لم يعد الوعي كصدمة، بل كمد بطيء، مؤلم، يغمر شواطئ العدم.

أول ما عاد إليه لم يكن الألم، بل كان الدفء.

دفء خفيف، صغير، يتنفس، كان يستريح على صدره. ثم جاء الصوت.

صوت أنفاس طفولية، منتظمة، هادئة، وصوت حفيف خافت، كأن رمادًا ناعمًا يتحرك مع نسيم لا يمكن الشعور به.

​فتح عينيه ببطء.

​كانت الرؤية مشوشة، باهتة. لم تكن هناك سماء رمادية، ولا غابة خضراء.

كل شيء كان... أبيض. بياض ناعم، حليبي، يمتد في كل اتجاه.

استغرق الأمر منه لحظات، بدت كأنها دهر، ليدرك أنه ينظر إلى عالم قد تحول إلى رماد.

​نظر إلى الأسفل.

​كانت ليليث نائمة بجانبه، أو بالأحرى، فوقه. كانت قد زحفت نحوه بعد أن سقط، وتكور جسدها الصغير على صدره، باحثة عن الأمان والدفء في قلب الدمار الذي صنعه.

وجهها كان شاحبًا، وملطخًا بالدموع الجافة، لكن أنفاسها كانت هادئة الآن، كأنها وجدت السلام أخيرًا في كابوسها.

​شعر بوخزة من الحب الأبوي، نقية، ومؤلمة، اخترقت ضباب الإرهاق والألم. لقد نجت. هذا كل ما يهم.

​ثم، بدأ يشعر بجسده.

​الألم عاد، لكنه كان مكتومًا، بعيدًا، كصدى لمعركة حدثت في حياة أخرى.

حاول أن يتحرك، أن يرفع يده ليبعد خصلة شعر عن وجهها.

​ويده... تحركت.

​تجمد.

​نظر إلى يده ببطء، بعدم تصديق. لم تكن مجرد جذوع ممزقة.

كانتا يدين كاملتين. كانتا يديه. لكنهما كانتا غريبتين. الجلد كان جديدًا بشكل مقلق، شاحبًا، وناعمًا كجلد طفل رضيع، يخلو من أي ندبة، أو ثألول، أو تجعيدة من تلك التي نقشتها خمسة عقود من الحياة.

كانت الأوعية الدموية الزرقاء الباهتة مرئية تحته، كأنها أنهار تحت طبقة رقيقة من الثلج.

​حاول أن يقبض أصابعه. استجابت، لكن ببطء، وبشكل متقطع، كأن الأعصاب لا تزال تتعلم كيف ترسل الأوامر مرة أخرى.

كانت هناك رعشة خفيفة، لا إرادية، في أطرافه.

​لمس وجهه بيده الجديدة، المرتجفة. لم يشعر بذلك الخراب المروع، بذلك التجويف الفارغ حيث كانت عينه اليسرى.

شعر بالجلد، بالوجه، سليمًا. أغمض عينيه، ثم فتحهما. كان يرى بكلتيهما.

كانت الرؤية لا تزال ضبابية قليلاً، كأنه ينظر من خلال ستارة من الماء، لكنه... كان يرى.

​"قوتي الشفائية..." تمتم، والصوت خرج أجشًا، ومتشققًا.

"قوة الرتبة السادسة..."

​لقد أصلحت جسده. لقد أعادت بناء ما تم تدميره. لكنه كان يعرف، شعر بذلك في أعماق روحه، أن هذا الشفاء لم يكن مجانيًا.

كل قطعة لحم، كل خلية عصبية أعيد بناؤها، كانت قد استهلكت جزءًا هائلاً من قوة حياته، من جوهره.

كان سليمًا من الخارج، لكنه كان فارغًا من الداخل.

​"كم مر من الوقت؟"

​السؤال طعن عقله. نظر إلى السماء. لم تكن هناك شمس، فقط ذلك الضوء الأبيض المنتشر.

لكن من زاوية الضوء، من طول الظلال التي ترسمها بقايا الأشجار المتفحمة، قدر أن ساعة واحدة، أو ربما أكثر بقليل، قد مرت منذ أن أطلق العنان لتلك القوة المدمرة.

​ساعة.

​فكرة واحدة، باردة، وواضحة، اخترقت كل ألمه، وكل إرهاقه.

​"سيليست."

