قبل أربعة عشر عامًا...
(بعد اثنتي عشرة سنة من وفاة سيليست)
الزمن لا يشفي كل الجروح. أحيانًا، يقوم فقط بدفنها تحت طبقة رقيقة من الرماد، تنتظر هبة ريح قاسية لتكشف عن الجمر الذي لا يزال يحترق في الأسفل.
مرت اثنتا عشرة سنة على ذلك اليوم الذي تحول فيه عالم سايلس إلى رماد أبيض.
اثنتا عشرة سنة من الصمت، من البحث المحموم في مكتبته المنسية، ومن محاولة يائسة لإعادة بناء ليس فقط جسده المحطم، بل روحه الممزقة.
الوادي المنعزل الذي كان يومًا رمزًا للسلام، أصبح الآن صومعة لحزن أبدي.
سيليست لم تعد هناك، لكن ظلها كان يطوف في كل زاوية، في رائحة الزهور في الحديقة، في بريق البحيرة الهادئة، في الصمت الذي يلف المنزل.
سايلس لم يعد مجرد سيد من الرتبة السابعة. لقد فعلها.
في خضم حزنه وغضبه، حطم قيوده، ومزق روحه، وأعاد بناءها. لقد وصل إلى الرتبة الثامنة، "متجاوز".
أصبح هو الرجل الوحيد في هذا العالم، في العصر الحالي، الذي استطاع أن يلمس هذا المستوى من القوة.
لكن انتصاره كان أجوفًا. كل ذرة من قوته الجديدة كانت تذكره بالثمن الذي دفعه.
وابنتاه... لم تعودا طفلتين.
ليليث وكاسديا، الآن في السابعة والعشرين من عمرهما، أصبحتا امرأتين، كل منهما تحمل ندوب تلك المأساة بطريقتها الخاصة.
لقد تزوجا. كل واحدة منهما ذهبت في طريقها، كأنهما تحاولان الهرب من المنزل الذي أصبح قبرًا لذكريات أمهما.
ليليث، بعينيها القرمزيتين اللتين أصبحتا الآن تحملان حكمة وحزنًا يتجاوزان سنها، تزوجت من ذلك الشاب الصامت، الطموح، الذي أصبح الآن دوق الظلال الجديد:
ڤاليدور ڤيرتون. لقد أنجبت طفلها الأول قبل سنتين. طفل ذو شعر أسود كليل لا قمر فيه، وعينين سوداوين كعيني والده، لكنهما تحملان وميضًا من نار والدتها. أسمته... نير.
وكاسديا، ذات العينين السوداوين العميقتين، تزوجت قائد من فرسان عائلة آل ڤيرتون.
وبعد شهرين من ولادة نير، أنجبت هي الأخرى فتاة. فتاة ذات شعر أسود قصير، وعينين أرجوانيتين متوهجتين بشكل غريب. أسمتها... مورنا.
في ذلك اليوم، في الذكرى الثانية عشرة لوفاة سيليست، كان سايلس وليليث يستعدان للرحيل.
"هل أنت متأكد من هذا، يا أبي؟" سألت ليليث، وصوتها كان يحمل قلقًا عميقًا.
كانت تقف في بهو منزل والدها، وترتدي رداء سفر بسيطًا، داكن اللون. "كاسديا... لم تكن على طبيعتها في رسائلها الأخيرة."
"ولهذا يجب أن نذهب،" قال سايلس، وصوته كان كهدير بعيد. لقد تغير. لم يعد ذلك الرجل المحطم تمامًا.
قوته الجديدة من الرتبة الثامنة منحته هدوءًا مرعبًا، لكنها لم تستطع أن تصلح الخراب في روحه.
كان لا يزال يغطي عينيه بذلك القماش الأسود، وذراعه اليسرى كانت لا تزال مفقودة.
"ڤاليدور سيعتني بنير جيدًا،" قالت ليليث، كأنها تحاول إقناع نفسها. "إنه بارد، لكنه... مسؤول."
في قصر ڤيرتون، على بعد مئات الأميال، كان ڤاليدور ڤيرتون يجلس على كرسي في حديقة خاصة، ويراقب طفلاً في الثانية من عمره وهو يحاول أن يمسك بفراشة فضية.
كان وجه الدوق الشاب قناعًا من الجليد، لكن عينيه السوداوين كانتا تتبعان كل حركة لابنه الصغير بتركيز مطلق، لم يكن فيه حنان، بل... تقييم.
"كونا حذرين،" قالت ليليث لوالدها.
