[منظور نير ڤيرتون]
كنت لا أزال واقفًا في وسط تلك الغرفة البلورية الأرجوانية، التي كانت تشعرني بأنني محبوس في قلب جوهرة قديمة.
الهواء كان لا يزال ساكنًا، باردًا، ومشبعًا بذلك الصمت الذي يسبق كشف الأسرار الكونية.
عقلي كان يعيد عرض كلمات سايلس المروعة، حقيقة أنني كنت السبب في كارثة "غابة خشب الفضة"، وحقيقة أن القناع الذي التصق بروحي كان قنبلة موقوتة من مستوى SSS.
كنت أغرق في محيط من الذنب والارتباك، لكن سايلس لم يمنحني وقتًا لأتنفس.
رفع رأسه المغطى بالقماش الأسود، و"نظر" في اتجاهنا، أنا ومورنا. لم تكن نظرة، بل كان حضورًا، ثقلاً هبط على وعينا.
"نير ڤيرتون،" قال، وصوته كان كصوت احتكاك الصخور في قاع محيط منسي.
"وأنتِ أيضًا، يا مورنا. عليكم أن تعلموا شيئًا. حقيقة أساسية لهذا الوجود الذي تصارعون فيه."
صمت للحظة، وترك كلماته تكتسب وزنًا.
"العالم... ليس ملكًا للضعفاء الذين يحلمون به،" قال ببطء، وكل كلمة كانت كأنها تُنحت في الهواء.
"وليس للأقوياء الذين يسيطرون عليه. بل هو ملك... لمن يجرؤ على تغييره بإرادته المطلقة."
سقطت الكلمات في صمت الغرفة، وانفجرت في عقلي كشمس سوداء. تفاجأت تمامًا.
لم تكن هذه كلمات رجل محطم، ينتظر الموت. كانت كلمات فيلسوف، ثائر، سامي قديم يلقي بآخر وصاياه.
نظرت إلى مورنا. حتى هي، بكل برودها وقوتها، بدا أنها متفاجئة.
التوهج في عينيها البنفسجيتين خفت للحظة، وظهر فيهما وميض من الارتباك، كأنها سمعت شيئًا يتعارض مع كل ما تعلمته، كل ما آمنت به.
"إرادة مطلقة؟" تمتمت، وصوتي كان أجشًا. "ما فائدة الإرادة أمام وحش من الرتبة الثامنة؟"
لم يرد سايلس مباشرة. بدلاً من ذلك، طرح سؤالاً آخر، سؤالاً بدا بسيطًا في ظاهره، لكنه كان أعمق وأكثر خطورة من أي لغز واجهته.
"أجباني،" قال. "لو خُيّرتما... هل تفضلان أن تكونا أكثر المخلوقات معرفة في هذا الكون، أم أكثر المخلوقات جهلاً؟"
ساد صمت طويل. لم يكن سؤالاً يمكن الإجابة عليه بسهولة. كان فخًا فلسفيًا، مصممًا ليكشف عن جوهر روحك.
فكرت. المعرفة... والجهل.
الخوف من المجهول. هذا هو المحرك الأساسي للكثيرين. الرغبة في معرفة ما يكمن في الظلام، في رسم الخرائط، في تصنيف الوحوش، في فهم قوانين السحر.
المعرفة تبدو كدرع، كسلاح ضد فوضى الكون.
لكن ماذا لو كان الظلام لا نهائيًا؟ ماذا لو كانت كل إجابة تكتشفها تفتح الباب أمام ألف سؤال جديد، كل سؤال أشد رعبًا من الذي سبقه؟ ماذا لو كانت الحقيقة النهائية للوجود هي حقيقة لا يمكن لعقل بشري أو غير بشري أن يتحملها؟
الجهل، من ناحية أخرى... كان سلامًا. سلامًا زائفًا، وهشًا، لكنه سلام.
الجاهل لا يخشى الشياطين التي لا يعرف بوجودها. لا يتألم من الحقائق التي لم تُكشف له.
يعيش في عالمه الصغير، المحدود، ويموت، وربما... يكون سعيدًا.
