كان مئة ألف شخص قد حبسوا أنفاسهم في آن واحد، في انتظار الصدام الحتمي بين قوتين لا يمكن التوفيق بينهما.
قاعة الانتظار، التي كانت قبل لحظات مسرحًا للتحليل الهادئ، أصبحت الآن مجرد صندوق صدى لدقات القلوب المتسارعة للناجين المتبقين.
على الشاشة البلورية، كانت صورة ديغون وهو يُحمل على نقالة قد اختفت، وحل محلها وجه الحكم، الصارم، الذي كان على وشك أن ينطق بالكلمات التي ستشعل النار في هذه المرحلة الأخيرة من الدور ربع النهائي.
"المباراة التالية!" دوى صوته في الكولوسيوم، وفي كل بلورة بث في أنحاء الإمبراطورية.
"من بيت الخشب الحديدي، المنتصر في المباراة السابقة... كايلين! ضد... من البيت الإمبراطوري الحاكم، المنتصر بالانسحاب... ولي العهد، الأمير ثيرون ڤاليراك!"
انفجر الكولوسيوم في زئير صاخب. لم يكن مجرد هتاف، بل كان انقسامًا.
نصف الحشود كانت تصرخ باسم "كايلين"، بطل الشمال، ذلك المبارز الصامت الذي سحرهم بمهارته المستحيلة.
والنصف الآخر كان يهتف لـ"ثيرون"، أميرهم، شمسهم الذهبية، رمز قوتهم وفخرهم.
كانت معركة بين الشمال والجنوب، بين الفولاذ البارد والنار الملكية، حتى قبل أن تبدأ.
في قاعة الانتظار، لم يكن هناك أي ضجيج. فقط ذلك الصمت الثقيل.
نهض كايلين. لم تكن في حركته أي عجلة، ولا أي تردد. فقط تلك السلاسة الهادئة، كصخرة تنزلق في قاع نهر.
لم ينظر إلى أحد. لم يومئ برأسه. فقط استدار، وبدأ يسير نحو الممر المظلم، ظهره مستقيم، وسيفه البسيط في يده، كأنه ذاهب إلى جلسة تأمل أخرى، وليس إلى معركة ستحبس أنفاس العالم.
ثم نهض ثيرون. حركته كانت نقيض كايلين تمامًا. كانت مليئة بالدراما، بالغطرسة.
نفض غبارًا وهميًا عن درعه الذهبي اللامع، وابتسم تلك الابتسامة الواثقة، التي كانت موجهة ليس إلى الجمهور، بل إلى البلورات التي كانت تصوره، إلى الملايين الذين كانوا يشاهدونه.
"حسنًا،" قال بصوت عالٍ، كأنه يتحدث إلى نفسه، لكنه كان يعني أن يسمعه الجميع.
"حان وقت إظهار الفرق بين مبارز موهوب... وملك حقيقي."
مشى نحو الممر، وخطواته كانت تدق على الأرضية الحجرية بثقة ملكية.
في الساحة، وقف الاثنان أمام بعضهما البعض، يفصلهما مئتا متر من الرمال الذهبية التي كانت لا تزال دافئة من حرارة معركة ديغون ونير.
كان المشهد تباينًا مطلقًا، كأنها لوحة رسمها سامي الحرب بنفسه.
ثيرون كان الشمس. درعه الذهبي كان يلمع بشكل مبهر، ويعكس الضوء في كل اتجاه.
سيفه "أشعة الشمس"، ذو المقبض المرصع بالجواهر، كان ينبض بوهج ذهبي خافت، كأنه يحمل في قلبه شعلة لا تنطفئ.
هالته، التي كانت مرئية حتى للعيون غير المدربة كتموج حراري خفيف في الهواء، كانت ذهبية، متغطرسة، وقوية بشكل لا يصدق.
وكايلين كان الفراغ. ملابسه الرمادية البسيطة كانت تبدو باهتة، متواضعة، بجانب بهاء الأمير.