لم يرد سايلس. فقط وضع يده السليمة على كتفها.
وتمزق الواقع.
لم تكن بوابة، ولا وميض. ببساطة، انطوى الفضاء حولهما، وخطوا من واديهم الأخضر الهادئ، إلى عالم آخر.
هبطا في ساحة قلعة قديمة، تقع على حافة منحدر يطل على بحر هائج.
السماء كانت ملبدة بالغيوم، والرياح كانت تعوي كأنها أرواح معذبة.
"هذا هو مكانها؟" تمتمت ليليث برهبة.
"لقد اختارت العزلة،" قال سايلس.
لكن العزلة لم تكن هي الشيء الوحيد الذي اختارته.
القلعة كانت صامتة. صامتة بشكل مرعب. البوابة الضخمة كانت مفتوحة قليلاً، تتأرجح مع كل هبة ريح، وتصدر صريرًا مؤلمًا.
"كاسديا!" نادت ليليث، وصوتها ضاع في عواء الريح.
لا رد.
تبادلا نظرة قلقة، ودخلا.
القاعة الكبرى كانت في حالة من الفوضى.
أثاث محطم، ستائر ممزقة، وعلامات احتراق سوداء على الجدران الحجرية، كأن معركة عنيفة قد دارت هنا.
وفي قلب القاعة المدمرة، حيث الجدران مشبعة برائحة الدم والدخان، كان يرقد هو.
زوج كاسديا. أو بالأحرى... ما تبقى منه.
شهقت ليليث، جسدها ارتجف وهي تضع يدها على فمها، وعيناها اتسعتا حدّ الانفجار.
لم يكن جثة عادية.
كان كومة من اللحم المهترئ، ممزقًا، محطمًا، كأن شيئًا ما قد مزقه من الداخل إلى الخارج. صدره كان مفتوحًا على اتساعه، أحشاؤه مبعثرة، والدم ما زال يتساقط قطرة بعد أخرى على الأرضية الباردة. عيناه الجاحظتان ظلتا مفتوحتين، متجمدتين في لحظة رعب مطلق، رعب لم يترك له حتى شرف الموت بسلام.
لكن... جسده لم ينهار بلا معنى.
بل اتخذ شكلًا غريبًا، وكأنه انحنى عمداً ليكون درعًا.
وتحته، في فراغ صغير صنعه بجسده المحطم، كانت تختبئ طفلة صغيرة.
مورنا.
وجهها كان ملطخًا بدماء والدها، دموعها تسيل بصمت، ويداها الصغيرتان تتمسكان بقطعة من ملابسه الممزقة، كأنها تخشى أن يتركها حتى بعد موته.
لكن ذلك لم يكن أكثر ما جعل الدم يتجمد في عروق سايلس.
ففي نهاية القاعة، حيث كان الظلام يتراقص كأنه حي، كانت تقف كاسديا.
ملابسها ممزقة، شعرها الأسود القصير مبعثر كأنياب وحش، ووجهها كان مغطى بالكامل بدماء زوجها.
لكنها لم تبكِ.
كانت... تبتسم.
ابتسامة مشوهة، واسعة أكثر من اللازم، فارغة، تائهة، كأنها قناع وُضع على روح مكسورة.
وفوقها...
ذلك الكائن.
شيطان لم يكن مجرد جسد، بل كابوس متجسد. كتلة من الظلال واللحم الأسود، بزوجين من الأجنحة الممزقة الممتدة من ظهره، وقرون ضخمة ملتوية كالحديد المحترق. هالته وحدها جعلت الهواء ثقيلًا، وكأن الجدران نفسها بدأت تبكي دمًا.
"كاسديا..." همست ليليث بصوت متحطم، عيناها تترجفان. "ماذا... ماذا فعلتِ؟"
ببطء جليدي، التفتت كاسديا إليهما.
ابتسامتها لم تتغير. لكن الدموع بدأت تنزف من عينيها السوداوين، تختلط بالدم الذي يغطي وجهها، لتصنع لوحة مرعبة من الجنون واليأس.
"لقد... لقد وعدني..." قالت بصوت طفولي، صوت مكسور، أشبه بهمهمة روح فقدت عقلها.
"لقد قال إنه سيساعدني..."
صرخ سايلس، محاولًا اختراق صمت الرعب:
"يساعدكِ على ماذا؟!"
ارتج جسدها فجأة، وانطلقت منها ضحكة هستيرية ممزوجة بالبكاء:
"سأستطيع... سأستطيع إعادة أمي!"
