​مرت سنتان أخريان.

​سنتان انزلقت بصمت في الوادي المنعزل، كحبات رمل في ساعة زمنية لا نهاية لها.

لم تكن سنتين من السلام بقدر ما كانتا سنتين من الصمت المترقب، من الهدوء الذي يسبق عاصفة لا مفر منها.

في هذا الملاذ الذي بناه ليحمي عائلته، أصبح سايلس نفسه هو الظل الأعمق، الشبح الذي يطوف في منزله.

​ابنتاه، ليليث وكاسديا، بلغتا الآن السابعة عشرة من العمر.

لم تعودا طفلتين تلهوان في الحديقة.

لقد تحولتا إلى امرأتين شابتين، جميلتين بشكل خطير، وقويتين بشكل مرعب.

​ليليث، بعينيها القرمزيتين اللتين أصبحتا أشد عمقًا، كانت قد صقلت سحرها الفطري.

كانت تستطيع الآن أن تجعل الأزهار تتفتح أو تذبل بلمسة، وأن تهدئ عاصفة صغيرة بهمسة.

كانت قوتها تنمو كشجرة برية، فوضوية، وحيوية.

​أما كاسديا، فكانت نقيضها. صمتها أصبح سلاحًا. عيناها السوداوان أصبحتا كبئرين من الحبر، تقرآن ما بين السطور، وتريان الحقائق التي يفضل الآخرون إخفاءها.

كانت مهارتها في التلاعب بالظلال، وفي التخفي، قد تجاوزت حتى توقعات سايلس الأكثر جموحًا.

​لقد أوشكتا على اختراق حاجز الرتبة الثانية، والوصول إلى الرتبة الثالثة، "المحارب الروحي".

إنجاز مذهل في هذا العمر. لم يسمح لهما بالذهاب إلى الأكاديمية.

"لم يكن يثق بتلك الأكاديمية."

كان يرى فيها مجرد مسرح للسياسة والغطرسة، مكانًا سيلوث نقاء موهبتهما.

كان يرى أن تعليمه لهما، تعليمه القائم على فهم جوهر القوة، وليس فقط استعراضها، هو أفضل شيء لهما.

كان يحاول أن يمنحهما ما لم يحصل عليه هو: الحكمة قبل القوة.

​لكنه كان يعرف أن هذا السلام لن يدوم.

كان يعرف أن العالم الخارجي، بعواصفه وحروبه، سيجدهما يومًا ما.

​في أحد أيام الخريف الباردة، عندما كانت أوراق الشجر تتساقط كدموع من ذهب، جاء الطائر الأسود مرة أخرى.

الرسالة كانت قصيرة، وحاسمة.

"إنه يحتضر."

​لم تكن هناك حاجة لذكر الاسم.

في تلك الليلة، سافرت العائلة بأكملها مرة أخرى إلى قلعة ڤيرتون، ذلك الحصن الأسود الذي يقف على قمة العالم.

​الأجواء في القلعة كانت مختلفة هذه المرة. لم تكن هناك تلك الهيبة الباردة، المعتادة.

بل كان هناك حزن. حزن ثقيل، صامت، يلف كل حجر، كل ممر.

الخدم كانوا يتحركون بصمت، ورؤوسهم منخفضة.

والمشاعل السحرية كانت تبدو باهتة، كأنها هي الأخرى تشعر بوطأة الفقد الوشيك.

​تم اقتيادهم ليس إلى قاعة العرش، بل إلى الأجنحة الخاصة بالدوق، في أعلى برج في القلعة.

الغرفة كانت ضخمة، لكنها كانت بسيطة بشكل مدهش. الجدران كانت من حجر أسود أملس، والأثاث كان قليلاً، وعمليًا.

الشيء الوحيد الذي كان يكسر هذه البساطة هو النافذة الهائلة التي كانت تمتد على طول الجدار، وتطل على بانوراما مرعبة من القمم الجبلية والغيوم التي لا نهاية لها.

​وفي وسط الغرفة، على سرير ضخم منحوت من خشب القلب الحديدي، كان يرقد كورفوس ڤيرتون.

​الرجل الذي كان جبلاً، أصبح الآن مجرد تل من العظام والجلد الشاحب.

