[منظور سايلس]
الصمت.
لم يكن صمتًا، بل كان غيابًا تامًا لكل شيء. الفراغ الأبيض الذي خلقناه بتصادمنا لم يكن مجرد مكان خالٍ، بل كان جرحًا في جسد الوجود، فراغًا معقمًا حيث لا يوجد هواء، ولا صوت، ولا حتى زمن يتدفق. كنا نقف على لا شيء، ونتنفس لا شيء، ونحدق في بعضنا البعض عبر هاوية من الصمت المطلق.
أمامي، كان الشيطان الخامس، أزاريال، يطفو بهدوء. لم يكن هناك أي أثر للضرر على جسده المصقول كالسبج. لقد خرج من ذلك الانفجار الذي محا الواقع نفسه، سليمًا تمامًا. هذا هو ما تعنيه الرتبة الثامنة. أن تكون قادرًا على الوقوف في قلب فناء الكون... ولا ترمش.
أما أنا... فشعرت بالألم. ليس ألمًا من جرح، بل ألمًا عميقًا في عظامي التي تبلغ من العمر واحدًا وثمانين عامًا.
لقد ارتطمت بالحدود بين الوجود واللاوجود، وشعرت بأن كل مفصل في جسدي قد تم خلعه وإعادته إلى مكانه بعنف. كنت ألهث، والهواء الذي لم يكن موجودًا كان يحرق رئتي.
نظر إليّ بعينيه السوداوين، اللتين كانتا تشتعلان ببؤبؤين من الجمر الأحمر. لم يعد هناك ازدراء، ولا مفاجأة. كان هناك... تقدير. تقدير بارد، مفترس، كتقدير ذئب لخصم عنيد يستحق قتلاً محترمًا.
"قاتل الخلود..." قال، وصوته لم يعد احتكاك زجاج، بل أصبح أعمق، كهدير نجم بعيد. "لم أكن أظن أنني سأرى هذا السلاح الأسطوري في يد بشري فانٍ. يبدو أن الحكايات القديمة... كانت تحمل بعض الحقيقة."
"الحكايات القديمة مليئة بالأكاذيب." أجبته، وصوتي كان هادئًا، لكنه كان يحمل حدة الفولاذ البارد. "لكن هذا السيف... حقيقي جدًا."
بدأ القتال مرة أخرى.
لم يكن هناك اندفاع، ولا صراخ. كان رقصة. رقصة من الإبادة.
تحركنا في نفس اللحظة. لم نعد على الأرض، بل كنا في الفراغ الأبيض، نتحرك بسرعة تتجاوز الفكر.
كنا نظهر ونختفي، ومضات من الظلام والضوء تتصادم في صمت مطلق. كل تصادم كان يرسل تموجات عبر الفراغ، كحصاة تُلقى في بركة من الزمن المتجمد.
كان سيفه، ذلك الرمح من الظلام الأحمر، سريعًا بشكل لا يصدق. كان يطعن، ويقطع، ويضرب من زوايا مستحيلة. لكن سيفي "قاتل الخلود" كان هناك دائمًا لملاقاته.
لم أكن أرى هجماته بعيني، بل كنت أشعر بها، أتنبأ بها، كأن سيفي وروحي قد أصبحا شيئًا واحدًا.
اصطدم النصلان. لم يكن هناك صوت. لكنني شعرت بالصدمة. قوة كافية لشق قارة إلى نصفين، تم احتواؤها في تلك النقطة الصغيرة من التلامس.
دفعته إلى الخلف. اندفع هو أيضًا. كنا متكافئين في القوة الخام.
لكنني كنت أمتلك ميزة واحدة.
في خضم إحدى المراوغات السريعة، تمكنت من خدشه. خدش رفيع على ذراعه المدرعة.
تراجع إلى الخلف، ونظر إلى الجرح. كان خطًا أسود، رفيعًا، ومنه كان يتسرب ليس دمًا، بل دخانًا أسود.
انتظر. وحَدّق. والغضب بدأ يتشكل في عينيه الفارغتين.
الجرح... لم يلتئم.
"ما هذا؟!" زأر، وصوته هذه المرة كان يحمل ذعرًا حقيقيًا.
ابتسمت ابتسامة باردة. "قاتل الخلود يمنع أي تجدد." قلت. "كل جرح يتركه... يبقى إلى الأبد. الآن، هذه معركة عادلة."