ثم بدأت تصرخ، صرخة مجنونة تتكرر، كل كلمة تخترق المكان كسكين:
"سأستطيع إعادة أمي! سأستطيع إعادة أمي! سأستطيع إعادة أمي!!"
لقد تحطمت تمامًا.
حزنها القديم، المكبوت منذ الطفولة، انفجر كالبركان، مزّق عقلها، وأطلقها فريسة سهلة لهذا الكائن.
الشيطان لم يتحرك. لم يحتج أن يتحرك.
فقط نظر إليهما.
ونظرة واحدة كانت كافية.
سايلس، الذي وصل إلى الرتبة الثامنة، شعر بركبتيه تضعفان، وعظامه تكاد تتحطم من الضغط. لم يكن هجومًا... بل حقيقة. حقيقة أنه لا شيء. أنهم جميعًا لا شيء أمام هذا الكيان.
انهارت ليليث على الأرض وهي تلهث، كأنها تغرق في بحر أسود.
"لقد وجد ما يبحث عنه،" قال الشيطان، وصوته لم يكن صوتًا، بل احتكاك مجرات وهي تتصادم، موت نجوم يصرخ عبر الأبدية.
"وعاء فارغ... مستعد..."
رفع يده، يد لم تكن يدًا، بل حفرة من الظلام، ووضعها على كتف كاسديا.
"لااا!" صرخ سايلس، صرخ بكل ما تبقى من روحه، لكن جسده لم يستجب.
في اللحظة التالية...
ذابت كاسديا، والشيطان معها، في الظلال.
وتركا خلفهما فقط صدى ضحكتها المكسورة، يتردد في القاعة الميتة.
انتهى الضغط فجأة.
سقط سايلس على ركبتيه، يلهث، عرقه يتصبب، كأن قلبه سينفجر.
ركضت ليليث نحو ابنة أختها، احتضنت مورنا، وهي تبكي معها.
لكن سايلس... لم يتحرك.
ظل راكعًا في مكانه، عيناه غارقتان في الفراغ.
وسط الدماء، وسط الجثة الممزقة، وسط أنقاض حياة ابنته...
"أنا السبب..." همس، وصوته كان كالسّم يتسرب من روحه.
"كل هذا... بسببي."
هوسه بالمعرفة، قاده إلى موت زوجته.
موت زوجته، قاد ابنته إلى الجنون.
وجنونها... فتح الباب لهذا الجحيم.
سلسلة مآسٍ لا تنتهي، وكان هو أول حلقة فيها.
ثم انهار.
لم يكن بكاءً بشريًا. بل كان أنينًا حيوانيًا، عميقًا، يخرج من صدر أب فقد كل شيء مرتين.
ولم يكن هناك من يسمعه.
لم يكن هناك من يواسيه.
فقط الظلام، وصوت البحر الهائج خارج القاعة، وبكاء طفلة صغيرة... فقدت كل شيء، تمامًا كما فقد هو.
...
...
...
مرت سنتان أخريان.
سنتان من الصمت، والبحث، والانتظار في وادٍ أصبح سجنًا من الحزن.
الهواء، الذي كان يومًا يحمل رائحة الزهور وضحكات الأطفال، أصبح الآن ثقيلاً، مشبعًا بذكرى الرماد، وبصمت امرأة لم تعد موجودة.
سايلس... لم يعد هو نفسه. لقد فقد كل شيء بالفعل، أليس كذلك؟ زوجته، التي كانت شمسه، تحولت إلى غبار بين أصابعه.
وابنته كاسديا، ابتلعها ظلام وعدها بإعادة ما لا يمكن إعادته.
لم يتبقَ له سوى شظايا من عائلة مكسورة، وعبء قوة لم يعد يرى فيها سوى لعنة.
لم يعد يزور ليليث إلا قليلاً. رؤية وجهها، الذي كان نسخة طبق الأصل من وجه والدتها، كان ألمًا لا يطاق.
آخر مرة زارها كانت قبل ستة أشهر، وكان قد أخذ معه مورنا، تلك الطفلة ذات العينين الأرجوانيتين التي أصبحت الآن في الرابعة من عمرها، والتي كانت الشاهد الصامت الوحيد على مأساة والدتها.
كانت مورنا هي مرساته الأخيرة، صلته الوحيدة بـ "هم".
كان يريد زيارتهما مجددًا، لكن ليس قبل أن يكمل ما بدأه. ليس قبل أن يجد إجابة، أي إجابة، تبرر كل هذا الجحيم.
