[منظور نير ڤيرتون]
الصمت الذي تلا اعترافنا المشترك بالرعب كان من نوع مختلف. لم يكن صمتًا محرجًا، ولا صمتًا عدائيًا. كان صمت الناجين.
صمت ثلاثة جنود جلسوا معًا في خندق بعد أن نجوا بأعجوبة من قصف مدفعي كاد أن يمحوهم من الوجود.
كان صمتًا ثقيلاً، مشحونًا بالحقيقة المروعة التي رأيناها جميعًا، وبذلك الإدراك البارد بأننا، رغم كل خلافاتنا، نشترك الآن في نفس الكابوس.
الخادم، الذي كان ينتظر على مسافة محترمة، تقدم بتردد، كأنه يخشى أن يكسر هذه الفقاعة الهشة من الهدوء المروع.
"هل أنتم مستعدون للطلب، يا أسيادي؟"
نظرت إلى قائمة الطعام المصنوعة من الجلد الفاخر، والتي كانت تبدو الآن سخيفة بشكل لا يصدق.
الكلمات المكتوبة بأناقة – "لحم الغريفين المشوي مع صلصة التوت البري"، "حساء فطر 'الضوء النجمي' الكريمي" – بدت كأنها من عالم آخر، من حياة أخرى لم أعد أنتمي إليها.
ماذا يهم طعام الأثرياء عندما تكون قد حدقت في عيني العدم نفسه؟
لكن جسدي كان له رأي آخر. كان يصرخ مطالبًا بالوقود، بالطاقة، بأي شيء يمكن أن يرمم الضرر الذي لحق به، ليس فقط في جزيرة السيادة، بل في هذه اللحظات القليلة الماضية من الرعب المطلق.
"سآخذ... الحساء." قلت بصوت خافت، وأشرت إلى أول شيء رأيته. "والخبز."
كايلين، الذي كان لا يزال ينظر إلى يديه كأنه يرى فيهما رعشة خفيفة لم تكن موجودة من قبل، قال ببرود، "شريحة لحم. مطهوة جيدًا."
كان طلبه عمليًا، مباشرًا. وقود خالص للعضلات.
أما ثيرون، فتردد للحظة. ثم، كأنما بإشارة إلى أنه لم يُهزم تمامًا، قال بصوته الملكي المعتاد، وإن كان باهتًا قليلاً،
"أحضر لي أفضل ما لديكم. وليكن النبيذ من أقدم قبو."
غادر الخادم، وعاد الصمت ليسيطر علينا. لكن هذه المرة، لم يكن صمتًا فارغًا. كان مليئًا بالأفكار التي لم تُقل.
"عين الحقيقة" كانت تريني هالاتهم بوضوح مؤلم.
هالة ثيرون الذهبية كانت لا تزال مضطربة، كشمس خلف غيوم عاصفة، وفيها ومضات من اللون الرمادي للشك، والأزرق الداكن للخوف الذي لم يتبدد بعد.
هالة كايلين البيضاء، التي كانت عادة ثابتة كجليد القطب الشمالي، كانت الآن تتموج ببطء، كأن هناك صدعًا قد ظهر في جليده المثالي.
أما أنا... فلم أجرؤ على النظر إلى هالتي. كنت أخشى أن أرى فيها فقط ظلامًا أسود، لا قرار له.
وصل الطعام. تم تقديمه بصمت، وبكفاءة لا تشوبها شائبة.
الأطباق الفضية كانت تلمع تحت الضوء الخافت للمطعم، والبخار الذي كان يتصاعد من طعامنا كان يحمل روائح شهية، لكنها بدت غريبة، غير مناسبة لهذا الجو الجنائزي.
بدأنا في الأكل.
كانت كل حركة بطيئة، متعمدة. صوت احتكاك الشوكة الفضية بالخزف الصيني كان يبدو مدويًا في الصمت.
الحساء الذي طلبته كان دافئًا، كريميًا. شعرت بالدفء ينتشر ببطء في صدري، يطرد جزءًا ضئيلاً من البرد الذي تجذر في روحي.
أكلت ببطء، مركزًا على الإحساس. ملمس الحساء المخملي على لساني. قرمشة الخبز الطازج.
كانت هذه حقائق بسيطة، مادية، يمكنني التشبث بها في عالم أصبح فجأة غير حقيقي.