الرعب في عينيه تحول إلى غضب أعمى، مطلق. لم يعد يقاتل بذكاء. أصبح يقاتل بوحشية.
أطلق العنان لعاصفة من الهجمات. لم أعد أستطيع صدها جميعًا.
كنت أراوغ، وأتراجع، وسيفه كان يمزق الفراغ حولي، تاركًا خطوطًا سوداء في البياض المطلق.
ثم، أصابني.
لم تكن شفرة. كانت مخالبه. في خضم دفاعي ضد رمحه، مد يده الأخرى، التي كانت تنتهي بمخالب حادة كالماس الأسود. كانت حركة سريعة جدًا، لم أتوقعها.
شعرت بها تمزق الهواء، ثم تمزق وجهي.
الألم كان... أبيض.
أبيض حارق، مبهر، طغى على كل حواسي. شعرت بالمخالب وهي تغوص في لحم خدي الأيسر، تمزق الجلد والعضلات، وتصطدم بعظم وجنتي بصوت طقطقة مقزز.
شعرت بها وهي تستمر في حركتها إلى الأعلى، وتمزق عيني اليسرى من محجرها. سمعت صوتًا رطبًا، صوت تمزق العصب البصري. ثم، استمرت المخالب، ونزعت الجلد عن صدغي وجبهتي، لتكشف عن جزء من جمجمتي البيضاء اللامعة تحت الضوء الذي لا وجود له.
صرخت.
صرخة لم تكن بشرية. كانت صرخة روح يتم سلخها وهي حية.
طرت إلى الخلف، وارتطمت مرة أخرى بحدود الواقع، وسقطت على ركبتي.
العالم كله أصبح الآن نصف مشهد، أراه بعيني اليمنى فقط. النصف الآخر كان مجرد انفجار من الألم والضوء الأبيض والظلام.
الدم... لم يكن هناك دم. في هذا الفراغ، لم يكن هناك حتى فيزياء تسمح للسوائل بالتدفق. كان مجرد جرح مفتوح، مروع، يكشف عن اللحم الأحمر والعظم الأبيض.
"هههه... هاهاهاهاها!"
ضحكة الشيطان كانت عالية، مجنونة، منتصرة. "انظر إلى نفسك، أيها البشري! نصف وجه، ونصف روح! هل ما زلت تعتقد أنك تستطيع تحدي..."
لكن ضحكته ماتت على شفتيه.
لأنني... كنت أضحك أيضًا.
رفعت رأسي، والجانب الأيسر من وجهي كان قناعًا من اللحم الممزق والعظم المكشوف. عيني اليمنى كانت تحترق ببريق أحمر، بريق نقوش سيفي، بريق الجنون المطلق.
ضحكت ضحكة أجشة، مكسورة، مليئة بالألم والكراهية.
"هل... هل هذا هو كل ما لديك؟" قلت، وصوتي كان غريبًا، مشوهًا.
"لقد شعرت بألم أسوأ من هذا وأنا أستيقظ في الصباح."
صدمة الشيطان كانت واضحة. لم يستطع أن يفهم. كيف يمكن لبشري أن يتحمل هذا القدر من الألم... ويضحك؟
الغضب في وجهه تحول إلى شيء آخر. إلى حقد بارد، مطلق.
"إذًا،" قال بصوت هادئ، ومخيف. "إذا كنت تحب الألم كثيرًا... فسأمنحك محيطًا منه."
فعل شيئًا لم أتوقعه أبدًا.
أمسك مرة أخرى بفمه، ومزق الجلد.
لم يكتفِ بتمزيق زوايا فمه هذه المرة. بل وضع أصابعه داخل فمه، وأمسك بفكيه، وبزئير يصم الآذان، شق وجهه إلى نصفين، من الفم حتى الأذنين.
اللحم الأسود تمزق، والعظام تشققت. لم يكن ينزف دمًا، بل كان ينزف ظلامًا أحمر، طاقة فوضوية نقية.
فمه أصبح الآن فجوة هائلة، غير طبيعية، تمتد على عرض وجهه بالكامل، والأسنان الحادة كانت تبدو كأنها سياج من الجحيم.