لقد لاحظ شيئًا آخر في نفسه خلال هاتين السنتين. عيبًا جديدًا، جاء مع قوته من الرتبة الثامنة.
لم يكن ضعفًا جسديًا، بل كان تآكلاً روحيًا. العالم أصبح باهتًا، كأن ألوانه قد سُرقت.
الطعام فقد طعمه. الموسيقى أصبحت مجرد ضجيج. كان يشعر بأنه ينجرف بعيدًا عن عالم الأحياء، يصبح شبحًا يراقب مسرحية مملة، وهذا الشعور بالانفصال، باللامبالاة القسرية، كان يخيفه أكثر من أي شيطان.
في تلك الليلة، عندما غطت مورنا في نوم عميق في سريرها الصغير، فعلها مرة أخرى.
وقف في شرفة منزله، وأغمض عينيه.
لم يكن هناك انتقال آني، ولا بوابة. لقد طوى الفضاء حوله بصمت، وخطى خطوة واحدة من واديه الأخضر الهادئ، إلى قمة جبل بعيد، على بعد مئات الكيلومترات.
كانت قمة مقفرة، فوق مستوى السحب.
الرياح الجليدية كانت تعوي، تحمل معها بلورات من الثلج حادة كالإبر. لم يشعر بالبرد. لم يعد يشعر بالكثير.
كان هذا هو مكانه السري الذي اكتشفه مؤخرًا. وفي وسط هذه القمة، كان يرقد قلب وحش أسطوري متحجر، بحجم منزل صغير، وعليه كانت لا تزال تلك الرموز الشيطانية تتوهج بضوء أحمر خافت، مريض.
"لماذا قد أتوقف عن البحث عن المعرفة؟" تمتم للريح الباكية.
"هل سأترك روح سيليست تذهب سدى؟"
لقد حذره والده. لقد دفع ثمنًا لا يمكن تصوره.
لكنه كان يعلم أن التوقف الآن يعني أن تضحيته، أن تضحيتها، كانت بلا معنى.
كانت هذه الرموز هي الخيط الوحيد المتبقي الذي يربطه بتلك الكارثة.
اقترب من القلب المتحجر. هذه المرة، لم يلمسه. لقد تعلم درسه.
جلس أمامه، في وضعية التأمل، وبدأ في التحليل.
قوته من الرتبة الثامنة، قوة "المتجاوز"، لم تمنحه فقط قوة تدميرية هائلة، بل جعلت عقله شيئًا آخر.
أصبح قادرًا على معالجة المفاهيم، على التأقلم مع اللغات الكونية، ليس بسرعة، بل ببطء شديد، كأنه يتعلم لغة جديدة، حرفًا حرفًا.
بدأ يركز. لم يحاول أن يقرأ الرموز ككلمات. بل شعر بها. شعر باهتزازاتها، ببنيتها الرياضية المستحيلة.
وببطء مؤلم، بدأت المفاهيم تتشكل في عقله.
الكلمة الأولى التي فهمها كانت: "أعماق أبرثون".
في لحظة، غمرت عقله صور ورؤى. بحر أسود، لا قرار له، مليء بجثث ساميين ميتة، وعواصف من الأرواح المعذبة.
شعر ببرودة أبدية، وبحزن أقدم من الزمن نفسه.
تراجع عقله من الصدمة، لكنه أجبر نفسه على الاستمرار.
الكلمة الثانية: "القطب الجنوبي".
رأى قارة من الجليد الأسود، تحت سماء لا شمس فيها.
رأى مدينة مهجورة، وأبراجًا من الكريستال المظلم.
شعر بصمت مطلق، وبوجود كائنات نائمة، مرعبة، تحت الجليد.
كان يلهث الآن، والعرق البارد يتكون على جبهته تحت القماش.
هذه المعرفة... كانت مؤلمة.
ثم، بدأ في فك شفرة الرمز الثالث، الأخير الذي استطاع عقله أن يدركه في تلك اللحظة.
"عرش".
في اللحظة التي فهم فيها الكلمة، انهار كل شيء.
لم يكن مجرد مفهوم. كانت الكلمة نفسها... بوابة.
ضغط.
ضغط روحي، كوني، لا يمكن وصفه، هبط عليه من كل اتجاه.
لم يكن كضغط الشيطان الذي رأها، كانت قوته أشبه بنملة أمام هذا الضغط.
كان الأمر كأن الكون كله، بكل مجراته، بكل تاريخه، بكل احتمالاته، قد تحول إلى نقطة واحدة، واستقر على روحه.
