كان المكان جرحًا أبديًا على وجه الكوكب.
لم يكن بحرًا بالمعنى الفاني للكلمة. كان "أبرثون"، بحر الموت.
مياهه لم تكن زرقاء أو خضراء، بل كانت سوداء، كثيفة كالزيت الخام، وكانت أمواجه لا تتكسر، بل كانت تنتفخ وتتنهد ببطء، كأن محيطًا كاملاً يحتضر.
كانت الأجواء ممطرة جدًا. لم يكن مطرًا، بل كانت دموع السماء المالحة، الرمادية، التي كانت تهطل بلا توقف.
وكانت هناك عواصف رعدية وبرق. البرق لم يكن يضرب سطح البحر، بل كان يتفرع في السماء السوداء كشرايين شجرة ميتة، ضوؤه يكشف للحظات خاطفة عن معالم مرعبة في الأفق:
هياكل عظمية متحجرة لمخلوقات بحجم الجبال، كانت قد ماتت هنا في عصر منسي.
وفوق هذا الجحيم السائل، كان يطفو هو.
الشيطان الأول.
كان في هيئته العجوز، شعره الأبيض القصير يلتصق بوجهه المتجعد بفعل المطر، وردائه البسيط يرفرف بعنف في الرياح العاتية.
كان يقف في الهواء كأنه يقف على أرض صلبة، لا يتأثر بالعاصفة، ولا بالرعب المحيط به.
كان يمسك بيده غمد سيفه، غمد أسود بسيط، لا يحمل أي زخارف.
تأمل البحر، وتنهد. كانت تنهيدة قديمة، تحمل في طياتها حزن دهور لا تحصى.
ثم تكلم، وصوته كان أعمق من الرعد، وأكثر حزنًا من المطر. لم يكن يكلم أحدًا، بل كان يكلم البحر نفسه.
"يسمونكَ بحر الموت، يا أبرثون." قال بهدوء. "إنهم مخطئون.
الموت... هو نهاية. أما أنت... فأنت المكان الذي تأتي إليه النهايات لتُنسى. أنت جرح في ذاكرة الكون، ينزف حزنًا إلى الأبد."
وكأن البحر قد سمع كلماته، وكأنه قد غضب منها، بدأ يضطرب.
توقفت الأمواج عن التنهد، وبدأت تغلي.
العاصفة اشتدت، والبرق بدأ يضرب سطح الماء الأسود، لكن الماء كان يبتلع الضوء، ويمتص الطاقة، كأنه ثقب أسود سائل.
اهتزت الأرض تحت البحر.
وحينها، خرج من أعماقه.
لم يخرج، بل ولد من جديد. ارتفع من الأعماق جبل من اللحم الأسود، اللامع، والأسنان.
"الليڤياثان ".
سمكة عملاقة، لكن كلمة "سمكة" كانت إهانة لوصف هذا الكابوس.
جسدها كان أطول من أي مدينة، وحراشفها كانت كصفائح من زجاج السبج الأسود.
لم تكن لها عيون. وجهها بالكامل كان عبارة عن فم دائري، مليء بآلاف الأسنان الحادة، المتشابكة، كل سن بحجم برج.
كان فمها يكفي لابتلاع مدينة كاملة.
كان من الرتبة الثامنة، ومستواه مرتفع. هالة قوته وحدها كانت كافية لجعل الفضاء حوله يتموج، وتجعل العاصفة تبدو كلعبة أطفال.
نظر الأول إلى هذا الكائن الأسطوري، ولم يتغير تعبير وجهه المتجعد.
"لقد استيقظت أخيرًا." تمتم، وكأنه يحيي جارًا قديمًا ومزعجًا.
"كنت آمل أن تبقى نائمًا."
زأر الليڤياثان، زئيرًا لم يكن صوتًا، بل كان موجة من الضغط الخالص، موجة حطمت بعض الهياكل العظمية العملاقة في الأفق إلى غبار.
سحب الأول سيفه.
لم يكن هناك وميض، ولا صوت معدني. ببساطة، ظهر السيف في يده.
كان شكله مرعبًا في بساطته. كان نصلًا أسود، مستقيمًا، لا يعكس أي ضوء.
كان كأنه قطعة من الفراغ المطلق تم تشكيلها على هيئة سيف.