سيفه الفولاذي العادي كان يبدو كقطعة معدن ميتة. لم تكن هناك هالة مرئية حوله. كان مجرد وجود.
وجود هادئ، صامت، وبارد كصقيع الفجر. لكن بالنسبة لأولئك الذين يمتلكون بصيرة أعمق، كالإمبراطور ودوق الظلال في الشرفة الملكية، كان ذلك الهدوء هو الرعب الحقيقي.
كانت هالته فراغًا منظمًا، بئرًا من الصمت والتركيز، لا قرار لها.
"ابتدآ!"
في اللحظة التي دوى فيها الجرس، انفجرت الساحة. ليس بالحركة، بل بالطاقة.
ثيرون لم ينتظر. لم يضيع أي وقت في التباهي. لقد تعلم درسه من مشاهدة معركة كايلين السابقة.
"شعلة الشمس الإمبراطورية!"
لم تكن صرخة، بل كانت زئيرًا. زئير أسد ذهبي.
انفجر اللهب من سيفه، ليس كشعلة، بل كعمود من نار شمسية سائلة، غلف النصل بالكامل، ورفع درجة الحرارة في الساحة بشكل ملحوظ. الهواء حوله بدأ يتموج ويتشوه.
ثم، اندفع.
كان سريعًا. أسرع بكثير مما توقعه أي شخص. لم يكن اندفاع ثور هائج، بل كان اندفاع مذنب.
ترك وراءه خطًا من الرمال المحروقة، التي تحولت إلى زجاج أسود، وهو يقترب من كايلين بسرعة البرق.
في قاعة الانتظار، شهقت آيلا. حتى سيلين، التي كانت تراقب ببرود، ضاقت عيناها قليلاً.
نير، من ناحية أخرى، انحنى إلى الأمام، وعيناه السوداوان مثبتتان على الشاشة، و"عين الحقيقة" لديه تعمل بأقصى طاقة، تحاول استيعاب هذه القوة الهائلة.
كايلين لم يتحرك.
بقي واقفًا في مكانه، كصخرة تنتظر ارتطام الموجة.
النصل المشتعل لثيرون كان على بعد أمتار قليلة.
ثلاثة.
اثنان.
واحد.
في آخر جزء من الثانية، تحرك كايلين.
لم تكن حركة مراوغة. لم تكن حركة صد.
كانت... خطوة.
خطوة واحدة، هادئة، إلى الجانب.
وفي نفس الوقت، دار جسده حول محوره بسلاسة لا تصدق.
مر ثيرون بجانبه كإعصار من اللهب والفولاذ.
السيف المشتعل مزق الهواء حيث كان كايلين يقف قبل لحظة، والحرارة وحدها كانت كافية لإشعال الهواء بصوت هسهسة حاد.
لكن كايلين لم يعد هناك.
استدار ثيرون على الفور، ولم يفقد أيًا من زخمه. لم يكن هجومًا فاشلاً، بل كان مجرد بداية لسلسلة من الهجمات.
أهوى بسيفه في قوس عمودي، مطلقًا موجة من اللهب الذهبي على شكل هلال نحو كايلين.
"هلال الشمس!"
الموجة اللهبية كانت سريعة، ومدمرة.
لكن كايلين لم يتراجع.
بل تقدم لملاقاتها.
سيفه، الذي كان يبدو ميتًا قبل لحظات، تحرك أخيرًا.
لم يرفعه ليصد الموجة.
بل طعن.
طعنة واحدة، سريعة، ومثالية، في الهواء الفارغ أمامه.
وفي اللحظة التي اخترق فيها طرف سيفه الهواء، تشكلت أمامه دائرة صغيرة من... لا شيء.
دائرة من الفراغ الصامت.
اصطدمت موجة اللهب بالدائرة، وانشطرت إلى نصفين، ومرت على جانبي كايلين، واصطدمت بجدران الكولوسيوم خلفه في انفجارين مكتومين.