من هذه الفجوة المروعة، لم يخرج صوت. بل خرج... صمت. صمت أسود، كثيف، بدأ يتدفق منه، ويلتهم الفراغ الأبيض من حولنا.
نهضت على قدمي، وأنا أترنح. تجاهلت الألم. تجاهلت وجهي المحطم. رفعت "قاتل الخلود". توهجت نقوشه الحمراء بقوة، كأنها تتغذى على ألمي، على غضبي.
----
----
الألم كان حقيقة مطلقة. حقيقة حارقة. الجانب الأيسر من وجهي لم يعد موجودًا. كان مجرد قناع دموي من اللحم الممزق والعظم المكشوف. عيني اليسرى كانت قد انفجرت، وكل ما تبقى منها هو تجويف أسود ينزف ظلامًا. كنت أرى العالم الآن بعين واحدة، عين مشوهة بالغضب والألم.
أمامي، كان الشيطان الخامس، أزاريال، يطفو بهدوء. الجرح الذي أحدثته في صدره بسيف "قاتل الخلود" كان لا يزال هناك، خط أسود بشع يرفض أن يلتئم، ويتسرب منه دخان أسود كأن روحه تنزف ببطء. لقد أدرك الحقيقة الآن. في معركة استنزاف، سيفوز السيف الذي يمنع الخلود.
"أيها البشري..." قال، وصوته لم يعد يحمل غضبًا، بل شيئًا أبرد، وأكثر خبثًا. "لقد أثبت أنك حشرة عنيدة. لكن حتى الحشرات... تُسحق في النهاية."
لم يرد على كلماته. كنت أوفر أنفاسي، وأحتوي الألم، وأحوله إلى وقود بارد.
"لقد سئمت من هذه الرقصة." تابع الشيطان، ورفع يديه النحيلتين ببطء، كقائد أوركسترا على وشك أن يبدأ سيمفونية الجحيم. "حان وقت إنهاء المسرحية."
ثم تمتم بكلمات بلغة لم تكن موجودة في أي كتاب في مكتبتي. كلمات كانت أقدم من النجوم، وأكثر قتامة من الفراغ. كلمات كانت عبارة عن اهتزازات في نسيج الواقع نفسه.
"مَذْبَح الألف جدار."
في اللحظة التي نطق فيها بالاسم، انهار العالم.
الفراغ الأبيض من حولنا تمزق. ليس كانفجار، بل كقطعة من الورق يتم طيها على نفسها مرارًا وتكرارًا. سمعت صوتًا كصوت تمزق آلاف الأرواح، ورأيت الظلام يتدفق من الشقوق.
ومن هذا الظلام، ارتفعت الجدران.
لم تكن جدرانًا من حجر أو معدن. كانت جدرانًا من الكوابيس.
جدران سوداء، مصنوعة من عظام لا حصر لها، متشابكة معًا في أشكال معذبة ومستحيلة. كانت هناك جماجم بشرية، وقرون شياطين، وأضلاع مخلوقات أسطورية، كلها ملتحمة معًا في بناء مرعب.
ومن بين فجوات العظام، كانت تحدق آلاف العيون. عيون حقيقية، تتحرك ببطء، بعضها كان يتوهج بضوء أحمر، وبعضها كان يبكي دمًا أسود، وكلها كانت تحدق فيّ، تراقبني، تحكم عليّ، وتشتهيني.
تطاولت الجدران، وارتفعت، وانحنت، لتشكل متاهة دائرية لا نهائية حولي. لم يعد هناك فراغ أبيض. لم يعد هناك شيء سوى هذه الممرات الضيقة، المظلمة، التي تفوح منها رائحة الموت القديم واليأس المطلق.
"هل هذا مجال مغلق؟" فكرت، وعقلي يعمل بسرعة محمومة وسط دوامة الألم. "ولكن كيف؟ إذا كان في الرتبة الثامنة حقًا، فهو لا يستطيع سوى أن يطلق 'ألتيمت باور' (القوة المطلقة)."
لمعت الفكرة في ذهني، واضحة وحادة كشفرة "قاتل الخلود".
الحاجز.
الحاجز هو الذي يجبره على قول الحقيقة.
"ما هذا؟ وما هي قدراته؟ أشرح بالتفصيل "
صرخت، وصوتي تردد في الممرات العظمية. لم يكن سؤالاً خائفًا. كان أمرًا. كنت أستغل ذلك القانون الكوني الذي اكتشفته.