راقبت الآخرين. كايلين كان يأكل بنفس الطريقة التي يقاتل بها: بكفاءة، ودقة، وبلا أي حركة زائدة.
كان يقطع شريحة اللحم إلى قطع متساوية، ويمضغها ببطء، وعيناه مثبتتان على طبقه، كأنه يحلل مشكلة تكتيكية.
ثيرون، من ناحية أخرى، كان يتظاهر. كان يمسك بكأس النبيذ بأناقة، ويدوره، ويشم رائحته، كأنه في حفل عشاء ملكي.
لكن يده كانت ترتجف بشكل طفيف جدًا، والكمية التي كان يشربها كانت أكبر من المعتاد.
لم يكن يستمتع بالنبيذ. كان يستخدمه كدواء.
"ذلك الشيء..." قال ثيرون فجأة، وصوته كان منخفضًا، كأنه يخشى أن يسمعه أحد.
"لم يكن وحشًا. الوحوش... لها رائحة. لها حضور جسدي. ذلك الشيء... كان مختلفًا."
"لقد كان فراغًا." قال كايلين، دون أن يرفع عينيه عن طبقه.
"فراغًا يرتدي قناعًا."
"لقد كان ينظر إلينا،" أضفت، وشعرت بالقشعريرة تعود إليّ.
"ليس كفريسة. بل ك... أخطاء. كشوائب في عالمه المثالي."
ساد الصمت مرة أخرى، لكنه كان الآن صمت تفكير مشترك.
"والدي..." بدأ ثيرون، ثم تردد، كأنه على وشك أن يكشف عن سر عائلي.
"الإمبراطور... لم أرَ مثل هذا التعبير على وجهه من قبل. ليس منذ... وفاة والدتي."
كان هذا اعترافًا صادمًا بالضعف، قادمًا من ولي العهد.
"لقد كان خائفًا أيضًا." استنتجت بصمت.
أنهينا طعامنا في هذا الصمت المشحون. لم نتحدث كثيرًا بعد ذلك.
الكلمات بدت تافهة، وعديمة الجدوى أمام حجم ما شهدناه.
عندما دفع ثيرون الحساب برمية عملة بلاتينية على الطاولة كأنها حصاة، وقفنا لنغادر. الهواء في المطعم بدا فجأة خانقًا، ضيقًا.
"أنا... سأتمشى قليلاً." قلت، وشعرت بحاجة ماسة إلى الهواء الطلق، إلى الفضاء المفتوح.
"سآتي معك." قال كايلين على الفور.
"وأنا أيضًا،" أضاف ثيرون، كأنه لا يريد أن يُترك وحده مع أفكاره.
وهكذا، وجدنا أنفسنا، نحن الثلاثة، نسير في ساحات الأكاديمية الصامتة تحت جنح الليل.
لم تكن مسيرة أصدقاء. كانت أشبه بدورية حراس مذعورين، يتحركون في تشكيل مثلث فضفاض، كل منا يراقب الظلال، ويحافظ على مسافة حذرة من الآخر.
الجو المرعب الذي خلقه ذلك الكيان لم يتبدد تمامًا.
"عين الحقيقة" كانت لا تزال تريني بقاياه، كبقع داكنة، باردة، على نسيج الواقع، خاصة في الأماكن المرتفعة التي تطل على السماء.
الطلاب القلائل الذين كانوا لا يزالون في الخارج كانوا يتحدثون بهمس، ويتحركون بسرعة، كأنهم يخشون الظلام.
"إذًا،" قال ثيرون، في محاولة لكسر الصمت.
"المرحلة الخامسة. بعد أسبوعين. ما هي خططكم؟"
"التدريب،" قال كايلين ببساطة.
"البقاء على قيد الحياة،" قلت بسخرية.
تنهد ثيرون. "هذا لم يعد كافيًا، أليس كذلك؟" قال، وهذه المرة، لم تكن هناك أي غطرسة في صوته. فقط إدراك مرير.
"مهما تدربنا، مهما أصبحنا أقوياء... هناك أشياء في هذا العالم... تتجاوزنا تمامًا."
وصلنا إلى حديقة منعزلة، في أقصى الطرف الغربي للأكاديمية.
كانت حديقة هادئة، في وسطها نافورة ماء قديمة، لا تعمل.
جلسنا على حافتها الحجرية الباردة، تحت ضوء قمر فضي شاحب.