تذكرت حياتي القديمة. كنت جاهلاً. جاهلاً ببؤسي، جاهلاً بتفاهة وجودي.
كنت أهرب إلى روايات الفانتازيا، لأعيش في جهل جميل، مؤقت.
ثم أتيت إلى هنا. واكتسبت المعرفة. معرفة الرواية، معرفة "عين الحقيقة".
وماذا جلبت لي هذه المعرفة؟
الألم. الخوف. المسؤولية. العزلة.
"ربما..." قلت أخيرًا، وصوتي كان مترددًا، ومتعبًا. "ربما... الجهل.
على الأقل، الجاهل يستطيع أن ينام في الليل."
لم يعلق سايلس. لكنني شعرت به يميل برأسه قليلاً، كأنه يفهم.
"ما هذا الهراء؟"
صوت مورنا الحاد، المليء بالازدراء، قطع الصمت. كانت تحدق فيّ، والتوهج في عينيها البنفسجيتين عاد بقوة.
"لماذا قد أكون جاهلة؟ لأكون فريسة سهلة لكل من هب ودب؟ لأعيش في كذبة، وأنا أظن أنها الحقيقة؟ لا."
قالت بقوة وعزم.
"سأكون أكثرهم معرفة بالتأكيد. المعرفة هي القوة. ومن يمتلكها، يمتلك كل شيء."
كانت إجابتها نقية، قوية، ومليئة بكبرياء المحارب.
لكن سايلس... تنهد.
كانت تنهيدة حزينة، عميقة، تحمل في طياتها أسى لا يمكن قياسه.
أدار وجهه المغطى نحوها.
"مورنا،" قال بهدوء مؤلم.
"أشد أنواع الألم الروحي... هي المعرفة."
صمت للحظة، ثم أضاف، والكلمات كانت كشفرات جليدية.
"يكفي أنها... جعلتني ما أنا عليه الآن."
تجمدت مورنا. تجمدت أنا.
نظرنا إليه، إلى ذلك الجسد المحطم، إلى الخراب الذي كان وجهه، إلى الفراغ حيث كانت عيناه.
"ما... الذي يعنيه هذا؟" تمتمت مورنا، وصوتها، لأول مرة، كان يرتجف.
أي نوع من المعرفة يمكن أن يفعل هذا بكائن مثله؟ أي حقيقة يمكن أن تكون مرعبة لدرجة أنها تقتلع عينيك، وتقطع ذراعك، وتتركك محطمًا على عرش منسي؟
تجاهل سايلس سؤالها، أو ربما كان جوابه هو سؤاله التالي.
"هل تعرفان اسم 'كاسديا'؟" سأل.
نظرت إلى مورنا، التي هزت رأسها.
"لا،" أجبنا بصوت واحد.
"كنت أتوقع ذلك،" قال سايلس. "لقد كانت ماهرة دائمًا في محو آثارها."
صمت للحظة، ثم ألقى بالقنبلة التالية.
"إنها شقيقة ليليث."
الهواء في رئتي تجمد.
"إنها... خالتك، يا نير."
"خالة؟"
الكلمة انفجرت في عقلي.
"هل كان لديه خالة؟ لماذا لم يذكر ذلك في الرواية اللعينة؟!"
كل فصل، كل صفحة، كل كلمة كنت أظن أنني أعرفها... كانت تتلاشى، وتتحول إلى كذبة.
أمي... لديها أخت. أخت لم تذكرها أبدًا. أخت لم يذكرها والدي. ولا حتى أليستر.
لماذا؟ من هي؟ وأين هي؟ هل هي حية؟
"إنها حية جدًا،" قال سايلس، كأنه يقرأ أفكاري مرة أخرى.
"وهي... مشكلة."
لم يقل المزيد. ترك اللغز معلقًا في الهواء، كجثة مشنوقة.
ثم، شعرنا به.
تنهيدة عميقة، جماعية، خرجت من جسده المحطم. كأن كل ما قاله حتى الآن كان مجرد مقدمة، وأنه الآن يستعد لقول الحقيقة الأخيرة، والأكثر إيلامًا.