ساد صمت مذهول في المدرجات.
لقد أبطل هجومًا سحريًا قويًا... بطعنة سيف.
"كيف...؟" تمتمت سيرافينا في قاعة الانتظار، ولأول مرة، ظهرت علامة من الحيرة الحقيقية على وجهها الملائكي.
"إنه لا يقاتل السحر،" همس نير لنفسه، وعيناه متسعتان من الرهبة.
"إنه يقطع... نية الهجوم نفسها."
بدأت المعركة الحقيقية.
تحولت إلى عاصفة من الذهب والرمادي. ثيرون كان يهاجم بلا توقف، كل ضربة كانت أقوى وأسرع من التي قبلها.
لم يعد يصرخ بأسماء هجماته. لقد أصبح تجسيدًا للغضب الملكي.
الساحة تحولت إلى جحيم من اللهب والزجاج الأسود.
وكايلين... كان في مركز هذا الجحيم.
كان هادئًا.
كان يصد، ويراوغ، ويحرف. سيفه لم يكن يواجه قوة ثيرون بقوة مماثلة.
بل كان يرقص معها. كان كإبرة دقيقة، يجد أضعف نقطة في كل هجوم هائل، ويضغط عليها، ويجعل قوة الأمير تنهار على نفسها.
كانت مبارزة بين فيلسوفين. فيلسوف يؤمن بأن القوة المطلقة يمكنها أن تسحق كل شيء.
وفيلسوف آخر يؤمن بأن الفراغ المطلق يمكنه أن يحتوي كل شيء.
استمر هذا لدقائق طويلة، مرهقة. ثيرون كان يلهث، والعرق يتقطر منه، ويمتزج بالرماد على وجهه.
درعه الذهبي، رغم قوته، أصبح الآن مغطى بالخدوش، وفقد بعضًا من بريقه.
أما كايلين... فكان لا يزال كما هو. هادئًا. نظيفًا. لم يمسه سوء.
"هل هذا كل ما لديك، يا أمير؟"
صوت كايلين الهادئ، الذي كان أول كلمة ينطق بها في المبارزة، كان أشد إيلامًا من أي ضربة سيف.
زأر ثيرون زئيرًا غير ملكي، زئير وحش جريح.
"أنت لم ترَ شيئًا بعد، أيها الفلاح الشمالي!"
بدأ يجمع طاقته. اللهب الذهبي حول سيفه بدأ يتكثف، ويتحول إلى اللون الأبيض المبهر.
"هذا... سيء،" تمتم نير. "إنه سيستخدم 'قلب الشمس'. تقنية محظورة في المبارزات."
كانت سيرافينا تحدق في أخيها، وعيناها الرماديتان باردتان كالثلج. لم تقل شيئًا. لم تحاول أن توقفه. كانت... تنتظر.
كايلين، من ناحية أخرى، لم يتخذ أي وضعية دفاعية.
بل خفض سيفه.
ووقف. ينتظر.
"مت بغطرستك!" صرخ ثيرون، واندفع.
لم يكن اندفاعًا. كان اختفاءً.
ظهر أمام كايلين، وسيفه الأبيض المتوهج يهوي نحوه، ليس كضربة، بل كانفجار نجم مصغر.
في تلك اللحظة من الضوء المطلق، والحرارة التي لا تطاق، فعل كايلين شيئًا لم يفهمه أحد.
لم يصد. لم يراوغ.
بل خطى إلى الأمام.
واختفى.
اختفى في ومضة من حركة سريعة جدًا لدرجة أن العين لم تستطع متابعتها.
مر سيف ثيرون عبر الهواء الفارغ، واصطدم بالأرض في انفجار هائل من الضوء والطاقة، أعمى الجميع للحظات، وخلق حفرة ضخمة، منصهرة، في وسط الساحة.
عندما تلاشى الضوء، كان ثيرون يلهث، ويقف على حافة الحفرة، وينظر حوله بارتباك.
"أين...؟"
"أنا هنا."