"في الرواية..." بدأت، ثم صمت. كدت أن أكشف عن سري الأكبر.
"في الأساطير القديمة،" صححت نفسي بسرعة، "هناك ذكر لكائنات كهذه. حاصدو الأرواح. خدم لساميين منسيين."
"ساميين؟" ضحك ثيرون ضحكة خالية من المرح. "والدي يعتقد أنه سامي. لكن حتى هو... كان مصدومًا."
"ليس ساميا،" قال كايلين بهدوء. "إنه شيء آخر. شيء لا ينتمي إلى هذا التسلسل الهرمي.
لقد شعرت به. لم تكن قوة... بل كانت... سلطة. سلطة مطلقة على الوجود."
في تلك اللحظة، توصلنا إلى تفاهم صامت.
المنافسة، الترتيب، النقاط... كل هذا أصبح الآن ثانويًا. لقد رأينا لمحة من العدو الحقيقي.
ليس عدوًا للإمبراطورية، أو لعائلة ڤيرتون. بل عدوًا... للعالم نفسه.
لم نقل أي شيء آخر. بقينا جالسين هناك، في صمت، لعدة دقائق أخرى، كل منا غارق في أفكاره المظلمة.
ثلاثة شباب، يفترض أن يكونوا أعداءً لدودين، وجدوا أنفسهم فجأة حلفاء غير متوقعين في حرب لم يكونوا يعرفون حتى أنها موجودة.
ثم، نهض كايلين. "عليّ أن أذهب. التدريب لن يكمل نفسه."
نهض ثيرون أيضًا. "وأنا... لدي بعض الأسئلة لأطرحها على والدي. أسئلة طال انتظارها."
نهضت أنا.
لم تكن هناك كلمات وداع. فقط إيماءات رأس صامتة، وموجزة.
إيماءات تحمل في طياتها وزنًا جديدًا. وزن احترام متبادل، وُلد من رحم رعب مشترك.
شاهدتهما وهما يغادران في اتجاهين مختلفين، يختفيان في ظلال الأكاديمية.
بقيت وحدي مرة أخرى. لكن هذه المرة، الوحدة كانت مختلفة. لم تعد عزلة مطلقة. كانت... مجرد صمت.
عدت إلى جناحي، وأغلقت الباب.
الغرفة كانت لا تزال هادئة، ومظلمة. لكنها لم تعد تبدو.
بل أصبحت... كقلعة.
قلعة عليّ أن أحصنها، أن أستعد فيها. لأنني كنت أعرف، بيقين بارد ومطلق، أن الحرب قادمة.
وأن ذلك الشيء الذي رأيناه... سيعود.
وهذه المرة... قد لا يكون مجرد مراقب.
...
...
...
الأسبوع الذي تلا ذلك اليوم المشؤوم مر كحمى طويلة، بطيئة، ومؤلمة. لم يكن أسبوعًا من التعافي، بل كان فترة من الهضم.
هضم الرعب، هضم الهزيمة، وهضم تلك الحقيقة الجديدة، المروعة، بأن هناك قوى في هذا العالم تجعل صراعاتنا تبدو كشجار أطفال في ساحة اللعب.
الأكاديمية بأكملها كانت تحبس أنفاسها. الإعلان عن تأجيل المرحلة الخامسة لمدة أسبوعين آخرين لم يجلب الراحة، بل زاد من التوتر، لأنه كان اعترافًا رسميًا بأن شيئًا ما قد خرج عن السيطرة بشكل كارثي.
قضيت معظم هذا الأسبوع في جناحي الخاص، ذلك القفص الذهبي الذي أصبح الآن ملاذي الوحيد.
كنت أتدرب، نعم، لكن تدريبي أصبح مختلفًا. لم يعد مجرد محاولة يائسة لتقليد حركات سيف أو السيطرة على ظلام فوضوي.
أصبح تأملاً. كنت أجلس لساعات، وأنا أحاول أن أتذكر، أن أستعيد، ذلك الإحساس.
إحساس تلك النظرة الكونية، وذلك الرعب المطلق.
كنت أحاول أن أفهم حجم ضعفي، لأتمكن يومًا ما من بناء قوة حقيقية على أنقاضه.
اللقاء الغريب مع كايلين وثيرون في المطعم لم يتكرر. لكن شيئًا ما كان قد تغير.
عندما كنا نلتقي في الممرات القليلة التي كنت أجبر نفسي على عبورها، لم تعد هناك تلك النظرات العدائية أو الساخرة.