​زوجته. كيف قد تشعر الآن؟ لا بد أنها شعرت بذلك الانفجار الهائل من الطاقة.

لا بد أنها تقف الآن في الشرفة، وتنظر نحو هذا الرماد الأبيض الذي كان غابة خضراء، وقلبها يعتصره القلق.

​يجب أن يعود. يجب أن يطمئنها.

​لكن كيف؟ ماذا يقول لها؟

"عذرًا يا عزيزتي، لقد واجهت كائنًا يمزق الواقع، واضطررت إلى محو جزء من العالم لإنقاذ ابنتنا"؟

​لا.

​الحقيقة... كانت سمًا. سمًا سيقتل هذا السلام الهش الذي بنيا حياتهما حوله.

​في تلك اللحظة، اتخذ قراره.

​سيكذب.

​سيحمل هذا العبء وحده. سيدفن هذا الرعب في أعمق جزء من روحه، وسيبني جدارًا من الصمت حوله، ليحميها، ليحمي براءتهما.

​بجهد هائل، أجبر جسده على النهوض. كل عضلة كانت تصرخ، وكل عظمة كانت تئن.

وضع ليليث النائمة على الأرض برفق شديد، ووقف على قدميه المرتجفتين.

​نظر حوله.

​كانت مجزرة صامتة.

​الغابة الخضراء المورقة تحولت إلى صحراء من الرماد الأبيض الناعم، الذي كان يمتد لأميال في كل اتجاه.

الأشجار العملاقة تحولت إلى أعمدة سوداء، متفحمة، كأصابع هيكل عظمي تمتد نحو سماء فارغة.

لم يكن هناك أي صوت. لا غناء طيور، لا حفيف أوراق، لا همس ريح. فقط صمت الموت المطلق.

​لقد محا الحياة من هذا المكان.

​شعر بوخزة من شيء يشبه... الخزي.

​ثم، تذكر وجه ليليث الخائف، وذلك المخلب الذي كان على وشك أن يمزقها.

​واختفى الخزي. لم يندم. كان سيفعلها ألف مرة أخرى إذا لزم الأمر.

​انحنى، ورفع جسد ليليث الصغير بين ذراعيه.

كانت خفيفة بشكل لا يصدق. يداه الجديدتان، الضعيفتان، كانتا ترتجفان تحت وزنها، لكنه تمسك بها بقوة.

​بدأ يسير.

​كانت أطول مسيرة في حياته.

​كل خطوة كانت صراعًا. كان يسير عبر عالم من صنعه، عالم من الرماد والموت.

الرماد الأبيض الناعم كان يغوص فيه حذاؤه، ويخمد صوت خطواته، كأنه يسير في حلم.

​كان ينظر إلى وجه ابنته النائم. كانت لا تزال تتنفس بهدوء، وشعرها الأسود القصير تناثر على وجهها الشاحب، الملطخ بالدموع الجافة.

كانت تبدو بريئة، وهشة، كزهرة نجت بأعجوبة من حريق هائل.

​كانت هي السبب. كانت هي الأمل. كانت هي كل شيء.

​كل خطوة كان يخطوها، كان يكرر الكذبة في عقله.

​"لقد تعبت. لقد نامت. النزهة كانت طويلة جدًا."

​كان يحفر الكلمات في ذاكرته، يحاول أن يصدقها بنفسه، ليتمكن من قولها بثقة.

​بعد ما بدا وكأنه دهر، رأى المنزل من بعيد. كان لا يزال قائمًا، سليمًا، كجوهرة من الحجر والخشب في وسط هذا الخراب الأبيض.

​ورآها.

​كانت تقف في الشرفة، ويداها مشدودتان على الدرابزين.

كانت تحدق في اتجاهه، ووجهها قناع من القلق الشديد.

​أسرع خطواته، وأجبر جسده المنهار على المضي قدمًا.

​عندما وصل أخيرًا إلى حافة الحديقة، حيث ينتهي الرماد ويبدأ العشب الأخضر، توقف للحظة. أخذ نفسًا عميقًا.

​ثم، خطا إلى عالم الأحياء مرة أخرى.

​ركضت سيليست نحوه.

"سايلس! يا إلهي! ماذا حدث؟ لقد شعرت... شعرت بأن العالم يهتز!"

​توقفت أمامه، وعيناها الزرقاوان تتفحصانه بقلق، ثم انتقلتا إلى ليليث النائمة بين ذراعيه.