صوت كايلين الهادئ جاء من خلفه مباشرة.
استدار ثيرون، والرعب المطلق على وجهه.
كان كايلين يقف هناك، ولم يمسه سوء. لكن سيفه... لم يكن موجهًا إلى رقبة ثيرون.
كان موجهًا إلى الأسفل، وطرفه يلامس بخفة شديدة...
الجوهرة المركزية في درع ثيرون الإمبراطوري.
النقطة التي كانت تنظم تدفق كل طاقته السحرية.
تجمد ثيرون. كان يعرف ما يعنيه ذلك.
لمسة واحدة خاطئة، ضغطة صغيرة، وسينفجر درعه، ومعه كل طاقته المكبوتة، في انفجار سيدمره من الداخل.
لقد كانت هزيمة مطلقة.
هزيمة لم تكن بالقتل، بل بالسيطرة الكاملة.
لم يقل كايلين شيئًا.
لكن صمته... كان يقول كل شيء.
"أنا أستطيع أن أنهيك. في أي لحظة. لكنني... أختار ألا أفعل."
رفع ثيرون رأسه ببطء، ونظر في عيني كايلين الرماديتين الفارغتين.
ورأى فيهما... لا شيء.
لا انتصار. لا ازدراء.
فقط... الفراغ.
وأسقط سيفه.
...
...
...
في تلك الثانية التي لا يمكن قياسها، حيث كان نصل كايلين البارد يستقر بثبات على الجوهرة المركزية لدرع ثيرون، حبس الكولوسيوم بأكمله أنفاسه.
سقط سيف ولي العهد الذهبي على الرمال بصوت مكتوم، بدا وكأنه المسمار الأخير في نعش هزيمته.
كانت نهاية مثالية، باردة، وحاسمة.
انتصار للفن على القوة، وللصمت على الغطرسة.
وقف كايلين هناك، كتمثال من الجليد الرمادي، وجهه فارغ، وعيناه لا تحملان أي تعبير. كان ينتظر.
ينتظر كلمة الاستسلام التي لا مفر منها. في الشرفة الإمبراطورية، ارتسم عبوس خفيف على وجه الإمبراطور ثيودور، عبوس أب رأى ابنه وفخره يُهزم بهذه الطريقة المذلة.
حتى دوق الظلال، تلك الكتلة من العدم، بدا وكأن ظلاله قد أصبحت أقتم قليلاً.
لكن ثيرون لم يقل شيئًا.
بدلاً من ذلك، وفي قلب تلك الهزيمة المطلقة، حدث شيء غريب.
ضحك.
لم تكن ضحكة انتصار، ولا ضحكة يأس. كانت ضحكة خافتة، مكسورة، تحمل في طياتها مرارة لاذعة وحقدًا لا حدود له.
"أنت حقًا... وحش،" تمتم ثيرون، والدماء تسيل من جرح صغير على خده، أحدثه كايلين في خضم المعركة.
"وحش شمالي بارد، وقذر."
رفع كايلين حاجبًا بشكل طفيف. لم تكن هذه كلمات رجل على وشك الاستسلام.
ثم، اتسعت ابتسامة ثيرون الدموية، وأصبحت شرسة، مجنونة.
"لكن حتى الوحوش... تتعلم كيف تنحني أمام الشمس!"
تمتم بكلمة واحدة، كلمة قديمة، بلغة الإمبراطورية الأولى، كلمة لم يفهمها أحد في الحشود.
"إنسينيرو."
في اللحظة التي خرجت فيها الكلمة من شفتيه، انفجرت القلادة الذهبية على صدره، قلادة الأسد الإمبراطوري.
لم تنفجر كانفجار ناري أو سحري.
بل انفجرت... بالضوء.
ضوء ذهبي نقي، مطلق، أكثر سطوعًا من الشمس نفسها بألف مرة.
انطلق من صدر ثيرون في موجة كروية، ابتلعت كل شيء في الساحة في جزء من الثانية.