بل كانت هناك إيماءة رأس خفيفة، صامتة. إيماءة اعتراف مشترك. كنا أعداءً، نعم، لكننا كنا أيضًا ناجين من نفس الكارثة، وهذا خلق رابطًا غريبًا، وغير مريح، بيننا.
في مساء اليوم السابع، بعد أسبوع كامل من هذا الصمت المطبق، كنت جالسًا وحدي في غرفة المعيشة في جناحي.
كنت قد طلبت وجبة بسيطة من مطابخ الأكاديمية – حساء لحم دافئ، وبعض الخبز الطازج.
كنت بحاجة إلى شيء حقيقي، شيء مادي، ليثبت لي أنني لا أزال في هذا العالم، وأنني لست مجرد شبح يطارده صدى الرعب.
كنت قد أخذت للتو الملعقة الأولى من الحساء الساخن، وشعرت بدفئه ينتشر في صدري، عندما بدأ.
لم يكن صوتًا، ولا اهتزازًا.
كان تغيرًا في الضوء.
الظلال في زوايا الغرفة، الظل تحت الأريكة، الظل خلف الستائر الثقيلة... بدأت تتحرك.
لم تكن مجرد حركة ناتجة عن وميض المصابيح البلورية.
كانت حركة سائلة، عضوية، كأن حبرًا أسودًا كثيفًا بدأ يتسرب من شقوق غير مرئية في الواقع، وينتشر على الأرضية الخشبية المصقولة.
تجمدت، والملعقة في منتصف الطريق إلى فمي. قلبي، الذي كان ينبض بهدوء نسبي، بدأ يدق بعنف، كجرس إنذار.
استدعيت السيف الأسود في وعيي، جاهزًا للظهور في يدي في جزء من الثانية.
"عين الحقيقة" كانت تصرخ في عقلي، وتريني أن هذه الظلال لم تكن مجرد ظلال.
كانت مشبعة بطاقة هائلة، مظلمة، ومألوفة بشكل مرعب.
تجمعت الظلال السائلة في وسط الغرفة، وشكلت بركة دوارة من الظلام المطلق. لم تكن تعكس أي ضوء. كانت تبتلعه.
ثم، ارتفعت. ارتفعت البركة لتشكل عمودًا من الليل المتجمد، عمودًا صامتًا، لا يصدر أي صوت، لكن حضوره وحده كان كافيًا لجعل الهواء في الغرفة أبرد بعشر درجات.
ثم، من قلب ذلك العمود، خطوا إلى الخارج.
كان والدي، دوق الظلال، أول من ظهر. لم يخطُ، بل انزلق من الظلام كأنه جزء منه.
عباءته السوداء كانت تلتف حوله، وظله المعتاد، الذي كان يخفي وجهه، بدا أعمق وأكثر قتامة من أي وقت مضى في هذه الغرفة المغلقة.
كان حضوره يضغط على كل شيء، يمتص الصوت، ويجعل حتى أنفاسي تبدو كجريمة صاخبة.
لكنه لم يكن وحده.
كانت تمسك بطرف عباءته بيد صغيرة، شاحبة. سيريس.
أختي الصغيرة. أو بالأحرى، أخت نير الصغيرة.
كانت ترتدي فستانًا أرجوانيًا داكنًا هذه المرة، مزينًا بالدانتيل الأسود، مما جعل بشرتها تبدو أكثر شحوبًا، وعينيها القرمزيتين أكثر توهجًا.
لم تكن تبدو خائفة من الظلام الذي خرجت منه للتو.
بل كانت تنظر حولي في جناحي بفضول طفولي، كأنها في رحلة استكشافية إلى مكان غريب ومثير.
بقيت جالسًا في مكاني، متجمدًا، والملعقة في يدي. عقلي كان يرفض أن يعالج هذا المشهد المستحيل.
والدي، الذي لم يزرني قط في جناحي، وأختي، التي لا يجب أن تكون موجودة خارج تلك المكتبة الكونية... كلاهما هنا الآن، في غرفتي، كأنهما خرجا للتو في نزهة مسائية.
"نير."
صوت والدي، ذلك الصدى العميق الذي يهز الروح، كسر الصمت.
لم أستطع الرد.
سيريس تركت عباءة والدها، وركضت نحوي، وخطواتها الصغيرة لا تصدر أي صوت على السجادة السميكة.