شعرت بالمجال كله يهتز بغضب. سمعت زئيرًا مكتومًا يتردد من الجدران، كأن الشيطان نفسه يصرخ من الإحباط لكونه مقيدًا بهذه الطريقة.
ثم، جاء صوته، ليس من اتجاه معين، بل من كل عين، من كل عظمة. صوت كاره، وغاضب، ومجبر.
"'مَذْبَح الألف جدار'."
"بمجرد تفعيل المجال، يُطوى الفضاء حول العدو إلى متاهة دائرية من ألف جدار أسود، كل جدار مصنوع من عظام متشابكة وعيون تتحرك ببطء. المجال ليس مجرد حاجز فيزيائي، بل هو عالم كامل مغلق داخل وعيي، حيث يصبح الهروب مستحيلًا إلا إذا سمحت أنا بذلك، أو كُسر بقوة أعظم."
صمت للحظة، ثم استمر، وكأن قوة لا مرئية تعصر الكلمات من روحه.
"قدراته..."
" داخل المجال، يتوقف الزمن الخارجي. ثانية واحدة في الخارج قد تساوي ساعات، أو أيامًا، أو قرونًا في الداخل. الوقت هنا... ملكي أنا."
شعرت بالبرد يسري في عروقي. هذا أسوأ مما تخيلت. يمكنه أن يحبسني هنا إلى الأبد، بينما العالم الخارجي يمضي قدمًا.
"استنزاف الذاكرة – كلما بقي العدو داخل المجال، تبدأ ذكرياته بالاختفاء واحدة تلو الأخرى. تبدأ باللحظات الأخيرة، ثم تتراجع، حتى تصل إلى جوهر هويته، إلى اسمه. ستنسى من أنت، ولماذا تقاتل. ستصبح مجرد صدى فارغ."
الرعب. رعب حقيقي، نقي. أن تفقد نفسك... هذا أسوأ من الموت.
"جدران واعية – كل جدار في هذا المذبح حي. ويمتلك القدرة على ابتلاع جزء من جسدك، أو روحك، إذا لمسته. كل لمسة... تأخذ قطعة منك."
انتهى الشرح. وساد الصمت.
فهمت الآن. هذا المجال لم يكن مجرد سجن. كان آلة تعذيب، مصممة لتفكيك العدو ببطء، جسديًا، وعقليًا، وروحيًا، حتى لا يتبقى منه سوى قشرة فارغة.
والجدران... بدأت تقترب.
ببطء شديد، لا يمكن ملاحظته في البداية. لكنني شعرت به. المساحة حولي كانت تضيق.
لا. لن أسمح بذلك.
لن أموت هنا. لن أتحول إلى طعام لهذه الجدران المقرفة.
أغلقت عيني اليمنى السليمة. تجاهلت الألم الحارق في وجهي. تجاهلت الجدران التي تقترب. تجاهلت العيون التي تراقب.
وغصت في أعماق روحي.
إلى ذلك المكان الهادئ، المظلم، حيث تنام قوتي الحقيقية.
لقد كان عليّ أن أستخدمها.
لقد حان وقت إطلاق العنان للجحيم.
فتحت عيني. لم تعد بنية اللون. كانت تحترق بضوء أبيض، كقلب شمس.
"ألتمت باور.... "
"جحيم الصفر المطلق."
الكلمات خرجت مني كهمس، لكنها هزت أساس هذا العالم المصطنع.
بدأ جسدي يتغير. هذه القدرة تسمح بإطلاق قوة مزدوجة تمثل طرفي نقيض الطبيعة.
يدي اليمنى، التي تحمل سيف "قاتل الخلود"، اشتعلت. لم تكن نارًا عادية. كان لهبًا شمسيًا مطلق الحرارة. وهج أبيض-ذهبي، مبهر، انطلق من النصل، حرارته تفوق لب الشمس نفسها.
الهواء الوهمي في الممر بدأ يحترق، والجدران العظمية القريبة بدأت تتوهج باللون الأحمر، ثم الأبيض، قبل أن تبدأ في الذوبان كالشمع. كانت تحرق المادة على المستوى الذري، وتحول حتى الفولاذ الفائق إلى غبار رمادي في أجزاء من الثانية.