هذا هو السيف الملعون، سيف لا يكتفي بإراقة الدم، بل يقتات على الزمن، يُنقص من عمر من يطاله بحدّه.
في اللحظة التي ظهر فيها، تعمقت إحدى التجاعيد على وجه الأول، كأن قرنًا من الزمان قد مر في جزء من الثانية.
رفع الأول السيف. ووجه ضربة واحدة مدمرة.
لم تكن ضربة عنيفة. كانت حركة هادئة، رشيقة، كأن رسامًا يرسم خطًا في الهواء.
لكن هذا الخط... قطع الواقع نفسه.
تحرك الخط الأسود الصامت عبر الهواء، أسرع من الفكر. لم يثر رياحًا، ولم يصدر صوتًا.
لولا أن البحر نفسه قد امتص معظم قوتها، لكان الجميع في كل قارة قد شعروا بها.
اهتز بحر أبرثون بعنف، وامتص ذلك التموج في الوجود، كإسفنجة كونية.
لكن جزءًا صغيرًا من قوة الضربة... وصل إلى الليڤياثان.
لم يكن انفجارًا. مجرد خط أسود رفيع ظهر على جلد الوحش السميك. لم يصب إلا بجرح بسيط جدًا.
لكن الليڤياثان صرخ صرخة ألم مروعة.
لأن الجرح... لم يلتئم. كان خطًا من الفناء، حيث كان لحمه يتآكل ببطء، ويتحول إلى لا شيء.
غضب الوحش.
قفز لمسافة عالية، وبسرعة لا تصدق. جسده الذي بحجم جزيرة انطلق من الماء، وحجب السماء للحظة.
كان سيقع مباشرة فوق المكان الذي كان فيه الأول، ليسحقه.
لكن الأول كان قد غير مكانه بالفعل. لقد ظهر على بعد ميل، يطفو بهدوء، ويراقب.
ارتطم الليڤياثان بالبحر. كان الماء يتطاير في كل مكان، مشكلاً موجات تسونامي بارتفاع أميال، كانت ستغرق قارة بأكملها لو لم تكن هذه أرض الموت.
أخرج الليڤياثان من فمه طاقة حمراء هائلة.
لم يكن شعاعًا، بل كان نهرًا من الدم المغلي، والروح المعذبة، انطلق نحو الأول.
رفع الأول سيفه مرة أخرى.
وبحركة بسيطة، شطر النهر الأحمر إلى نصفين.
مر كل نصف على جانبه، واصطدم بالبحر خلفه، مما تسبب في غليان آلاف الأطنان من المياه السوداء في لحظة.
"مزعج." قال الأول.
توهجت عيناه.
لم تعودا نجمتين بيضاوين. أصبحتا بوهج قرمزي، عميق، كقلب نجم يحتضر.
أطلق طاقة قرمزية، ليس من سيفه، بل من عينيه.
كانت موجة من السلطة المطلقة. موجة تقول "اختفِ".
اصطدمت الموجة بالبحر.
جعلت هنالك فجوة واضحة على البحر. لم يتبخر الماء. لقد توقف عن الوجود.
انفتحت هاوية بعرض ميلين في قلب أبرثون، كاشفة عن قاع البحر المظلم، المليء بعظام كائنات أقدم.
لكنه سرعان ما عاد إلى طبيعته، وتدفقت المياه السوداء لتملأ الفراغ.
لكن الليڤياثان، الذي كان في مسار الموجة، كان قد أصيب بإصابات بالغة جدًا.
لم تكن جروحًا جسدية. كانت روحه نفسها قد تم حرقها. صرخ صرخة لم تعد تحمل غضبًا، بل ألمًا خالصًا، وخوفًا.
نظر إلى الأول بعينيه غير المرئيتين، ثم، ببطء، بدأ يغوص عائدًا إلى الأعماق، تاركًا وراءه سحابة من دمه الأسود الذي كان يلوث البحر.
لم يمت. لكنه لن يستيقظ مرة أخرى لآلاف السنين.
بقي الأول يطفو في الهواء، والعاصفة من حوله بدأت تهدأ.
أعاد سيفه إلى غمده. وتعمقت تجعيدة أخرى على يده.
نظر إلى الأعماق حيث اختفى الوحش.