توقفت أمامي مباشرة، ورفعت رأسها لتنظر إليّ بعينيها القرمزيتين الكبيرتين.
"أنت تأكل،" قالت، كأنها تعلن عن حقيقة علمية مذهلة. ثم نظرت إلى وعاء الحساء، ومالت برأسها.
"هل هو لذيذ؟ رائحته جيدة."
لم أستطع أن أمنع نفسي. نظرت من وجهها الطفولي، البريء، إلى الشكل المظلم، المرعب، لوالدي الذي كان يقف كشبح صامت عند الباب. ثم عدت بنظري إليها.
العبثية. السريالية. الجنون المطلق لهذا الموقف... كان أكثر من اللازم.
أطلقت ضحكة. لم تكن ضحكة مرحة. كانت ضحكة قصيرة، أجشة، يائسة. ضحكة رجل فقد عقله تمامًا.
اتسعت عينا سيريس. "لماذا تضحك؟ هل قلت شيئًا مضحكًا؟"
"كل شيء... كل شيء مضحك،" تمكنت من القول، وأنا أضع الملعقة جانبًا.
لكن سيريس لم تهتم بتحليلي الوجودي. كانت لديها أولويات أخرى.
"أخي!" قالت، وهذه المرة، كان صوتها يحمل نبرة من الأمر الطفولي.
"أنا أشعر بالملل. المكتبة مملة. والدي ممل. وأليستر... هو الأكثر مللاً على الإطلاق."
"لقد وعدتني أمي أنك ستلعب معي."
تجمدت. "أنا... فعلت؟"
"لا، هي التي فعلت." صححت نفسها بسرعة.
"لكن هذا لا يهم! أنت أخي! عليك أن تلعب معي! هيا!" أمسكت بيدي، ويداها كانتا باردتين بشكل مدهش.
"أريد أن أتمشى! أريد أن أرى هذا المكان! أبي يقول إنه مليء بالأطفال المزعجين! أريد أن أراهم!"
نظرت بيأس نحو والدي، أبحث عن أي إشارة، أي مساعدة. لكنه كان لا يزال مجرد ظل صامت. لا يمكن قراءته.
شعرت بنظراته غير المرئية عليّ. لم يكن يأمرني. ولم يكن يمنعني.
كان... يراقب. كان يترك القرار لي. وهذا كان أسوأ بألف مرة من أي أمر مباشر.
ماذا كان هذا؟ اختبار آخر؟ مزحة مريضة؟
"أرجوك؟" قالت سيريس، وهذه المرة، ارتجفت شفتها السفلى قليلاً، وعيناها القرمزيتان أصبحتا لامعتين.
كانت تعرف كيف تستخدم أسلحتها.
تنهدت. تنهيدة عميقة، متعبة، تحمل في طياتها استسلام رجل واجه شياطين كونية، لكنه هُزم على يد طفلة في السادسة من عمرها.
"حسنًا،" قلت. "حسنًا. سنذهب في نزهة."
قفزت بسعادة، وصفقت بيديها الصغيرتين.
"ياي!"
وهكذا، وجدت نفسي أسير في ممرات الأكاديمية الصامتة، في وقت متأخر من الليل، وأنا أمسك بيد أختي الصغيرة، الشبحية، التي لا يفترض أن تكون موجودة، بينما يتبعنا والدنا، دوق الظلال، على بعد خطوات قليلة، كحارس شخصي من الجحيم.
كانت أغرب نزهة عائلية في تاريخ كل العوالم.
لم يرنا أحد. أو بالأحرى، لم يجرؤ أحد على الاعتراف بأنه رآنا.
"عين الحقيقة" أظهرت لي أن الطلاب القلائل الذين مررنا بهم في الممرات كانوا يتجمدون في مكانهم للحظة، وهالاتهم تضطرب بعنف، ثم يواصلون طريقهم بسرعة، كأنهم يحاولون إقناع أنفسهم بأنهم كانوا يتخيلون.
كان والدي يلفنا بمجال خفي من الظل، مجال يجعلنا شبه غير مرئيين، ويخمد أي صوت نصدره. كنا نسير كأشباح حقيقية.
"واو! انظر!" كانت سيريس تهمس بحماس، وتشير إلى المصابيح البلورية الطائرة.
"إنها مثل اليراعات التي في حديقة أمي، لكنها ليست حية!"