​"هل هي بخير؟"

​"إنها بخير،" قال، وصوته كان أجشًا، ومتعبًا، لكنه أجبره على أن يبدو هادئًا.

"لا تقلقي يا عزيزتي. لقد أرهقتها المغامرة قليلاً. نامت من الإرهاق في الطريق."

​حدقت فيه سيليست. نظرت في عينيه، وهو كان يعرف أنها تبحث.

تبحث عن الحقيقة.

​وربما رأت شيئًا. ربما رأت الرماد في روحه، أو صدى الصراخ في صمته.

​لكنها لم تسأل.

​ربما كانت تعرف أن هناك أبوابًا من الأفضل أن تبقى مغلقة.

​أومأت برأسها ببطء، ومدت يديها.

"أعطني إياها."

​وضع ليليث برفق بين ذراعيها الدافئتين.

​"سآخذها إلى سريرها،" قالت بهدوء. "وأنت... أنت تبدو مريعًا. تحتاج إلى الراحة."

​استدارت، وبدأت تسير عائدة إلى المنزل، وهي تحمل كنزهما المشترك.

​بقي واقفًا هناك، وحده، في الحديقة، وهو يشاهد غروب الشمس، الذي بدأ يصبغ السماء بألوان من البرتقالي والأرجواني.

​لقد نجح.

​لقد أنقذها.

​لقد حافظ على سلامتهما، وعلى سلامه.

​لكن بينما كان يقف هناك، والنسيم البارد يداعب وجهه، شعر به.

​ذلك الجدار غير المرئي، الذي بناه للتو بينه وبينهم.

جدار من الأسرار، ومن الصمت، ومن الرعب الذي لا يمكن مشاركته.

​لقد أنقذ عائلته.

​لكنه في هذه العملية...

​أصبح غريبًا في منزله.

​ووحيدًا... أكثر من أي وقت مضى.

...

...

...

​بعد سنتين...

​الزمن في وادي سايلس المنعزل كان يتدفق كـنهر هادئ، عميق.

لم تكن هناك فصول حقيقية، فقط تحولات لطيفة من ربيع دافئ إلى صيف مشمس، ثم إلى خريف ذهبي.

كانت سنتان من السلام، من النمو الصامت، من السعادة الهشة التي لا يعرف قيمتها إلا من رأى الظلام الكامن خارج حدود هذا الملاذ.

​في مكتبته الخاصة، التي كانت قلب منزله الحجري، لم يتغير الكثير.

رائحة الورق القديم وخشب الأرز كانت لا تزال تملأ الهواء. لكن سايلس... كان قد تغير.

​كان يجلس على الأرضية الخشبية المصقولة، محاطًا بدائرة من اللفائف المفتوحة والألواح الحجرية المنقوشة.

لم يعد ذلك الرجل في ذروة قوته في الواحد والخمسين.

الآن، في الثالثة والخمسين، بدا وكأنه يحمل ثقل قرون على كتفيه.

شعره الأسود الكثيف أصبح الآن مرصعًا بخيوط فضية أكثر، كشبكة عنكبوت من ضوء النجوم.

والتجاعيد حول عينيه السوداوين العميقتين أصبحت أكثر وضوحًا، ليست تجاعيد شيخوخة، بل تجاعيد إرهاق ذهني، كأن عقله لم يتوقف عن العمل لثانية واحدة طوال هذين العامين.

​لقد وصل إلى حائط.

جدار غير مرئي، صلب كالألماس، يفصل بين الرتبة السادسة، "السيد الأعظم"، والرتبة السابعة، "نصف سامي".

كان يشعر بالقوة تتلاطم في داخله، تبحث عن مخرج، عن طريقة للارتقاء، لكنها كانت ترتد دائمًا عن هذا الحاجز المنيع.

​كان يحدق أمامه، ليس في كتاب، بل في لوح من حجر السبج الأسود، أملس كمرآة داكنة.

كانت عليه نقوش رونية، لم تكن محفورة، بل كانت تتوهج بضوء أزرق باهت، كأنها محبوسة تحت سطح الحجر.

كانت هذه الرونيات هي لغزه الأخير، أمله الأخير. لشهور، كان يحاول فك شفرتها.

استخدم كل معرفته باللغات القديمة، بالسحر الروني، بالرياضيات الكونية. لكنها كانت تقاومه.

كانت تتغير، تلتوي، وتتحول كلما حاول التركيز عليها، كأنها تسخر من منطقه البشري المحدود.