"بما أن حياتي قد شارفت على الانتهاء،" قال، وصوته كان يحمل نهائية الموت.
"عليّ أن أقول لكما شيئين. شيئًا واحدًا يخص حياتي... والثاني، يخص حياتكما."
انحنيت إلى الأمام، وكل حاسة في جسدي كانت متيقظة. مورنا كانت تحدق فيه، وعيناها البنفسجيتان متسعتان، وفيها مزيج من الخوف، والترقب، والحزن.
لقد كان على وشك أن يعطينا مفاتيح الكون، أو على الأقل، مفاتيح جحيمنا الخاص.
وكان علينا فقط... أن نستمع.
...
...
...
إلى قبل 31 عامًا...
الصباح انبلج على الوادي المخفي كهمسة من ذهب. لم تكن شمس الصيف الحارقة، بل كانت شمس ربيع متأخرة، دافئة، لطيفة، أشعتها تتسلل عبر أوراق أشجار البلوط العملاقة لترسم بقعًا من الضوء المتراقص على العشب المندى.
البحيرة كانت مرآة من الفضة السائلة، تعكس السماء الزرقاء الصافية والقمم الجبلية البعيدة التي كانت لا تزال ترتدي قبعات رقيقة من الثلج.
الهواء كان نقيًا، يحمل رائحة التربة الرطبة، والزهور البرية، وذلك السلام العميق، القديم، الذي يسكن الأماكن التي لم يلوثها العالم بعد.
في الشرفة الواسعة للمنزل الحجري، الذي كان يبدو وكأنه نبت من جانب الجبل نفسه، جلس سايلس.
كان في الواحد والخمسين من عمره، لكنه كان يحمل في وقفته قوة رجل في ذروة شبابه.
شعره الأسود الكثيف، الذي بدأت خيوط الفضة الأولى تغزوه عند الصدغين، كان ينسدل على كتفيه العريضين.
وجهه لم يكن قد حُفر بعد بخنادق الألم، بل كان وجه باحث، ومحارب، وعيناه... كانتا عينين كاملتين، سوداوين، عميقتين كليل مرصع بالنجوم، تحملان ذكاءً حادًا، وهدوءًا مكتسبًا من فهم عميق لأسرار الكون.
كان يقرأ في مجلد ضخم، وصفحاته تتوهج بضوء رونى خافت.
"أنت تضيع نفسك في هذه الأكوام من الغبار مرة أخرى."
الصوت الذي قاطعه كان ناعمًا، وموسيقيًا، كصوت أجراس فضية صغيرة ترن في نسيم الصباح.
رفعت امرأة كأسين من الشاي المتصاعد منه البخار، وابتسامة دافئة على وجهها.
كانت زوجته، سيليست. كانت في الثامنة والأربعين من عمرها، لكنها كانت تبدو كشابة في أواخر العشرينيات.
هذا ما يميز السلالات القديمة في آلڤيرتون و الإمبراطورية ، تلك التي يسري في عروقها دم نقي، ومسحة خفيفة من السحر؛ يمتلكون عمرًا أطول، وشبابًا يدوم.
شعرها كان بلون العسل، طويلاً، ومجدولاً بشكل معقد، وعيناها كانتا بلون سماء الصيف، تحملان حكمة ودفئًا لا حدود لهما.
كانت هي قلب هذا المنزل، شمعه الذي يطرد كل الظلال.
أغلق سايلس كتابه ببطء، وابتسم لها. "ليس غبارًا، يا عزيزتي. بل هو تاريخ. تاريخ منسي."
"التاريخ يمكن أن ينتظر،" قالت، وهي تضع كأس الشاي أمامه.
"لكن هناك أمور أخرى لا يمكنها الانتظار."
أشار سايلس برأسه نحو الحديقة الشاسعة التي تمتد تحت الشرفة.
"أرى ذلك."
في الحديقة، وسط بحر من الزهور الملونة، كانت هناك طفلتان.
توأم، تبلغان من العمر اثني عشر عامًا، لكنهما كانتا مختلفتين كالشمس والقمر.
كانتا تلعبان. أو بالأحرى، واحدة كانت تلعب، والأخرى كانت تراقب.