قوته الهائلة من الرتبة السابعة، التي كانت تملأ أي غرفة بحضور لا يمكن تجاهله، أصبحت الآن مجرد شعلة واهنة، ترتعش، على وشك أن تنطفئ.

عيناه القرمزيتان، اللتان كانتا يومًا كجمرتين مشتعلتين، أصبحتا الآن غائمتين، ضائعتين في مكان ما بين الحياة والموت.

​العائلة كلها كانت هناك. ماريوس، أخو سايلس الأكبر، كان يقف بجانب السرير، ووجهه قناع من الحزن الصارم.

زوجته إيزولد كانت تبكي بصمت في زاوية الغرفة. وحفيده، ڤاليدور، الذي أصبح الآن شابًا في الثامنة عشرة، كان يقف كتمثال أسود، لا يظهر على وجهه أي تعبير، لكن يديه كانتا مشدودتين خلف ظهره بقوة.

​سيليست، وليليث، وكاسديا، وقفن بصمت، يشاهدن نهاية عصر.

أشار كورفوس بيده المرتجفة، التي أصبحت مجرد جلد على عظم.

"اخرجوا..." همس، وصوته كان كحفيف أوراق جافة. "جميعكم... إلا... ولداي."

​غادر الجميع الغرفة بصمت. بقي سايلس وماريوس فقط، يقفون أمام سرير موت والدهم.

​نظر كورفوس إلى ماريوس أولاً، ابنه الأكبر، الوريث.

"ماريوس..." قال بصعوبة.

"أنت... الصخرة. كن... قوياً. من أجلهم."

أومأ ماريوس برأسه، والدموع تتلألأ في عينيه لأول مرة.

"سأفعل، يا أبي."

​ثم، استدارت تلك العينان الغائمتان، واستقرتا على سايلس.

"سايلس..." تمتم، وفي صوته كان هناك ألم يتجاوز ألم الموت.

اقترب سايلس، وجلس على حافة السرير، وأمسك بيد والده الباردة بيده السليمة.

"أنا هنا، يا أبي."

كان سايلس يحب أباه. رغم قسوته، رغم صرامته، كان يحبه. وكان يحب أخاه. لم يكن يكره أي أحد من آل ڤيرتون.

كانت هذه عائلته، لعنته، وملاذه الوحيد.

​"يا بني..." قال كورفوس، وسعل سعالاً جافًا، مؤلمًا.

"لماذا؟... لماذا اتخذت ذلك الطريق الملعون؟"

لم يفهم سايلس في البداية. "أي طريق؟"

"طريق المعرفة..." همس والده، وعيناه القرمزيتان تحدقان فيه بقوة أخيرة.

"هناك أشياء، يا بني، من الأفضل أن لا نعرفها. هناك أبواب لا يجب أن تُفتح. المعرفة المطلقة... هي سم للروح. إنها تأكل السلام، وتترك وراءها فراغًا من الأسئلة التي لا إجابة لها."

"انظر إلى ما فعلته بك!" قال، وصوته ارتفع قليلاً، واهتز بالألم.

"لقد دفعتك إلى تلك الغابة. لقد جعلتك تواجه ما لا يجب على أحد أن يواجهه. لماذا اتخذت طريقة المعرفة الملعونة؟ لماذا؟"

لم يستطع سايلس أن يرد. كيف يشرح له ذلك الجوع في روحه؟

تلك الرغبة التي لا يمكن إطفاؤها في فهم كل شيء؟ كيف يشرح له أنه يفضل الحقيقة المرة على الكذبة الجميلة؟

​"كن... كن حذرًا، يا سايلس..." تمتم كورفوس، وقبضته على يد ابنه أصبحت أضعف.

"الظلال التي نسير فيها... عميقة جدًا. ولا تسامح أبدًا أولئك الذين يحاولون أن يضيئوا زواياها المظلمة."

​أغمض عينيه.

"أنا... متعب."

أخذ نفسًا أخيرًا، طويلاً، ثم... لم يكن هناك نفس آخر.

الشعلة الواهنة لهالته من الرتبة السابعة ومضت للمرة الأخيرة، ثم انطفأت تمامًا.