كان ضوءًا صلبًا، ماديًا، يحمل معه قوة صدمة هائلة.
كايلين، الذي كان على بعد بوصات قليلة من مصدر الانفجار، لم يكن لديه أي فرصة.
لم يصرخ. لم يتحرك. لقد ابتلعه الضوء.
انفجر صوت مدوٍ، ليس صوت انفجار، بل صوت تمزق الواقع، اهتز الكولوسيوم حتى أساساته.
الحشود صرخت في رعب وألم، وهم يغطون أعينهم من الضوء الذي لا يطاق.
البلورات السحرية التي كانت تبث المشهد ومضت بعنف، وتشوشت صورتها للحظات.
عندما تلاشى الضوء أخيرًا، بعد ثوانٍ بدت كأنها دهر، كان المشهد قد تغير تمامًا.
كانت هناك حفرة ضخمة، منصهرة، في وسط الساحة حيث كان ثيرون يقف.
درعه الذهبي كان الآن أسودًا، متفحمًا، وتتصاعد منه خيوط من الدخان.
كان ينزف من أنفه وأذنيه، ويتنفس بصعوبة، لكنه كان واقفًا. لقد ضحى بأثمن قطعة أثرية دفاعية لديه، وتلقى جزءًا كبيرًا من ردة فعل الانفجار، لكنه... كان لا يزال واقفًا.
أما كايلين...
فكان على بعد عشرين مترًا، ممددًا في الرمال، لا يتحرك.
لم يكن يبدو مصابًا بجروح خطيرة. لم تكن هناك دماء. لكنه كان... ساكنًا. ساكنًا بشكل مرعب. سيفه كان ملقى على بعد أقدام قليلة منه.
"لقد... لقد خدع!" صرخ أحدهم من المدرجات.
"هذه ليست مبارزة شريفة!"
لكن في الشرفة الإمبراطورية، ابتسم الإمبراطور ابتسامة باردة، وقاسية.
"كل شيء مباح في الحرب، وفي الصراع على العرش."
نهض ثيرون على قدميه المرتجفتين، والتقط سيفه "أشعة الشمس".
لم يعد يلمع بضوء ذهبي، بل كان باهتًا، كأنه هو الآخر قد استنزف.
بدأ يسير ببطء نحو جسد كايلين الساكن.
"الآن،" تمتم، والدماء تسيل على ذقنه. "الآن... من هو الفلاح؟"
في قاعة الانتظار، كان الجميع متجمدين.
"لقد... لقد استخدم 'التضحية الملكية'."تمتمت سيرافينا، والصدمة في صوتها كانت حقيقية.
"تقنية محظورة. لم أكن أظن أنه يعرفها."
لكن كايلين... تحرك.
ببطء شديد، وضع يده على الرمال، وبدأ يرفع نفسه.
كانت حركاته متقطعة، ومؤلمة. كان واضحًا أن الانفجار قد أفقده توازنه، وأن أذنيه كانتا تنزفان، وأن العالم كان يدور به.
لقد تحطم "فراغه". لقد تم إخراجه بالقوة من حالة تركيزه المطلق.
نهض، وهو يترنح، والتقط سيفه.
رفع رأسه، ونظر إلى ثيرون.
لأول مرة، رأى ثيرون شيئًا آخر في عينيه الرماديتين غير الفراغ.
رأى... غضبًا.
غضبًا باردًا، جليديًا، ومطلقًا.
"لقد ارتكبت خطأً، يا أمير." قال كايلين، وصوته كان أجشًا، ومختلفًا.
"كان يجب أن تبقيني... في الفراغ."
وبدأت المعركة الثانية.
لم تكن معركة فنية. كانت معركة وحشية.
ثيرون، رغم إصاباته، كان يمتلك الأفضلية. هاجم بلا هوادة، وسيفه يطلق شرارات من اللهب المتبقي.
وكايلين، الذي فقد هدوءه، كان يصد.
كلاااانغ!