"حتى أشباح هذا العالم... ترفض أن تبقى ميتة."
تنهد مرة أخرى.
"خطة السيد... أصبحت متعبة."
ثم، استدار، وذاب في المطر والظلام، كأنه لم يكن موجودًا قط.
...
...
...
[منظور نير ڤيرتون]
لم يعد هناك شيء اسمه "ألم".
الألم أصبح حالة وجودية، خلفية ثابتة لحواسي، كهمهمة محرك لا يتوقف.
ضلوعي المكسورة كانت قد التأمت بشكل خاطئ، وكنت أشعر بطقطقة خافتة مع كل نفس عميق.
الندوب على جسدي كانت أكثر من الجلد السليم. و روحي... روحي كانت قد شُحذت على حجر الصوان المكون من الإرهاق والمعاناة، وأصبحت الآن حادة، وباردة، ومستعدة للتحطم في أي لحظة.
مر تسعة وعشرون يومًا.
تسعة وعشرون يومًا من الجحيم.
وتبقى يوم واحد فقط.
غدًا، في تمام الساعة الثامنة صباحًا، ستنتهي المسابقة.
كنت أقف على قمة تل صخري، والرياح الباردة تصفع ما تبقى من ملابسي الممزقة.
كنت أنظر شمالاً. هناك، في الأفق البعيد، بالكاد يمكن رؤيته، كان يقع "ملاذ السيادة". ضوء أبيض خافت، يومض ببطء على قمة أعلى جبل في الجزيرة.
النهاية.
كانت قريبة جدًا، لكنها كانت تبدو بعيدة كالشمس.
كان غروب الشمس الأخير في هذه المنافسة.
انتظرت.
توهجت الساعة السوداء على معصمي، وأظهرت الأرقام التي أصبحت هوسي، ولعنتي، وسببي الوحيد للاستمرار.
--- تحديث الترتيب اليومي ---
اليوم التاسع والعشرون. 18 ناجيًا متبقين.
1. نير ڤيرتون: 3158 نقطة
2. كايلين من بيت الخشب الحديدي: 3154 نقطة
3. سيرافينا ڤاليراك: 3150 نقطة
4. ديغون ستونهاند: 3146 نقطة
5. سيلين دي فالوا: 3140 نقطة
6. ثيرون ڤاليراك: 3098 نقطة
...
الأول.
أخيرًا. بعد أسابيع من الصيد الوحشي، والكمائن الدموية، والمعارك اليائسة... كنت في القمة.
لكنني لم أشعر بأي انتصار.
نظرت إلى الأرقام. كان الخمسة الأوائل متقاربين جدًا. الفجوة بيني وبين كايلين كانت أربع نقاط.
أربع نقاط! قتل وحشين تافهين من الرتبة الأولى كان كافيًا ليتجاوزني.
سيرافينا، التي كانت تتحرك كشبح، كانت خلفي بثماني نقاط فقط.
لم يكن هذا صدارة. كان هذا وقوفًا على حافة شفرة حلاقة.
ثم، ظهرت رسالة أخرى على الساعة، رسالة لم تظهر من قبل.
إعلان: ستة متسابقين قد وصلوا إلى ملاذ السيادة. لقد نجحوا في اجتياز المرحلة الرابعة.
ستة قد فازوا بالفعل.
تجمدت. ستة طلاب... قد أنهوا السباق. لقد اختاروا الأمان. وصلوا إلى النهاية، وقبلوا بنقاطهم المنخفضة، لكنهم ليسوا من العشرة الأوائل.
لقد ضمنوا بقاءهم للمرحلة الخامسة والأخيرة.
لقد كانوا الأذكياء.
وهنا، واجهت الخيار الذي سيحدد كل شيء.
كان الملاذ على بعد ساعات قليلة مني. يمكنني أن أركض. أن أتجاهل كل شيء، وأركض نحو ذلك الضوء الأبيض.
سأصل قبل الفجر. سأضمن نجاحي. سأكون في المركز الأول أو الثاني على الأغلب.
سأنجو.
هذا ما كان يصرخ به كل جزء عقلاني في دماغي.
"اركض أيها الأحمق! لقد فعلتها! لا ترمِ كل شيء الآن من أجل الكبرياء!"