مات كورفوس ڤيرتون، دوق الظلال، وسيد الشمال.

​بقي سايلس جالسًا هناك، ممسكًا بيد والده التي أصبحت باردة الآن. لم يبكِ. لم يكن هناك المزيد من الدموع.

فقط ذلك الفراغ، وذلك الحزن الصامت، الذي أصبح يعرفه جيدًا.

نهض ماريوس، ووضع يده على كتف أخيه الأصغر.

"لقد انتهى الأمر،" قال بهدوء.

"لا،" أجابه سايلس، وهو ينهض. "لقد بدأ للتو."

​خرج الاثنان من الغرفة.

في الخارج، كانت العائلة تنتظر. عندما رأوا تعابير وجهيهما، فهموا.

انفجرت إيزولد في البكاء. سيليست أغمضت عينيها، ودمعة واحدة انزلقت على خدها.

ليليث وكاسديا احتضنتا بعضهما البعض.

وڤاليدور... بقي واقفًا، صامتًا، وعيناه السوداوان لا تزالان لا تحملان أي تعبير.

لكن في تلك اللحظة، رأى سايلس شيئًا في ابن أخيه.

رأى ظلًا.

ظل والده.

ظل كل دوقات ڤيرتون الذين سبقوهم.

ظل بارد، وقاسٍ، ومستعد لفعل أي شيء من أجل السلطة.

​كان ينظر ليس إلى جده الميت، بل إلى العرش الفارغ.

وفي تلك اللحظة، عرف سايلس.

لقد انتهى عصر.

وبدأ عصر جديد.

عصر... أكثر ظلمة.

...

...

...

​مرت سنة أخرى منذ وفاة والده. سنة من الصمت، والبحث، والهوس الذي كان ينمو في قلب سايلس كزهرة سوداء، سامة.

لقد انسحب تمامًا من عالم عائلته الكبير، من سياسات القلعة ومكائدها، واعتكف في واديه المنعزل، كراهب نذر نفسه لعبادة لغز مرعب.

​كانت وصية والده الأخيرة ترن في أذنيه كتحذير دائم:

"ليس من الجيد أن تبحث عن المعرفة المطلقة... هناك أبواب لا يجب أن تُفتح."

لكن التحذير، بالنسبة لعقل مثل عقل سايلس، كان بمثابة دعوة.

​كان هوسه الجديد هو "الرموز الشيطانية".

لم تكن مجرد رموز قرأ عنها في كتاب، بل كانت شيئًا ماديًا، حقيقيًا.

قطعة أثرية أحضرها من رحلة استكشافية محفوفة بالمخاطر قبل سنوات: حجر أسود، أملس، بحجم رأس إنسان، منقوش عليه رموز لولبية، حمراء، كانت تبدو وكأنها تنبض ببطء في الظلام.

كان قد رآها في أعمق كهف وجده على حافة الغابة السوداء، شعر بقوتها، وخاف منها، فأخذها وأغلق عليها في أعمق جزء من مختبره السري تحت منزله، ووعد نفسه بألا يلمسها أبدًا.

لكن موت والده، وذلك الشعور بأنه لا يزال هناك الكثير مما لا يعرفه، أيقظ ذلك الفضول القاتل مرة أخرى.

​"يجب أن أفهمها،" قال لسيليست في إحدى الليالي، بينما كانا يجلسان أمام الموقد، واللهب يرقص في عينيها الزرقاوين القلقتين.

"إنها مفتاح، يا سيليست. مفتاح لفهم الظلام الذي يزحف على حواف عالمنا."

​تجمدت سيليست، والكوب في يدها اهتز قليلاً. "ذلك الحجر...؟"

تمتمت، والصوت كان يحمل رعبًا قديمًا.

"سايلس، لا. لقد أقسمت أنك لن تلمسه مرة أخرى. لقد شعرت بالشر ينبعث منه حتى من خلف جدران المختبر."

"ولهذا يجب أن أدرسه!" قال، وصوته كان يحمل حماسة محمومة لم تكن فيها.

"الخوف من المجهول هو ما يمنح المجهول قوته. إذا فهمته، يمكنني السيطرة عليه. يمكنني حمايتكم منه."