الطفلة الأولى، ذات الشعر الأسود القصير الذي يلمع تحت أشعة الشمس، كانت تضحك بصوت عالٍ، وهي تطارد فراشة أرجوانية عملاقة.
كانت عيناها قرمزيتين، كلون الياقوت النادر، وتلمعان بالحياة، والطاقة، وشيء من التحدي. كانت ليليث.
الطفلة الثانية كانت تجلس بهدوء على مقعد حجري تحت شجرة صفصاف، وتقرأ في كتاب.
شعرها كان أسودًا قصيرًا أيضًا، مطابقًا لشعر أختها. لكن عينيها كانتا مختلفتين تمامًا.
كانتا سوداوين، عميقتين، كبئرين لا قرار لهما، لا تعكسان الضوء، بل تمتصه.
كانتا عينين هادئتين، ومراقبتين، تحملان نضجًا يتجاوز سنها بكثير. كانت كاسديا.
"سايلس،" نادته زوجته سيليست بصوتها الناعم.
"ألم تعد ليليث أنك ستخرجها؟"
تنهد سايلس تنهيدة مسرحية.
"لدي الكثير من العمل، يا سيليست. هذه الرونيات... معقدة بشكل لا يصدق."
"لقد أخذت كاسديا بالأمس إلى 'أبراج الرياح' لمشاهدة تدريبها على التحكم في الهواء."
قالت سيليست، ونبرتها كانت لطيفة، لكنها كانت تحمل لمسة من التوبيخ.
"وحزنت ليليث لأنها كانت نائمة ولم تستطع المجيء. لقد وعدتها أن اليوم سيكون دورها."
في الحديقة، توقفت ليليث عن مطاردة الفراشة، والتفتت نحونا، وعيناها القرمزيتان الكبيرتان تحملان نظرة من الأمل المتوسل.
بجانبها، أغلقت كاسديا كتابها، ونظرت إلينا أيضًا، لكن نظرتها كانت مختلفة.
كان فيها لمحة خفيفة من الحزن، من الغيرة الطفولية، لأنها كانت تعرف أن الاهتمام الآن سينتقل إلى أختها.
"أوه، حسنًا،" قال سايلس، وهو يرفع يديه في استسلام مصطنع.
"لا يمكنني أن أقاوم تلك النظرة." لقد كان سيدًا من الرتبة السادسة، قادرًا على مواجهة جيوش، لكنه كان ضعيفًا أمام زوجته، وأمام عيني ابنته.
مشى هو وليليث مبتعدين عن المنزل، يدان في يد، الأب ذو القوة التي لا يمكن تصورها، والابنة التي كانت عالمه بأسره.
كانا يسيران عبر غابة قديمة، والأشجار تشكل فوقهما قبة من الأوراق الخضراء، والضوء يتسلل من خلالها كأنه مطر من ذهب.
"أبي،" سألت ليليث بصوتها الطفولي، وهي تقفز فوق جذر شجرة.
"هل صحيح أنك تستطيع أن تهزم تنينًا؟"
ضحك سايلس. "التنانين ليست سوى سحالي كبيرة ذات مشاكل في الغضب، يا صغيرتي. السر ليس في هزيمتها، بل في فهمها."
كانت لحظة مثالية. لحظة من السلام، والحب، والبراءة.
لحظة... على وشك أن تُسحق تحت أقدام كابوس.
بدأ الأمر بصمت.
صمت غير طبيعي.
صمتت الطيور فجأة. حفيف أوراق الشجر توقف. حتى صوت خرير النهر القريب... خفت، كأنه يخاف من شيء ما.
توقف سايلس في مكانه. انتصبت قامته، واختفى التعبير اللطيف من وجهه، وحل محله تركيز بارد، وحاد.
شعر بالطاقة في الهواء تتغير، تتموج، كسطح ماء على وشك أن يغلي.
"ليليث،" قال بهدوء مرعب.
"قفي خلفي. ولا تتحركي. مهما حدث."
شعرت الطفلة بالخوف، وركضت لتختبئ خلف عباءة والدها، ويداها الصغيرتان تمسكان بها بقوة.