لكن صوتًا آخر، أعمق، وأكثر قتامة، كان يهمس في روحي.
صوت يتذكر كلمة "فاشل".
صوت يتذكر حياة كاملة من الخسارة.
"المركز الثاني هو أول الخاسرين."
"أنت لم تأتِ إلى هنا لتنجو. لقد أتيت... لتهيمن."
أغمضت عيني، وأطلقت زفيرًا طويلاً، متعبًا.
عندما فتحتهما، كان القرار قد اتُخذ.
لم أنظر شمالاً نحو الملاذ.
بل نظرت إلى الأسفل، إلى الوديان المظلمة التي كانت لا تزال تعج بالوحوش... وبالنقاط.
"ليلة واحدة أخيرة." تمتمت للريح. "ليلة صيد أخيرة."
لم يعد الأمر يتعلق بالاستراتيجية. لقد أصبح سباقًا محمومًا ضد الزمن.
كنت أقاتل بكل جهد، وإرهاق، وقوة.
كنت أتحرك عبر الغابات الصخرية كإعصار من الظل والفولاذ. لم أعد أهتم بالجروح.
لم أعد أهتم بالإرهاق. كل ما كان يهم هو الأرقام.
وجدت قطيعًا من "عناكب الكريستال". وحوش من الرتبة الأولى، سريعة، وسامة.
في الأسبوع الأول، كنت سأتعامل معها بحذر.
الآن، لم أفعل.
اندفعت في وسطهم، وأطلقت العنان لموجة فوضوية من الظلام.
لم تكن مسيطرًا عليها، لكنها كانت كافية لإرباكهم، وإبطائهم. ثم، بدأ السيف.
قطعة. طعنة. دورة.
في أقل من دقيقة، تحول القطيع إلى أكوام من الكريستال المكسور، والسائل الأزرق.
+12 نقطة.
واصلت التحرك.
رأيت "دبًا مدرعًا" من الرتبة الثانية، وهو يقتلع جذور شجرة. لم أضع خطة.
هاجمت.
كانت معركة وحشية. ألقى بي على صخرة، وشعرت بأن كتفي قد خُلع.
صرخت من الألم، لكنني تدحرجت، واستخدمت ظلامي لأعمي عينيه للحظة، وغرست سيفي في رقبته.
+4 نقاط.
واصلت التحرك.
كنت آلة. آلة تعمل على الألم، والإرادة، والرغبة المريضة في أن أكون الأول.
كل وحش أقتله كان يترك جرحًا جديدًا. وكل جرح كان يذكرني بأنني لا أزال على قيد الحياة، وأنني لا أزال أقاتل.
مع مرور ساعات الليل الطويلة، بدأت أتحرك نحو "وادي الضباب الهامس".
كانت منطقة معروفة في الرواية بأنها موطن لبعض أندر الوحوش، وأخطرها.
كانت مخاطرة. لكنني كنت بحاجة إلى نقاط كبيرة.
دخلت الوادي. كان الضباب كثيفًا، باردًا، وكان يلتف حولي كأكفان مبللة.
كانت هناك أصوات همس غريبة تأتي مع الريح، أصوات لم تكن بشرية، ولا حيوانية.
فعلت "عين الحقيقة".
رأيت هالة برتقالية، قوية، تلمع في عمق الضباب. وحش من الرتبة الثانية، مستواه متوسط.
"أنت لي." تمتمت، وبدأت أتقدم بحذر.
كنت أتبع الهالة، وأتحرك بصمت بين الصخور الملساء التي كانت تغطي أرض الوادي.
اقتربت.
كانت الهالة على بعد خمسين مترًا.
لكن فجأة، توقفت.
ظهرت هالة أخرى في "عين الحقيقة".
هالة بشرية.
كانت رمادية، باردة، وهادئة بشكل مرعب. كانت كقطعة من الجليد في قلب هذا الضباب.
وكانت تتحرك أيضًا نحو نفس الهالة البرتقالية، لكن من الاتجاه المعاكس.
تجمدت، وشعرت بالدم ينسحب من وجهي.
لم يكن هناك سوى شخص واحد في هذه الجزيرة يمتلك هالة بهذا النقاء، وبهذا الانضباط المميت.
كايلين.
اللعنة.