وفي نفس الوقت، يدي اليسرى، أصبحت جليدًا. لم يكن جليدًا أزرق أو أبيض. كان جليدًا فراغيًا مطلق البرودة. ظلام أسود، بلوري، تشكل حول يدي، لا يعكس الضوء، بل يمتصه. لم يكن باردًا فحسب، بل كان برودة أقل من الصفر المطلق (−273.15°C).
كان يجمد مفهوم الحركة نفسه. الضباب الخفيف في الهواء تجمد حولي على شكل أنماط معقدة، تشبه المجرات الميتة. كان يجمد حتى الطاقة الحركية للجزيئات، مما يجعل الزمن يتباطأ داخل الجليد ويشل أي حركة أو تفاعل.
أصبحت أنا نقطة التناقض المطلق. كائن من اللهب والجليد، من الخلق والفناء.
رفعت يدي. اليمنى التي تحمل السيف تمثل النار. واليسرى تمثل الجليد.
"لقد بنيت سجنًا من العظام والذاكرة، أيها الشيطان." قلت، وصوتي الآن كان مزدوجًا، صدى من الحرارة الحارقة، وهمس من البرودة القاتلة.
"والآن... شاهدني وأنا أحطمه."
دفعت بكلتا يدي إلى الأمام.
انطلقت موجتان من القوة المطلقة. موجة من اللهب الشمسي، وموجة من الجليد الفراغي. لم تندمجا. بل انطلقتا جنبًا إلى جنب، كأفعيين كونيتين، واحدة بيضاء وواحدة سوداء.
اصطدمت الموجة بالجدار الأول.
لم يكن هناك انفجار.
كان هناك... صمت.
ثم، تلاشى الجدار.
لم يتحطم، لم يذب. لقد توقف عن الوجود.
وبدأت في التقدم. كل خطوة كنت أخطوها، كانت موجة "جحيم الصفر المطلق" تمحو الجدران أمامي، تاركة وراءها ممرًا مستقيمًا من الفراغ.
سمعت زئير الشيطان، زئير غضب ورعب لا يصدق. كان يرى عالمه الداخلي، مذبحه المقدس، يتم محوه من قبل قوة لم يكن يعتقد أنها موجودة.
لكنني لم أتوقف.
جدار تلو الآخر.
مئة.
مئتان.
خمسمئة.
كنت أسير في قلب الجحيم، وأنا أصنع جحيمي الخاص.
والنهاية... كانت تقترب.
.....
.....
.....
التقدم.
كان هذا هو المفهوم الوحيد الذي تشبثت به، الكلمة الوحيدة التي بقيت في عقلي الذي بدأ يتآكل. التقدم. خطوة تلو الأخرى، في هذا الممر اللامتناهي من العظام والعيون الباكية.
كان "جحيم الصفر المطلق" يلتهم كل شيء أمامي. موجة من التناقض المطلق، لهب أبيض-ذهبي من يميني يذيب الجدران على المستوى الذري، وجليد أسود من يساري يجمد الفراغ نفسه، ويحطم ما تبقى إلى غبار صامت.
كنت أسير في نفق أصنعه بنفسي، نفق من الدمار الخالص عبر قلب عالم العدو.
لكن الثمن... كان باهظًا.
كل متر كنت أتقدمه كان يسرق جزءًا من روحي. لم تكن مجرد طاقة سحرية "إيترا" أستهلكها. كانت قوة حياتي. جوهر وجودي الذي بنيته على مدى واحد وثمانين عامًا من الصراع والمعرفة.
شعرت بأنني أحترق من الداخل، وأتجمد في نفس الوقت. الألم في وجهي الممزق لم يعد مجرد ألم، بل أصبح ضجيجًا أبيض، خلفية ثابتة لمعاناتي.
الجدران كانت لا تنتهي.
كلما دمرت جدارًا، كان يتشكل آخر في الأفق البعيد للمتاهة. كانت تتجدد، تعيد بناء نفسها من كوابيس الشيطان. أدركت الحقيقة المروعة: أنا لا أتقدم نحو مخرج. أنا فقط أركض في مكاني، وأحرق وقودي الثمين في سباق عبثي ضد الأبدية.
وفي خضم هذا الإرهاق المطلق، حدث ذلك.
لقد نسيت.