"وأيضًا قد يقتلك!" صرخت، ووقفت، والدموع تتلألأ في عينيها.

"لدينا حياة هنا! لدينا بنات! هل ستضحي بكل هذا من أجل فضولك القاتل؟"

استمر الجدال لساعات، لأيام. كان سايلس عنيدًا، مهووسًا. وكانت سيليست يائسة، خائفة.

​أخيرًا، في ليلة مقمرة، عندما رأت أنها لن تستطيع أن تثنيه عن قراره، نظرت إليه بعينين تحملان حزنًا وعزمًا لا يلين.

"حسنًا،" قالت بهدوء. "افعل ما يجب عليك فعله."

شعر سايلس بوخزة من الذنب، تلتها موجة من الارتياح.

"شكرًا لكِ على تفهمكِ..."

"لم أكمل كلامي،" قاطعته، وصوتها كان ثابتًا كالفولاذ.

"قلت افعل ما يجب عليك فعله. لم أقل افعله وحدك. إذا كنت ستواجه الظلام، فلن تواجهه وحدك. أنا سآتي معك."

​صُدم سايلس. "مستحيل! سيليست، هذا جنون! المختبر... الطاقة هناك... قد تكون خطيرة!"

"وحياتي بدونك هي جحيم أشد خطورة،" ردت، ووضعت يدها على خده.

"لقد أقسمنا أن نواجه كل شيء معًا، يا سايلس. في السعادة، وفي الحزن. في النور، وفي الظلام. هل نسيت قسمنا؟"

نظر في عينيها، ورأى ذلك الحب الذي لا يتزعزع، تلك الإرادة التي كانت أقوى من أي سحر، من أي قوة.

وهُزم.

"حسنًا،" تمتم "سنذهب... معًا."

...

​بعد أن نامت الفتاتان، نزل الاثنان معًا إلى خارج المنزل.

كان الهواء يزداد برودة مع كل خطوة. وصلا إلى باب حديدي ضخم، نقشت عليه رونيات حماية معقدة.

فتح سايلس الباب بلمسة من يده، ودخلا إلى كهفه.

لم يكن مجرد مختبر. كان ملاذًا للمعرفة. كهف طبيعي واسع، جدرانه تتلألأ ببلورات كوارتز باهتة، والرفوف محفورة في الصخر، مليئة باللفائف والكتب والمكونات النادرة.

وفي الوسط، على قاعدة من حجر السبج الأسود، كان يرقد الحجر الشيطاني.

كان ينبض ببطء، بضوء أحمر خافت، كقلب وحش نائم.

"ابقِ هنا،" قال سايلس لسيليست، وهو يشير إلى دائرة حماية كان قد رسمها مسبقًا على الأرض. "لا تخرجي منها مهما حدث."

​أومأت برأسها، ووقفت داخل الدائرة، ويداها مشدودتان، وقلبها يخفق بقوة.

تقدم سايلس نحو الحجر. الهواء حوله أصبح ثقيلاً، مشبعًا بطاقة خبيثة، جعلت جلده يقشعر.

"حان الوقت لأعرف حقيقتك،" تمتم.

وتردد للحظة. ثم أخذ نفسًا عميقًا، ووضع يديه على سطح الحجر البارد، الأملس.

​في اللحظة التي لامست فيها أصابعه الرموز، انفجر الجحيم في عقله.

لم تكن مجرد معلومات. كانت صورًا، أصواتًا، أحاسيس. رأى عوالم تلتهمها ثقوب سوداء.

سمع صرخات كيانات كونية وهي تموت. شعر ببرودة الفراغ المطلق، وبحرارة النجوم وهي تنفجر.

كانت معرفة ممنوعة، معرفة لم يكن من المفترض لأي عقل بشري أن يستوعبها.

"سيليست!" صرخ، وعيناه متسعتان من الرعب والفرح المشوه للاكتشاف.

"إنها ليست مجرد رموز... إنها... لغة الخلق نفسها! إنها..."

​كان على وشك فك شفراتها. على وشك أن يفهم السر النهائي.

لكنه لم يلاحظ. لم يلاحظ أن الضوء الأحمر الذي ينبعث من الرموز أصبح أشد سطوعًا، وأكثر عنفًا.