اللعنة على حظي.
كلا المركزين الأول والثاني، في نفس الوادي، يطاردان نفس الفريسة، في الساعات الأخيرة من المنافسة.
لم يكن هذا صيدًا بعد الآن.
لقد أصبح... مواجهة.
مواجهة حتمية.
اختبأت خلف صخرة ضخمة، وقلبي يدق بعنف.
ماذا أفعل؟
هل أهاجم الوحش، وأخاطر بأن يهاجمني كايلين من الخلف؟
هل أنتظر، وأترك كايلين يقاتل الوحش، ثم أهاجم الفائز المنهك؟
أم... هل أهاجم كايلين الآن، وأحسم الأمر؟
نظرت إلى الضباب.
لم يعد مجرد ضباب.
لقد أصبح... ستارة.
ستارة على وشك أن تُرفع... عن المسرح الأخير.
...
...
...
[منظور كايلين]
الضباب...
كان كائنًا حيًا. يتنفس، ويهمهم، ويلتف حول الصخور الحادة في "وادي الضباب الهامس" كأكفان مبللة.
لم يكن مجرد ظاهرة طبيعية، بل كان يحمل في طياته صدى أرواح
قديمة، وهمسات حزينة كانت تتسلل إلى عقلك إذا لم تكن حذرًا.
كنت أتحرك عبر هذا الضباب لأكثر من ساعة، لا أعتمد على عيني، بل على حواسي الأخرى.
على صوت خطواتي المكتومة على الأرض الرطبة. على اهتزاز الهواء.
على ذلك الاضطراب الخفيف في إيقاع الوادي الصامت، الذي كان يخبرني بأنني لست وحدي.
كنت أتعقب فريستي.
هالة برتقالية، قوية، كانت تنبض في "الفراغ" الذي يحيط بوعيي.
لم تكن هالة غضب، بل كانت هالة من الحزن البارد، والجوع الأبدي.
"شبح الضباب". وحش نادر من الرتبة الثانية، مستواه متوسط. أربع نقاط.
بدأت المعركة دون سابق إنذار.
لم يهاجمني. لقد ظهر ببساطة.
من الضباب الكثيف أمامي، تجسد الشكل. كان ضخمًا، يشبه ذئبًا شبحيًا، لكن جسده لم يكن من لحم ودم، بل كان من ضباب أبيض، مكثف، شبه شفاف.
كانت مخالبه وأنيابه هي الأجزاء الوحيدة الصلبة فيه، وكانت تبدو كأنها منحوتة من الجليد الأسود.
وعيناه... كانتا فجوتين فارغتين، تتوهجان بضوء أزرق بارد، ومؤلم.
لم يزأر.
بل تنهد. تنهيدة طويلة، حزينة، شعرت بها كبرد جليدي في روحي.
كانت معركة ضد شبح.
كلما هاجمت، كان سيفي يمر عبر جسده الضبابي دون أي تأثير.
وكلما هاجم هو، كانت مخالبه الشبحية تمر عبر درعي، لا تمزق جلدي، بل تسرق دفء حياتي، وتترك وراءها خدرًا جليديًا، وألمًا عميقًا في روحي.
"الفراغ..."
أغمضت عيني. لم يعد هناك ضباب، ولا وحش.
أصبح العالم شبكة من النوايا والاهتزازات. شعرت به وهو يتجمع، وهو يستعد للهجوم.
لم أنتظر.
هاجمت المكان الذي سيكون فيه.
مر سيفي عبر الهواء الفارغ.
لكنه في تلك اللحظة، تجسد الوحش بالكامل ليضربني.
اصطدم سيفي بصدره الصلب.
صرخ صرخة حادة، لم تكن مسموعة، بل شعرت بها كاهتزاز عنيف في جمجمتي.
استمرت هذه الرقصة المميتة لدقائق بدت كأنها دهر. كنت أتوقع حركاته، وأهاجم نقاط ضعفه اللحظية.
وهو كان يهاجمني باستمرار، ويستنزف روحي ببطء. كنت أنزف، ليس دمًا، بل قوة حياة. شعرت بالإرهاق يغمرني، إرهاق لم يكن جسديًا، بل كان وجوديًا.
في النهاية، رأيت فرصتي.