ثم، بدأ الواقع يتمزق.
الهواء أمامهم بدأ يرتجف، ويتشوه، كأنه سراب حراري عنيف.
الأشجار المحيطة بهم بدأت ألوانها تبهت، وتتحول إلى رمادي، ثم تعود.
ظهر صدع في الهواء، ليس بوابة، بل جرح أسود، لا ينبعث منه أي ضوء، بل يمتص كل شيء، وينزف ظلامًا صامتًا.
ومن هذا الجرح في جسد العالم، خرج هو.
لم يكن وحشًا من لحم ودم. كان فكرة خاطئة، كابوسًا اكتسب وعيًا.
"مفترس الواقع". مخلوق من الرتبة السادسة.
كان جسده يشبه جسد ذئب عملاق، لكنه لم يكن صلبًا. كان يتكون من آلاف الشظايا الهندسية، المتغيرة باستمرار، التي تشبه الزجاج المكسور، والتي كانت تعكس صورًا مشوهة، مرعبة، للغابة، للسماء، ولوجه سايلس المذعور.
لم يكن له شكل ثابت، بل كان يتغير، ويتدفق، كأنه حلم سيء.
عيونه كانت مجرد ثقوب حمراء، تحترق في وجهه غير المستقر، وفي وسطه، حيث كان يجب أن يكون قلبه، كانت هناك دوامة من الطاقة الرمادية، تدور ببطء، وتصدر طنينًا منخفضًا، يؤلم الأذن.
"يا إلهي..." تمتم سايلس. لم يرَ شيئًا كهذا من قبل.
زأر الوحش. لم يكن زئيرًا. كان صوت تمزق ألف صفحة في نفس الوقت، صوت ضجيج أبيض نقي، اخترق عقل سايلس، وجعله يترنح للحظة.
"ليليث! أغلقي عينيكِ!" صرخ.
لكن الأوان كان قد فات. نظرت الطفلة إلى الوحش للحظة واحدة.
وصرخت. صرخة رعب طفولي، نقي، مزقت الصمت.
هذه الصرخة... أغضبت الوحش.
اندفع.
لم يركض. لقد شوه الواقع أمامه، وظهر فجأة على بعد خطوات قليلة منهم.
لم يكن هناك وقت للتفكير.
أطلق سايلس العنان لقوته. انفجرت منه هالة ذهبية، ساطعة، شكلت درعًا نصف كروي حوله هو وابنته.
وفي نفس الوقت، استل سيفه "قاتل الخلود".
اصطدمت مخالب الوحش، التي كانت مصنوعة من شظايا من الزمن المتجمد، بالدرع.
كراااااك!
تشقق الدرع الذهبي، لكنه صمد.
"أنت قوي، أيها البشري،" همس صوت الوحش في عقل سايلس، صوت متعدد الطبقات، كأصوات آلاف الأشخاص يتحدثون في آن واحد. "لكن واقعك... هش."
ضرب بمخلبه مرة أخرى.
تحطم الدرع.
دفع سايلس ابنته بعيدًا، وتلقى الضربة بصدره.
مزق المخلب درعه الجلدي، وجلده، ولحمه. شعر بألم حارق، كأن آلاف الشظايا الزجاجية قد انغرست في صدره.
لكنه تجاهل الألم.
ورد الهجوم.
سيفه الأسود رسم قوسًا من العدم، وضرب جانب الوحش.
مر النصل عبر جسده غير المستقر، وترك جرحًا أسود، نظيفًا.
صرخ الوحش، ليس من الألم، بل من المفاجأة.
الجرح لم يلتئم. قوة "قاتل الخلود" كانت تمنع واقعه المشوه من إصلاح نفسه.
بدأت المعركة الحقيقية.
كانت جحيمًا.
كان سايلس يقاتل بيأس لم يعرفه من قبل. لم يكن يقاتل من أجل مملكته، أو من أجل مبادئه.
كان يقاتل من أجل ذلك الشيء الصغير، المرتجف، الذي كان يختبئ خلف صخرة، ويشاهد والده وهو يُذبح.