لم يلاحظ أن الطنين المنخفض الذي كان يصدر من الحجر أصبح الآن أزيزًا عالي التردد، مؤلمًا.

لم يلاحظ... حتى فات الأوان.

​"سايلس، ابتعد!"

صرخة سيليست المذعورة هي ما أعاده إلى الواقع.

لكن الأوان كان قد فات.

الحجر تشقق.

ومن الشقوق، انفجر الضوء.

ليس ضوءًا، بل انفجار من الواقع نفسه.

موجة صامتة، لكنها مدمرة، من طاقة سوداء وحمراء، موجة لم تكن تحرق، بل كانت... تمحو.

اجتاحت الموجة المختبر. اللفائف القديمة تحولت إلى غبار. قوارير الزجاج ذابت. حتى الصخر نفسه بدا وكأنه يتآكل.

​اجتاحت الموجة سايلس.

لم يصرخ. لم يكن هناك وقت لذلك.

شعر بملابسه تتحول إلى رماد. شعر بجلده يتبخر. شعر بلحمه وهو يُسلق، ويحترق، ويختفي عن عظامه.

الألم كان مطلقًا، فوريًا، كونيًا. رأى، للحظة خاطفة، عظام وجهه البيضاء، وفكه السفلي، ينكشفان، قبل أن تبدأ العظام نفسها في الاحتراق والتفحم.

قوة الرتبة السابعة، قوة الشفاء الهائلة التي كانت تسري في عروقه، حاولت يائسة أن تقاوم.

كانت تنسج لحمًا جديدًا، وجلدًا جديدًا، لكن طاقة المحو كانت أسرع، وأقوى، تلتهم كل شيء في طريقها.

كان يحترق، ويشفى، ويحترق مرة أخرى، في دورة أبدية من العذاب، كل ذلك في جزء من الثانية.

​عندما تلاشت الموجة أخيرًا، بعد ثوانٍ بدت كأنها دهر، كان سايلس لا يزال واقفًا، بالكاد.

كان كتلة من اللحم المحترق، والعظام المكشوفة، يتصاعد منه الدخان، وقوة الشفاء فيه لا تزال تحاول يائسة إعادة بناء ما تم تدميره.

أجبر عينيه المحترقتين على الفتح. ونظر عبر المختبر المدمر.

ورآها.

في اللحظة التي اخترق فيها الانفجار جسد سيليست، لم تتحول إلى رماد أبيض ناعم كما يحدث للأشياء العادية.

لا… كان ذلك أسوأ.

جلدها أولًا اسودّ فجأة، وكأن نيرانًا جهنمية أُضرمت في دمها من الداخل.

تحولت بشرتها الناعمة إلى قشرة سوداء متشققة، تتصدع ببطء، كالفحم المشتعل الذي يخفي تحت طبقاته جمرة متوهجة.

كانت واقفة، ساكنة، وعيناها تحدقان في سايلس بكل ما تبقى من حبها له.

لكن جسدها… كان ينهار.

أطرافها بدأت تتفتت كالفحم الهش، تتساقط منها قطع صغيرة، سوداء، متفحمة، تتبخر في الهواء وتترك خلفها دخانًا رقيقًا ذا رائحة خانقة — رائحة الموت.

لم تنطق كلمة. لم تخرج منها حتى صرخة.

لم يكن هناك سوى الصمت.

صمت أفظع من أي عويل.

كانت تذوب أمامه ببطء، تتبخر قطعةً بعد أخرى.

وجهها الجميل كان آخر ما تبقى، نصفه لا يزال حيًا، نصفه الآخر قد أصبح كتلة سوداء متفتتة.

فتح فمها قليلًا، كأنها تحاول قول شيء أخير — ربما "أحبك" — لكن لا هواء خرج، ولا صوت.

ثم… تفتت وجهها.

تفتت بالكامل.

لم يتبقَ سوى غبار أسود كثيف، ودخان يتصاعد من مكانها، ثم تلاشى إلى لا شيء.

كانت سيليست، زوجته، حبيبته، أم بناته…

قد تبخرت.

ببطء.

وبلا كلمة واحدة.

​في تلك اللحظة، توقف كل شيء.