​"أنت تحاول جاهدًا، يا عزيزي."

صوت سيليست، زوجته، كان كالموسيقى الهادئة في صمت المكتبة.

دخلت، وهي تحمل صينية فضية صغيرة عليها إبريق من الشاي وبعض الفطائر الطازجة.

لم تتغير كثيرًا. في الخمسين من عمرها، كانت لا تزال تبدو كشابة في ريعان شبابها، عيناها الزرقاوان تحملان نفس الدفء، ونفس القلق الخفي على زوجها الذي كان يغوص أعمق وأعمق في أسرار خطيرة.

​"هذه الرونيات..." قال سايلس، وصوته كان أجشًا من قلة الاستخدام.

"إنها ليست لغة. ليست سحرًا. إنها... شيء آخر."

​"ربما هي مجرد زخرفة؟" قالت سيليست، وهي تجلس بجانبه، وتسكب له الشاي.

هز سايلس رأسه.

"لا. إنها... خريطة."

​كان قد فهم.

فهم الطريقة. الطريقة المرعبة، والمستحيلة، للاختراق إلى الرتبة السابعة.

​لم تكن طريقًا للبناء، بل كانت طريقًا للدمار.

لم تكن تطورًا، بل كانت... إعادة خلق.

​"سيليست..." قال، وصوته كان يرتجف قليلاً. "أعتقد... أنني وجدتها."

نظرت إليه، ورأت ذلك البريق المحموم في عينيه. لم تفهم ما وجده، لكنها رأت العزيمة، والخطر.

"كن حذرًا، يا سايلس." تمتمت. "بعض الأبواب من الأفضل أن تبقى مغلقة.

قبل أن يتمكن من الرد، سمعا ضحكات طفولية قادمة من الحديقة.

​ليليث وكاسديا، الآن في الرابعة عشرة من عمرهما، كانتا هناك.

لم تعودا طفلتين، بل شابتين على حافة الأنوثة. ليليث، بعينيها القرمزيتين المشتعلتين، كانت تتبارز بسيف خشبي مع دمية تدريبية، وحركاتها كانت سريعة، ورشيقة، ومليئة بالطاقة.

أما كاسديا، فكانت تجلس تحت شجرة الصفصاف، وعيناها السوداوان تراقبان أختها بتركيز هادئ، وتحلل كل حركة، كل خطأ.

​نظر سايلس إليهما، وشعر بذلك المزيج المألوف من الحب والفخر والخوف.

كان يفعل هذا من أجلهما. من أجل حمايتهما من عالم كان يعرف أنه سيصبح أكثر خطورة.

​"سأكون حذرًا،" قال لزوجته. لكن كليهما كانا يعرفان أنها كذبة.

في تلك الليلة، بعد أن نام الجميع، وبعد أن ألقى نظرة أخيرة على وجه زوجته النائمة، وقبل ابنتيه على جبينهما وهما في سريريهما، نزل سايلس إلى الأعماق.

إلى مختبره السري.

​كانت قاعة كروية، محفورة في قلب الصخرة تحت المنزل.

لم تكن هناك أي نوافذ، والجدران كانت مغطاة بطبقات من الرونيات الدفاعية التي كانت تتوهج بضوء فضي باهت.

بدأ في التحضير للطقس.

استغرق الأمر منه ليلة كاملة. رسم على الأرضية دائرة ضخمة، معقدة، برموز لم تكن موجودة في أي كتاب.

لم يكن يستخدم الطباشير، بل كان يستخدم مزيجًا من مسحوق عظام التنين الفضي، والغبار المأخوذ من نيزك سقط منذ ألف عام.

​في النقاط الرئيسية للدائرة، وضع المحفزات. قلب غولم حجري، لا يزال ينبض بحياة بطيئة، قديمة.

ريشة عنقاء، تتوهج بلهب لا يحرق. دمعة تنين جليدي، باردة كقلب شتاء أبدي. وقطعة من حجر فراغي، سوداء، تمتص الضوء.

الأرض، النار، الماء، والفراغ.

​وقف في وسط الدائرة، وخلع رداءه العلوي، كاشفًا عن جسد مقاتل، مغطى بشبكة من الندوب القديمة.

وأخذ نفسًا عميقًا.

وبدأ في تدمير نفسه.

​المرحلة الأولى: تحطيم الوعاء.