لقد تظاهرت بالإرهاق، وترنحت، وتركت دفاعي مفتوحًا للحظة.
لقد ابتلع الطعم.
تجسد بالكامل، وانقض عليّ، وفمه المفتوح مستعد لابتلاع روحي.
وفي تلك اللحظة، لم أهاجم.
بل ألقيت بنفسي على الأرض، وتدحرجت تحته، وبحركة واحدة، سريعة، وصامتة، طعنته من الأسفل، في المكان الذي كان يجب أن يكون فيه قلبه.
صرخ صرخة أخيرة، صامتة، وتلاشى جسده الضبابي كالدخان في الريح، تاركًا وراءه جوهرة روحية زرقاء، تتوهج ببرود على الأرض.
سقطت على ركبة واحدة، ألهث بعمق، وأنا أشعر بالبرد العميق في عظامي. لقد انتصرت، لكن الثمن كان باهظًا.
نهضت ببطء.
ثم، استدرت.
نظرت مباشرة نحو صخرة ضخمة، على بعد ثلاثين مترًا.
لم يكن هناك شيء.
لكنني كنت أعرف.
"الفراغ" لا يكذب.
لقد شعرت به. شعرت بتلك الهالة المظلمة، الفوضوية، التي كانت تراقبني طوال المعركة.
نهضت.
ثم استدرت ببطء.
نظرت نحو صخرة على بعد ثلاثين مترًا. فارغة. لكن "الفراغ" لا يكذب. هناك... خلفها، هالة مظلمة، مضطربة، كانت تراقبني طوال المعركة.
"اخرج... ڤيرتون."
صوتي كان أجشًا، متعبًا. "أعرف أنك هناك."
صمت. طويل.
ثم خرج.
نير ڤيرتون.
بدا أسوأ مني. ملابسه ممزقة، جسده مغطى بالدم الجاف والطين. لكنه رغم ذلك... عيناه كانتا مشتعلة بحدة، كحيوان مفترس رُكِّن في زاوية.
تواجهنا في ساحة صغيرة أصبحت الآن مقبرة لشبح. الأول والثاني. مطاردان بعضهما طوال شهر، والآن يقفان أخيرًا وجهًا لوجه.
رفع سيفه.
رفعت سيفي.
اللحظة التي كان يجب أن تحسم كل شيء... لكن شيئًا في داخلي صرخ أن هذا ليس الوقت.
"قتالنا لن يستفيد منه أحد."
خرجت كلماتي ببرود ومنطق، رغم الإعياء.
"انظر إلينا. نحن على حافة الانهيار. معركتنا الآن لن تكون مبارزة شريفة، بل ذبحًا متبادلًا. وسواء فاز أحدنا أم خسر، سينهار المنتصر فريسة سهلة للآخرين."
تركته يصمت، ثم أكملت، وصوتي أشد صرامة:
"بينما نذبح بعضنا من أجل ست نقاط... سيرافينا، ديغون، سيلين... هم الذين يحصدون الغنائم. وبحلول الوقت الذي نُريق فيه دماءنا هنا، سيكونون قد سبقونا بمراحل."
رأيت ومضة فهم في عينيه. كان يفكر. يتصارع بين الكبرياء والحقيقة.
"أنا لا أخشاك، ڤيرتون." قلت بصدق. "لكنني أحترمك. ولن أسمح أن نهزم نحن الاثنين بسبب حماقة."
خفضت سيفي قليلًا، وقلت بوضوح:
"كل واحد يذهب في طريقه. نؤجل حسابنا للمرحلة الأخيرة. حينها فقط... سيكون نزالنا جديرًا."
الصمت استمر دهورًا.
ثم زفر نير ببطء... وخفض سيفه. إيماءة صغيرة. موافقة.
أعدت سيفي إلى غمده.
ثم أدرت له ظهري. مشيت نحو الضباب، تاركًا له فرصة أن يطعنني في ظهري لو أراد.
لم أفكر في ذلك.
كنت أعرف حقيقتين:
أولاً: أن كايلين من بيت الخشب الحديدي لا يهرب من معركة... بل يختارها.
وثانيًا: أن معركتي الحقيقية مع نير ڤيرتون... لم تبدأ بعد.
لقد تأجلت فقط.
وهذا... جعلها أكثر إثارة.