توقف الشفاء. توقف الألم.

بقي سايلس واقفًا هناك، جسده نصف محترق، ونصف حي.

نظر إلى المكان الذي كانت فيه زوجته، حبه، روحه.

ثم، انهار.

سقط على ركبتيه، وسط أنقاض معرفته الملعونة، وفتح فمه.

وصرخ.

​لم تكن صرخة بشرية.

كانت صرخة حيوان جريح، صرخة روح تم تمزيقها إلى نصفين.

صرخ وبكى، والدموع كانت تخرج من محاجر عينيه المحترقة، وتمتزج بالدم واللحم الذائب على وجهه.

صرخ باسمها مرارًا وتكرارًا، حتى تمزقت حباله الصوتية، وحتى لم يتبق لديه سوى حشرجة مكسورة.

زحف على الأرض، محاولاً أن يجمع ذلك الرماد الأسود بيديه اللتين كانتا لا تزالان تتشكلان.

لكن الرماد كان يذوب بين أصابعه، يختفي، كأنه لم يكن حقيقيًا أبدًا.

...

​...

لا يعرف كيف عاد إلى المنزل.

لا يعرف كم من الوقت مر.

كل ما يعرفه أن قدميه قادتاه في الظلام، كجثة تمشي بلا روح، حتى وقف أخيرًا أمام عتبة البيت.

في تلك الليلة، لم يعد سايلس.

بل عاد شبحًا محترقًا، محطمًا، مكسورًا حتى العظم.

فتح الباب بصعوبة، فاندفع الدفء البسيط من الداخل ليلف جسده المحترق.

ركضت ليليث وكاسديا نحوه، وجوههما كانت تلمع بالرعب والقلق.

"أبي! لقد عدت! أين..."

لكن الكلمات انقطعت فجأة.

تجمدتا في مكانهما.

عيونهما — القرمزية والسوداء — اتسعتا في رعب مطلق وهما تحدقان في الكابوس الذي كان يومًا والدهما.

لم ترَ الفتاتان أباهما من قبل بهذا الشكل: نصف جسده متفحم، نصفه الآخر ممزق، والدموع السوداء تنحدر بلا توقف من عينيه الميتتين.

مرت لحظة طويلة، ثقيلة كدهر.

ثم همست ليليث، بصوت مرتعش بالكاد خرج من حنجرتها :

"أين... أين أمي؟"

كلمة "أمي" طعنت سايلس في قلبه، طعنة أعمق من كل الجروح التي مزقته في المختبر.

رفع عينيه المثقلتين بالدموع، ونظر إلى ابنتيه.

رأى فيهما آخر ما تبقى من سيليست، آخر خيط يربطه بالحياة.

لكن وجهه المحترق لم يستطع أن يخفي الحقيقة، ولا دموعه الدموية التي سالت كالحمم المنصهرة على الخراب الذي كان خديه.

لقد أراد أن يقول الحقيقة.

لقد أراد أن يصرخ بما رآه، باللعنة التي التهمت زوجته أمامه، بالفحم الأسود والدخان.

لكنه لم يستطع.

لم يكن قادرًا على تدمير قلب ابنتيه الصغيرتين في هذه اللحظة.

ففتح فمه، وصوته كان حشرجة ميتة، ليقول أفظع، وأقسى، وأكثر كذبة إيلامًا في تاريخ الكون:

"لقد..."

توقف، كأنه يختنق بنفسه.

"لقد ذهبت... لتُحضر العشاء."

ابتسم ابتسامة مشوهة، ابتسامة لا تحمل سوى الخراب.

وفي تلك اللحظة، شعر أن هذه الكلمات كانت أثقل من أي سيف، وأبشع من أي لعنة.

ثم انهار.

سقط على عتبة منزله، بين ابنتيه المذعورتين، جسده يتشنج، والدموع الدموية تغرق الأرضية.

غرق في ظلام لم يكن هناك أي أمل في العودة منه.

لقد دفع جزء من ثمن المعرفة.

وكان الثمن… أغلى مما يستطيع أي قلب أن يتحمله.

2025/10/01 · 59 مشاهدة · 2494 كلمة
Ashveil
نادي الروايات - 2025