كلااااانغ!
كلااااااانغ!
صوت اصطدام الفولاذ بالفولاذ كان يتردد في الكولوسيوم.
لم يعد هناك مراوغة، ولا حركات انسيابية. كان هناك فقط صراع عنيف، بدائي.
كل ضربة من ثيرون كان كايلين يصدها بقوة.
وكل صَدّة كانت ترسل اهتزازًا مؤلمًا عبر ذراع كايلين، وتجعله يتراجع خطوة إلى الوراء.
كانت معركة استنزاف.
"اسقط!" كان ثيرون يصرخ مع كل ضربة.
لكن كايلين لم يسقط.
كان كجدار من الجليد، يتلقى ضربات المطرقة، ويتشقق، لكنه يرفض أن ينهار.
جرحه ثيرون. نصل "أشعة الشمس" الحارق مر على ذراع كايلين، وترك جرحًا أسود، متفحمًا، تفوح منه رائحة اللحم المحترق.
لم يصرخ كايلين. فقط أطلق هديراً منخفضاً، حيوانياً، ورد بضربة جانبية عنيفة، أطاحت بقطعة من درع كتف ثيرون.
كانا كوحشين جريحين، يمزقان بعضهما البعض ببطء.
العرق والدماء كانت تغطيهما. أنفاسهما كانت متقطعة، ومؤلمة.
لكنني بدأت أرى شيئًا يتغير.
كايلين... كان يتأقلم.
الارتباك في حركاته بدأ يختفي. رعشة جسده بدأت تهدأ. لم يعد يصد بقوة غاشمة فقط.
بدأت حركاته تعود لتصبح أكثر دقة، أكثر كفاءة.
لم يكن يعود إلى "الفراغ" الهادئ.
بل كان يبني شيئًا جديدًا من رماد غضبه وألمه.
أسلوبًا جديدًا. أسلوبًا يجمع بين الكمال البارد، والوحشية الحارقة.
رأى ثيرون ذلك أيضًا. رأى أن خصمه، بدلاً من أن يضعف تحت هجماته، كان يصبح أقوى، وأكثر خطورة.
عرف أن فرصته... تتلاشى.
"اللعنة عليك!" زأر ثيرون، وقرر أن ينهي الأمر.
جمع كل ما تبقى من طاقته، من كبريائه، في هجوم أخير، ساحق.
اندفع إلى الأمام، وسيفه يستهدف قلب كايلين مباشرة.
كايلين لم يصد هذه المرة.
ولم يراوغ.
بل فعل شيئًا لم يفعله من قبل.
لقد هاجم الهجوم نفسه.
في اللحظة التي كان فيها سيف ثيرون على وشك أن يخترق صدره، أهوى كايلين بسيفه، ليس على نصل ثيرون، بل على يده.
على قفازه المعدني.
كراااااك!
صوت تكسر العظام والمعدن كان مروعًا.
صرخ ثيرون صرخة ألم حقيقية، حادة، وسيفه سقط من يده المكسورة.
ولم يتوقف كايلين.
استدار، وضرب بمقبض سيفه على جانب خوذة ثيرون.
طااانك!
الصوت المعدني المكتوم تردد، وسقط الأمير على ركبتيه، فاقدًا للوعي للحظة، قبل أن ينهار تمامًا على الرمال.
ساد صمت مطبق على الكولوسيوم.
صمت أعمق من أي صمت سبقه.
وقف كايلين فوق جسد ولي العهد المهزوم. كان يلهث بعمق، والدماء تسيل من عشرات الجروح على جسده.
ظهره كان محترقًا، وذراعه تنزف، ووجهه ملطخ بالدماء.
لم يكن يبدو كمنتصر.
كان يبدو كجزار... أنهى عمله للتو.
رفع رأسه ببطء، ونظر نحو الشرفة الإمبراطورية.
نحو الإمبراطور، الذي كان وجهه قناعًا من الصدمة والغضب.