لم يكن هناك صراخ. فقط صمت، وتركيز مطلق. أطلق العنان لكل قوته من الرتبة السادسة، ليس إلى الخارج، بل إلى الداخل.

كانت كتحويل نهر هائج ليتدفق عكس مجراه، ليضرب السد الذي كان يحتويه.

شعر بها. نواة سحره، ذلك المركز المستقر، المتوهج، الذي أمضى نصف قرن في بنائه وصقله، بدأت تتشقق.

الألم كان لا يمكن وصفه. لم يكن ألمًا جسديًا، بل ألمًا وجوديًا. كأن روحه، هويته، كل ما كانه، يتم تمزيقه من الداخل.

ظهرت شقوق رفيعة على جلده، ومنها بدأ يتسرب ضوء ذهبي باهت.

الدم بدأ يسيل من أنفه، ومن عينيه. لكنه لم يتوقف.

بزئير صامت، حطمها.

انفجرت نواة سحره إلى سحابة من مليارات الشظايا الذهبية، كل شظية تحمل جزءًا من ذاكرته، من قوته.

​المرحلة الثانية: احتواء الفوضى.

كاد أن يتلاشى. أن يتبدد في تلك السحابة. لكنه قاوم. بإرادة من فولاذ، مد ذراعيه الذهنيين، وحاصر تلك المجرة الصغيرة من روحه المحطمة.

كان يصارع ضد العدم، ضد رغبة كل جزء منه في الهرب والعودة إلى الكون. كان أصعب شيء فعله في حياته.

​المرحلة الثالثة: صهر الروح.

"افتحوا!"

صرخ بروحه، واستجابت المحفزات.

طاقة الأرض الثقيلة تدفقت إليه، ومنحته الثبات.

طاقة النار النقية تدفقت إليه، وبدأت في صهر الشظايا، وتنقيتها من كل الشوائب، من كل الشكوك.

طاقة الجليد الباردة تدفقت، وهدأت من جنون النار، وسمحت للشظايا بأن تبدأ في التجمع.

وطاقة الفراغ... بدأت في ضغط كل شيء، في تشكيل النواة الجديدة.

جسده كان الفرن. وروحه كانت المعدن. وقوى الكون كانت هي المطرقة.

كان يصرخ الآن، صرخات مكتومة، حيوانية، وهو يتألم، وهو يولد من جديد.

​المرحلة الرابعة: نقش القانون.

بعد ما بدا وكأنه دهر، بدأت الفوضى تهدأ. في مركز روحه، تشكلت كرة صغيرة، كثيفة، من الضوء الأبيض النقي.

"النواة نصف سامية".

لقد نجح.

لكنها كانت فارغة.

كان عليه الآن أن ينقش عليها "قانونه" الخاص.

ماذا سيختار؟

نظر في أعماق روحه. رأى وجه سيليست، وضحكة ليليث، وصمت كاسديا.

لم تكن هناك حاجة للتفكير.

"قانوني..." تمتم، والدموع تتسرب من عينيه المغمضتين. "...هو 'الملاذ'."

إرادة حماية عائلته، أن يكون هو ملاذهم الآمن، درعهم ضد العالم.

بدأ في نقش هذا المفهوم النقي على نواته الجديدة.

​...

...

...

​مرت سنة.

لم تكن مجرد ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا. كانت أبدية من الرماد الأبيض، وصمت لا يطاق.

السنة التي تلت ذلك اليوم لم تقاس بشروق الشمس وغروبها، بل بقياس عمق الجروح التي حفرتها في روحه، وببطء عودة الحياة إلى عالم كان قد محاه بنفسه.

​المنزل في الوادي المنعزل لم يعد كما كان. السلام الذي كان يسكنه أصبح الآن هشًا، شفافًا، كطبقة رقيقة من الجليد فوق بحيرة مظلمة.

سيليست، زوجته، كانت لا تزال تبتسم، لكن ابتسامتها لم تعد تصل إلى عينيها الزرقاوين، اللتين أصبحتا تحملان قلقًا دائمًا، كأم تراقب طفلاً مريضًا لا تعرف كيف تشفيه.

​وابنتاه... لقد كبرتا. ليليث وكاسديا، الآن في الخامسة عشرة، لم تعودا طفلتين.

المأساة التي شهدتاها، ولو من بعيد، سرقت منهما براءة لا يمكن تعويضها.

