

كلماته لم تكن للرد، لم تكن للنقاش... كانت مرآة، تُريك قدرك وتتركك تتعفن فيه.

ثم، بصوت كان كأنه خارج من أعماق الجحيم:

"آن للظلال أن تُعيد تشكيل الصمت."

وانتهى صوته.

وأنتهى معه كل أمل أمتلكته.

كل من بقي واقفًا، جثا.

من لم يجثُ، تساقطت عظامه من داخله.

السماء نفسها بدت وكأنها تخجل من بقائه معلقًا فيها.

2025/07/04 · 107 مشاهدة · 1653 كلمة
Vicker
نادي الروايات - 2025