نحو دوق الظلال، الذي كان لا يزال... صامتًا.
ثم، ودون كلمة أخرى، استدار، وبدأ يسير مبتعدًا، وهو يعرج، تاركًا وراءه أميرًا مهزومًا، وإمبراطورية مذهولة.
لقد... لقد هزمني،" تمتم، والكلمات كانت موجهة لنفسه أكثر من أي شخص آخر. "ذلك الفلاح الشمالي... لقد سحقني."
ثم، رفع رأسه، ونظر نحو الحكم، وقال بصوت واضح، وإن كان مهزوزًا.
"أنا... أستسلم."
في تلك اللحظة، انفجر الكولوسيوم. ليس بالهتافات، بل بضجيج من الصدمة وعدم التصديق.
المعالجون ركضوا إلى الساحة، وأحاطوا بالأمير. لكنه لوح بيده ليمنعهم.
نهض على قدميه المرتجفتين، والتقط سيفه الباهت، وبدأ يسير مبتعدًا، وهو يعرج، ورأسه منحنٍ لأول مرة في حياته.
في الشرفة الإمبراطورية، كان الجو جليديًا. وجه الإمبراطور ثيودور كان قناعًا من الغضب البارد.
عيناه الأرجوانيتان كانتا تشتعلان بنار صامتة، وهو يراقب ابنه وفخره وهو يُهزم بهذه الطريقة المطلقة.
شعر بأن كل نبيل في تلك الشرفة، كل مواطن في الإمبراطورية، كان ينظر إليه الآن، ويرى ليس فقط هزيمة ابنه، بل هزيمته هو.
ثم، تكلم الظل الجالس بجانبه.
أدار دوق الظلال، ڤاليدور ڤيرتون، رأسه الذي لا يُرى ببطء شديد نحو الإمبراطور.
"يبدو،" قال، وصوته كان كصوت احتكاك الصخور في قاع محيط منسي.
"أن ابنك... قد خذلك."
لم يكن هناك أي سخرية في صوته. لم يكن هناك أي انتصار. كان مجرد تقرير لحقيقة باردة، قاسية.
وهذا ما جعله أشد إيلامًا بألف مرة.
لم يصرخ الإمبراطور. لم يزأر.
فقط استدار، ونظر إلى ڤاليدور، وعيناه الأرجوانيتان أصبحتا الآن كقلب نجم على وشك الانفجار.
"ابني يتعلم من هزائمه، يا ڤاليدور،" قال بصوت هادئ، ومميت.
"إنه درس، بعض العائلات لا تحصل على فرصة لتعلمه... لأنها لا تنجو من هزائمها الأولى."
كان تهديدًا. تهديدًا واضحًا، وباردًا، بين أقوى رجلين في العالم.
أليستر، الذي كان يقف خلف والده، لم يرمش. لكن "عين الحقيقة" لو كانت موجودة، لرأت أن هالته الرمادية كانت تدور بسرعة، تحلل كل كلمة، كل نبرة، وكل عاقبة محتملة لهذا الحوار القاتل.
"سيتم أخذ استراحة لمدة ساعة واحدة قبل المباراة ربع النهائي الأخيرة."
دوى صوت الحكم، كأنه يحاول يائسًا أن يكسر التوتر الذي كاد أن يمزق الكولوسيوم.
في قاعة الانتظار، كان الصمت أثقل من أي وقت مضى.
كايلين كان يجلس في زاويته، والمعالجون يعملون على جروحه.
لم يكن ينظر إلى أحد.
ثيرون، الذي تم إحضاره إلى هنا، كان يجلس في الزاوية المقابلة، ورأسه بين يديه، وجسده يهتز بشكل طفيف.
ونير، وديغون، وسيرافينا، وسيلين... كانوا مجرد متفرجين على هذه الدراما الملكية.
المباراة القادمة: سيلين دي فالوا ضد أوريون.
الجليد ضد السهم.
السيطرة المطلقة ضد الدقة المطلقة.