ليليث، التي كانت يومًا شعلة من الحياة، أصبحت أكثر هدوءًا، وأكثر حذرًا، وعيناها القرمزيتان تحملان أحيانًا حزنًا يتجاوز سنها بكثير.

أما كاسديا، فصمتها أصبح أعمق، ونظراتها السوداء أصبحت أكثر حدة، كأنها تحلل العالم باستمرار، تبحث عن أي تهديد محتمل.

​وهو... سايلس.

لقد أصبح شبحًا في منزله.

كان يقضي أيامه ولياليه في مختبره السري، الذي أعاد بناءه بصمت وعناد.

يده اليسرى، التي أعادت قوة الرتبة السادسة بناءها، كانت لا تزال تشعر بالغرابة، بالضعف، كأنها طرف مستعار لا ينتمي إليه تمامًا.

وعينه اليسرى، التي رأت الفناء، كانت لا تزال تؤلمه أحيانًا، خاصة في الليالي العاصفة، كأنها تتذكر البرق الأسود الذي مزقها.

​لم يعد يضحك. لم يعد يبتسم. لقد أصبح جزيرة من الصمت والألم، تحيط به عائلته كبحر من الحب القلق.

​ثم، في أحد أيام الخريف الباردة، جاءت الرسالة.

طائر من ظل أسود، شعار عائلة ڤيرتون، طار عبر حواجز الوادي السحرية، وهبط على شرفة مكتبته، حاملاً في منقاره لفافة مختومة بالشمع الأسود.

كانت استدعاءً.

من والده. رئيس آل ڤيرتون.

​"كان يرفض أن يكون هناك."

هذه كانت فكرته الأولى. لماذا الآن؟ بعد سنة كاملة من الصمت؟ لم يسأل عنه، لم يرسل أي كلمة مواساة.

والآن، يستدعيه كأنه أحد أتباعه.

"علينا أن نذهب، يا سايلس." قالت سيليست بهدوء، وكانت تقف خلفه، وقد رأت الرسالة.

"لا يمكنك أن تتجاهل والدك إلى الأبد."

"يمكنني أن أحاول." قال بمرارة.

"من أجل الفتاتين،" قالت، وكلماتها كانت لمسة لطيفة على روحه الجريحة.

"عليهما أن تتذكرا أنهما جزء من عائلة أكبر. حتى لو كانت... عائلة صعبة."

​تنهد سايلس. كانت على حق.

وهكذا، بعد سنة من العزلة، استعدت عائلة سايلس لمغادرة ملاذها، والعودة إلى قلب الظلام.

​قصر ڤيرتون الرئيسي لم يكن كمنزلهم. لم يكن هناك ضوء شمس ذهبي، ولا بحيرة هادئة.

كان حصنًا من حجر الجرانيت الأسود، ينتصب على قمة جبل وحيد، والغيوم الرمادية تلتف حول أبراجها الحادة كأفاعٍ نائمة.

كان مكانًا بني بالقوة، ويحكم بالخوف، ويتنفس أسرارًا قديمة.

​عندما دخلوا القاعة الكبرى، شعر سايلس بالبرودة تخترق عظامه.

كانت قاعة ضخمة، سقفها يختفي في الظلال، وجدرانها مغطاة برايات حريرية سوداء، عليها شعارات المعارك التي خاضتها عائلة ڤيرتون على مر القرون.

في نهاية القاعة، على منصة مرتفعة، كان هناك عرش ضخم، منحوت من قطعة واحدة من حجر السبج الأسود.

​وعليه، كان يجلس والده.

كورفوس ڤيرتون.

​كان قد تجاوز السابعة والسبعين من عمره، لكنه لم يكن يبدو كرجل عجوز هرم.

كان كشجرة بلوط قديمة، صلبة، لا يمكن كسرها. شعره كان أبيض تمامًا، لكنه كان كثيفًا، ومسحوبًا إلى الخلف.

وجهه كان خريطة من التجاعيد الحادة، كأنه منحوت من الصخر، وعيناه... كانتا قرمزيتين، كعيني ليليث، لكنهما كانتا تحملان بريقًا باردًا، وحادًا، وقوة مطلقة لكائن وصل إلى الرتبة السابعة.

​بجانب العرش، كان يقف أخوه الأكبر، ماريوس ڤيرتون. كان في الرتبة السادسة، وكان يشبه نسخة أكثر قسوة، وأقل تأملاً من سايلس.