كان الوحش يتعلم. كان يتكيف.
بدأ يستخدم قوته بطرق أكثر خبثًا. كان يجعل الأرض تحت قدمي سايلس تتحول إلى سائل، ثم تتصلب فجأة، محاولة الإمساك بقدميه.
كان يجعل الأشجار تحرك أغصانها، وتهاجمه من الخلف.
كان سايلس يصد، ويراوغ، ويهاجم. كل ضربة من سيفه كانت تترك جرحًا أبديًا على جسد الوحش.
وكل هجوم من الوحش كان يمزق جزءًا جديدًا من جسد سايلس.
الدماء كانت تسيل منه بغزارة، تلون الأرض الخضراء باللون القرمزي.
"أبي!" كانت صرخات ليليث تقطع قلبه، لكنها كانت أيضًا وقوده.
ثم، فعل الوحش شيئًا لم يكن في الحسبان.
لم يهاجم سايلس.
بل هاجم... ليليث.
أحد مخالبه امتد بشكل غير طبيعي، كأفعى من الشظايا، وتجاوز دفاع سايلس، وانطلق نحو الطفلة.
لم يكن هناك وقت.
لم يكن هناك خيار.
ألقى سايلس بنفسه أمام المخلب.
لم يستطع رفعه سيفه.
رفع يديه العاريتين.
اخترق المخلب يديه.
سمع صوت تكسر عظامه. شعر بالألم الحارق وهو يمزق لحمه.
لكنه... أوقفه.
على بعد بوصة واحدة من وجه ابنته.
صرخ سايلس، ليس من الألم، بل من الجهد المطلق.
نظر إلى يديه.
كانتا... مقطوعتين.
المخلب كان قد بتر كلتا يديه عند الرسغ. سقطت يداه على الأرض كقطعتين من اللحم الميت.
"لااااا!" صرخت ليليث.
كان سايلس الآن أعزل. وجريحًا بشكل مميت.
قدرته على الشفاء، قوة الرتبة السادسة، كانت تحاول يائسة أن تغلق الجروح، أن تعيد بناء يديه.
لكن طاقة الوحش الفاسدة كانت تقاوم، تلوث عملية الشفاء، وتحول اللحم الجديد إلى كتل مشوهة من الكريستال الأسود.
ضحك الوحش. ضحكة كانت كصوت تحطم عالم.
"انتهى الأمر، أيها البشري."
لكن سايلس لم ينتهِ.
نظر إلى ابنته، التي كانت تبكي بهستيريا.
ثم نظر إلى الوحش.
وفي عينيه... لم يعد هناك أي خوف.
فقط... حزن.
وحب.
وعزم مطلق.
"أنت على حق،" قال سايلس، وصوته كان هادئًا بشكل مرعب.
"لقد انتهى الأمر."
"لك... أنت."
أطلق العنان لكل شيء.
لم يعد يكبح أي شيء.
انفجرت هالته السوداء، ليس كدرع، بل كنار سوداء.
ضوء أسود، نقي، مبهر، انطلق منه، ابتلع الغابة، والوحش، وكل شيء.
كان يستخدم قوة حياته، روحه، كل ما يملكه، في هجوم أخير.
لم تكن تعويذة.
كانت... تضحية.
عندما تلاشى الضوء، لم يكن هناك أي أثر للوحش. لقد تم محوه من الوجود.
والغابة... تحولت إلى رماد أبيض.
وفي وسط هذا الخراب، كان سايلس لا يزال واقفًا.
لكنه لم يعد هو.
يداه كانتا قد اختفتا تمامًا.
ووجهه... كان محترقًا، وممزقًا، وعينه اليسرى كانت قد انفجرت من فرط القوة.
كان يلهث، والدماء تسيل منه كشلال.
نظر إلى ابنته، التي كانت تحدق فيه برعب مطلق.
"لا بأس، يا صغيرتي..." تمتم. "أنتِ... آمنة."
ثم، انهار.
سقط على الرماد الأبيض، فاقدًا للوعي، بينما كانت ابنته تصرخ باسمه في عالم تحول فجأة إلى صمت أبيض.
لقد أنقذها.