لجزء من الثانية، توقفت. اللهب في يميني خفت، والجليد في يساري تردد. نظرت حولي إلى الممر العظمي، إلى العيون التي لا تعد ولا تحصى والتي تحدق فيّ.
نسيت لوهلة ماذا أفعل.
لماذا أقاتل؟ من هو هذا العدو؟ من أنا؟
الضباب. ضباب استنزاف الذاكرة بدأ يتسلل إلى عقلي، يلتهم حواف وعيي.
وفي تلك اللحظة من الضعف، لعب الشيطان ورقته الأقسى.
لم يهاجمني. بل أظهر لي... ذكرى.
فجأة، رأيت فتاة صغيرة، عمرها لا يتجاوز العشر سنوات، ذات عيون قرمزية واسعة وشعر أسود كليل لا قمر فيه. كانت تقف أمامي، في وسط الممر العظمي، وترتدي فستانًا أبيض بسيطًا.
كانت تبتسم لي، ابتسامة نقية، حقيقية، كزهرة نبتت في قلب الجحيم.
"ليليث..."
الاسم خرج مني كهمس مكسور. لم تكن ليليث المتجاوزة، المرأة التي تحمل ثقل الكون على كتفيها. كانت مجرد طفلة، قبل أن تلتهمها قوتها، قبل أن يلتهمها الحزن. كانت ذكرى من زمن بعيد جدًا، زمن كدت أن أنساه تمامًا.
وبجانبها، كان يقف طفل صغير، بالكاد يستطيع المشي، عمره لا يتجاوز الثالثة. كان يتمسك بثوبها، وشعره أسود فوضوي، وعيناه سوداوان كعيني والده، لكنهما تحملان فضولاً طفوليًا.
نير الصغير.
"سايلس!" نادتني ليليث الصغيرة، وصوتها كان كأنه لحن من عالم أفضل. "تعال والعب معنا!"
تجمدت. شعرت بشيء يتمزق في صدري. شيء لم أشعر به منذ عقود. ألم... ليس ألمًا جسديًا، بل ألم الشوق، ألم الخسارة.
هذا كان فخًا. كنت أعرف ذلك. فخًا خبيثًا، مصممًا ليضربني في نقطة ضعفي الوحيدة المتبقية.
لكنه كان فخًا جميلاً بشكل لا يطاق.
"هذا ليس حقيقيًا..." تمتمت، لكنني بدأت أتقدم نحوهما خطوة.
وفي اللحظة التي فعلت فيها ذلك، تغير كل شيء.
ابتسامة ليليث البريئة تحولت إلى تكشيرة مرعبة. عيناها القرمزيتان أصبحتا فجوتين من الدم. جسد نير الصغير بدأ يتعفن، ويتساقط لحمه ليكشف عن عظام صغيرة، سوداء.
الذكريات... كانت تأتي بطريقة مرعبة.
تراجعت إلى الوراء، وصرخت صرخة غضب ويأس. أطلقت موجة من اللهب، ومحوت الوهم المرعب من الوجود.
لكن الضرر قد حدث. لقد اهتززت. لقد فقدت تركيزي.
والجدران... استغلت ذلك.
لم أعد أقاتل في ممر فارغ. بدأت مخلوقات عملاقة وصغيرة تظهر.
العظام على الجدران انفصلت عن بعضها البعض، وتجمعت في الهواء، لتشكل هياكل عظمية لوحوش منقرضة. غولمات عظمية ضخمة، يبلغ ارتفاعها عشرة أمتار، كانت تنهض من الأرض، وعيونها تتوهج بضوء أحمر.
ومن برك الدم الأسود التي كانت تبكيها العيون، زحفت مخلوقات صغيرة، تشبه العقارب، أجسادها مصنوعة من عظام أصابع متشابكة.
هاجموا.
أصبحت المعركة جحيمًا حقيقيًا. كنت محاطًا.
أهوى غولم عظمي بذراعه الضخمة. جمدتها بلمسة من يدي اليسرى. تجمد العظم، وأصبح هشًا كالزجاج، ثم تحطم إلى آلاف الشظايا الجليدية.
لكن بينما كنت أفعل ذلك، قفزت عليّ ثلاثة من عقارب العظام، وغرزت إبرها السامة في ظهري.
شعرت بالسم البارد ينتشر في عروقي، يشل حركتي.