"نعم،" أجبت بكلمة واحدة.
"وهذا!" أشارت إلى تمثال ضخم للإمبراطور المؤسس.
"وجهه غاضب جدًا. هل كان دائمًا هكذا؟"
"على الأغلب."
وصلنا إلى إحدى الساحات الداخلية، تلك التي كانت بها نافورة حورية البحر.
القمر كان يلقي بضوئه الفضي على الماء، مما جعله يبدو كأنه زئبق سائل.
ركضت سيريس نحو النافورة، وضحكت وهي تلامس الماء البارد.
وقفت أنا، أراقبها، وأشعر بذلك الضغط الهائل لوالدي خلفي.
لم يقل كلمة واحدة طوال الطريق. كان مجرد وجود. وجود يذكرني باستمرار بأن هذه اللحظة، مهما بدت بريئة، ليست كذلك.
"أخي!" نادتني سيريس. "أرني سحرك! أمي قالت إن لديك سحرًا مظلمًا، جديدًا! أرني! أرني!"
تجمدت. هل أخبرتها أمي بذلك؟
نظرت خلفي، نحو الظل الذي هو والدي. لم يتحرك. كان لا يزال يراقب.
هل هذا هو الاختبار؟ هل يريد أن يرى قوتي الجديدة؟
ترددت. ثم، تنهدت. "فليكن."
رفعت يدي ببطء. ركزت. استدعيت ذلك الظلام البارد. هذه المرة، لم يكن فوضويًا. بعد كل التدريب، أصبح أكثر استجابة.
خرج خيط رفيع من الظلام من إصبعي، ورقص في الهواء كأفعى من الحبر.
جعلته يلتف، ويشكل صورة فراشة صغيرة، سوداء، ذات أجنحة ممزقة.
شهقت سيريس بسعادة.
"إنها جميلة!"
الفراشة الظلية طارت في الهواء لثوانٍ، ثم تلاشت.
"مرة أخرى! مرة أخرى!"
قضيت الدقائق القليلة التالية وأنا أصنع أشكالًا سخيفة من الظلام:
قطة، أرنب، زهرة... كل شكل كان يستنزف جزءًا من طاقتي، لكن رؤية الفرح النقي، غير المصطنع، في عيني أختي الصغيرة... كان شعورًا غريبًا. شعورًا لم أكن أعرف أنني أفتقده.
"دورك،" قلت لها.
نظرت إليّ، ثم إلى والدي، ثم إليّ مرة أخرى.
"حسنًا!"
رفعت يديها الصغيرتين. لم يكن هناك تركيز، ولا جهد. فقط... إرادة.
ومن الهواء الفارغ أمامها، تشكلت وردة.
لم تكن وردة من ظل. كانت وردة حقيقية. قرمزية، داكنة، وبتلاتها كانت تتوهج بضوء خافت. كانت تفوح منها رائحة حلوة، قوية.
"هذا..." تمتمت. "هذا سحر الخلق؟!"
ضحكت سيريس. "أمي علمتني."
في تلك اللحظة، تقدم والدي. خطوة واحدة، صامتة.
انحنى، ليس نحوي، بل نحو سيريس. ومد يده ذات القفاز الأسود، ولامس الوردة القرمزية.
لم تتلاشَ الوردة. بل ازداد توهجها للحظة، ثم استقرت في يده.
"لقد حان وقت العودة." قال بصوته العميق.
شعرت بخيبة أمل طفولية، غريبة، تجتاحني. هل انتهى الأمر بهذه السرعة؟
أمسك بيد سيريس. ثم، نظر إليّ. نظرة طويلة، صامتة، لا يمكن قراءتها.
ثم، ودون كلمة أخرى، استدارا، وذابوا في الظل الذي تجمع حولهما، واختفوا.
بقيت واقفًا وحدي في الساحة الصامتة، ورائحة الوردة القرمزية لا تزال عالقة في الهواء.
لم أفهم شيئًا.
لم تكن زيارة. لم تكن اختبارًا. لم تكن أي شيء منطقي.
كانت مجرد... لحظة. لحظة عبثية، وغريبة، وحزينة بشكل لا يصدق، في قلب حياتي الملعونة.
عدت إلى جناحي، وشعرت بأنني أكثر إرهاقًا، وأكثر حيرة من أي وقت مضى.
ما الذي يريده والدي مني بحق الجحيم؟