بجانبه وقفت زوجته، إيزولد، امرأة جميلة بجمال جليدي.

وابنهما... كان هناك أيضًا.

شاب في السادسة عشرة من عمره، طويل، ونحيل، ذو شعر أسود كليل لا قمر فيه.

كان يقف بصمت، وظهره مستقيم، ويداه خلف ظهره. وجهه كان قناعًا من الهدوء الأرستقراطي، وعيناه السوداوان، الفارغتان، كانتا تراقبان كل شيء دون أن تظهرا أي عاطفة.

كان اسمه ڤاليدور.

​تقدمت عائلة سايلس الصغيرة. انحنت سيليست، وليليث، وكاسديا باحترام. سايلس فقط أومأ برأسه إيماءة خفيفة.

"سايلس،" قال كورفوس، وصوته كان كصوت احتكاك الصخور.

"لقد مر وقت طويل."

"لقد كنت مشغولاً، يا أبي."

"نعم. سمعت عن 'انشغالك'." قال كورفوس، وعيناه القرمزيتان استقرتا للحظة على يد سايلس اليسرى، وعلى الندبة الباهتة التي كانت لا تزال مرئية حول عينه.

"ڤاليدور،" نادى، "تعال وتحدث مع عمك. لا بد أن لديك الكثير لتتعلمه منه."

​تقدم الشاب، ڤاليدور، ووقف أمام سايلس. كان أطول منه قليلاً.

"عمي،" قال بصوت هادئ، ومستوٍ.

"سمعت أن أبحاثك في الرونيات القديمة قد حققت تقدمًا كبيرًا. هل هذا صحيح؟"

​كان سؤالاً رسميًا، باردًا، كأنه جزء من امتحان.

"المعرفة بحر لا نهاية له، يا ڤاليدور." أجاب سايلس.

"كلما سبحت أعمق، كلما أدركت مدى ضآلتك."

​أومأ ڤاليدور برأسه، كأنه يفهم تمامًا.

"حكمة عميقة، يا عمي."

الصمت الذي تلا ذلك كان محرجًا، وثقيلاً.

​ثم، كسر كورفوس الصمت.

لم يكن يتحدث إلى ڤاليدور، أو إلى أي شخص آخر.

كان يتحدث إلى سايلس مباشرة.

"لقد رأيت التقارير،" قال. "عن الوحش. عن الدمار. وعن الثمن الذي دفعته."

نظر إلى جروح سايلس، ليس بقلق، بل بتقييم بارد.

"لقد كنت دائمًا هكذا، يا سايلس. تندفع نحو المجهول، وتبحث عن معرفة لا يجب أن يبحث عنها البشر."

​صمت للحظة، ثم قال كلماته، التي كانت كنصيحة، وكحكم في آن واحد.

"ليس من الجيد أن تبحث عن المعرفة المطلقة. هنالك أشياء، يا بني، من الأفضل أن لا تعرفها."

"لأن بعض المعارف... لا تجلب معها سوى الألم. وبعض الأبواب... ما إن تفتح، لا يمكن إغلاقها مرة أخرى."

​حدق سايلس في والده.

لأول مرة، رأى في تلك العينين القرمزيتين شيئًا آخر غير السلطة.

رأى... إرهاقًا. إرهاق كائن عاش طويلاً جدًا، ورأى الكثير جدًا.

​لم يرد سايلس. لم يكن هناك ما يقال.

لقد انتهى الاجتماع.

انحنوا، واستداروا، وغادروا تلك القاعة الباردة، وعادوا إلى صمت رحلتهم الطويلة إلى المنزل.

​في تلك الليلة، بينما كان سايلس يجلس في مكتبته، وينظر إلى اللفافة ذات الرونيات التي كادت أن تقتله، دخلت عليه سيليست.

"هل أنت بخير؟" سألت بهدوء.

هز رأسه. "لقد كان على حق."

"عن ماذا؟"

"عن المعرفة." قال، وأغلق اللفافة.

"هناك أبواب... لا يجب أن تفتح."

​لكنه كان يعرف، في أعماق روحه، أنه سيعود ويحاول مرة أخرى.

لأن هذا هو ما كان عليه.

باحثًا عن الحقيقة.

حتى لو كانت تلك الحقيقة... ستحرقه في النهاية.

2025/09/30 · 55 مشاهدة · 3058 كلمة
Ashveil
نادي الروايات - 2025