زأرت، وأطلقت موجة من اللهب الشمسي من سيفي، مبخرًا إياها إلى رماد أسود.
كنت أعاني. كنت أصاب في كل مكان، وأنا لم أقترب حتى من الشيطان. كنت مجرد فأر في متاهته، وهو يلعب بي، يستنزفني ببطء، ويستمتع بكل لحظة من عذابي.
كل هجوم كنت أصده، كل وحش كنت أقتله، كان يأخذ قطعة مني. وكل ومضة من الذكريات التي كان يلقيها عليّ كانت تأخذ قطعة أكبر.
رأيت وجه مورنا، وهي تنظر إليّ بخيبة أمل.
رأيت وجه والدي، وهو يحتضر، ويسألني لماذا اخترت هذا الطريق الملعون.
كل فشل، كل خيبة أمل، كل لحظة ندم في حياتي... كانت تُعرض أمامي، وتُستخدم كسلاح ضدي.
شعرت بأنني أغرق.
ثم، في أعماق يأسي، بينما كنت أصارع غولمًا آخر، تذكرت شيئًا مرعبًا.
لم تكن ذكرى من حياتي. كانت ذكرى... من معرفتي.
شيء كنت آمل ألا أراه مجدداً.
كائن... متجسد على شكل بشري، قبل اثني عشر عامًا...
الذاكرة لم تكن صورة. كانت إحساسًا. إحساسًا بالرعب المطلق.
تذكرت ذلك اليوم. كنت أقف على قمة جبل، أراقب العالم. وفجأة، شعرت به.
ضغط روحي هائل، لا يمكن وصفه، هبط على العالم بأسره. لم يكن عنيفًا. كان هادئًا، ومطلقًا. كأن ساميا قد وضع إبهامه على الواقع.
قوته جعلت عقلي يتوقف قليلاً. لم أستطع التفكير. لم أستطع التحرك. كل غريزة في كياني، الذي وصل إلى الرتبة الثامة، كانت تصرخ بشيء واحد: اخضع.
لقد خضعت.
جسدي انحنى من تلقاء نفسه. ركعت على ركبة واحدة، ليس احترامًا، بل استسلامًا مطلقًا أمام قوة تتجاوز مفهوم القوة نفسه.
لم أستطع. كنت أتنفس بصعوبة بالغة، كان يشعر أنني سأموت. لم يكن يهاجمني. مجرد وجوده... كان كافيًا لمحو وجودي.
استمر الأمر لثانية واحدة فقط. ثم اختفى الضغط بعد قولة تلك الكلمات القاتلة...
لكن تلك الثانية... حفرت نفسها في روحي إلى الأبد.
لقد رأيت لمحة من القوة الحقيقية. قوة تجعل الشياطين تبدو كالأطفال، وتجعل السامين تبدو كالحشرات.
في اللحظة التي عادت فيها هذه الذاكرة المرعبة إلى وعيي، في قلب مذبح الشيطان...
صرخ الشيطان.
صرخة عالية، ومرعبة.
لم تكن صرخة غضب أو انتصار. كانت صرخة رعب خالص، ويأس مطلق.
توقفت كل الوحوش العظمية. اهتزت الجدران. العيون التي كانت تحدق فيّ، استدارت كلها في ارتباك وخوف.
المجال... كان يتصدع.
حتى هو... لم يستطع النظر إلى هذه الذاكرة.
لقد ارتكب خطأً فادحًا. في محاولته لكسري، سحب من عقلي شيئًا كان هو نفسه يخشاه. شيئًا كان مرعبًا لدرجة أن وعيه الشيطاني لم يستطع تحمله.
الغولم العظمي أمامي بدأ يتفكك، والعظام تتساقط على الأرض.
الجدران بدأت تتشقق، والعيون تنفجر في سيل من الدم الأسود.
المجال كان ينهار.
وقفت ببطء، وجسدي محطم، وروحي ممزقة.
نظرت عبر الممرات المنهارة.
ورأيته.
كان الشيطان الخامس يركع في وسط مجاله المدمر، ويداه تغطيان وجهه، وجسده يرتجف بعنف.
كان يبكي. أو يصرخ. لم أستطع التحديد.
لقد فتحت صندوق باندورا في عقلي.
والرعب الذي خرج منه... كان أكبر منا نحن الاثنين.