قوته من الرتبة الثامنة، التي كانت تجعله ساميا صغيرًا، تبخرت.
لم تعد شيئًا. كانت مجرد... غبار.
سقط على ركبتيه، ليس بفعل قوة جسدية، بل لأن روحه نفسها كانت قد جثت.
كان يلهث، يختنق، ورعب مطلق، نقي، لم يعرفه من قبل، جمد كل فكرة، كل ذرة من كيانه.
ظهر أمامه.
لم يظهر بوميض، أو من بوابة.
لقد كان هناك دائمًا، لكن سايلس لم يكن يستطيع رؤيته.
كان بشريًا. مجرد رجل بشري.
متوسط الطول، يرتدي ملابس بسيطة، رمادية، كملابس فلاح أو مسافر.
شعره كان بنيًا، قصيرًا، ووجهه... كان وجهًا عاديًا، لا شيء مميز به على الإطلاق.
يمكن أن تمر بجانبه في الشارع ألف مرة دون أن تلاحظه.
لكنه لم يكن عاديًا.
لم يستطع سايلس النطق بكلمة.
كان يرتجف بعنف، وجسده الذي لم يتأثر بالعواصف الجليدية أو بالمعارك الكونية، كان على وشك الانهيار من مجرد وجود هذا الرجل.
كاد أن يغمى عليه.
ثم، تغير العالم.
لم يعد يرى قمة الجبل.
رأى... الخيوط.
خيوط ملونة متوهجة، تمتد إلى ما لا نهاية في كل اتجاه.
عدد لا نهائي منها على مد البصر.
بعضها كان يلمع بضوء ذهبي ساطع، وبعضها كان أحمر قانياً، وبعضها كان أزرق هادئًا، وبعضها كان أسودًا كالفراغ.
كانت تتشابك، وتتراقص، وتشكل نسيجًا لانهائيًا من الاحتمالات.
كان يرى... نسيج القدر نفسه.
"تريد المعرفة؟"
صوت الرجل كان عاديًا. هادئًا.
كصوت جارك وهو يسألك عن حالة الطقس.
وهذا ما جعله مرعبًا بشكل لا يطاق.
"ما رأيك بمعرفة عن القدر؟"
رفع الرجل يده، التي كانت يدًا عادية، لا تحمل أي قفازات أو ندوب.
ثم، بحركة بسيطة، كأنه يقطع خيطًا من نسيج، حرك يده.
وفي تلك اللحظة، سمع سايلس صوتًا. صوت تمزق، ليس صوتًا واحدًا، بل صوت لا نهائي من تمزق الحرير، يحدث في نفس الوقت.
كل الخيوط... قُطعت.
الخيوط الذهبية، والحمراء، والزرقاء، والسوداء... كلها انقطعت في لحظة واحدة.
النسيج الكوني للقدر... تمزق.
اختفى كل شيء.
الرجل. الخيوط. الرؤية.
عاد سايلس إلى قمة الجبل، راكعًا، يرتجف، وحيدًا.
الضغط اختفى.
لكن الرعب... بقي.
"ما الذي تغير؟"
همس في الريح.
لم يشعر بأي شيء مختلف في جسده، أو في روحه. لكنه عرف. بيقين بارد ومطلق.
لقد تغير كل شيء.
لقد رأى للتو كائنًا... يقطع خيوط القدر كأنها لعبة أطفال.
ولم يعد هناك أي شيء مؤكد. لم يعد هناك أي مسار.
لم يعد هناك أي مصير.
فقط... فوضى.
وقف على قدميه المرتجفتين، ونظر إلى السماء.
"يا سيليست..." تتمتم والدموع بدأت تتسرب من تحت قماشه الأسود لأول مرة منذ سنوات.
"في أي عالم ملعون... تركنا بناتنا؟"
لم تكن هناك إجابة.
...
...
...
العودة من قمة العالم لم تكن انتقالاً، بل كانت سقوطًا.
لم يطوِ سايلس الفضاء بإرادته الواثقة كما فعل عند مجيئه.
بل انهار عبر نسيج الواقع، كشهاب محطم، وعقله لا يزال يرتجف من صدى تلك الرؤية المستحيلة.
الخيوط المقطوعة... والصمت الذي تلاها.
هبط في واديه المنعزل ليس ك سامي، بل كشبح، وسقط على ركبتيه على العشب المندى، يلهث هواءً لم يعد يشعر بأنه ملكه.
بقي هناك لدقائق طويلة، يحاول أن يجمع شظايا روحه، أن يطرد صورة ذلك الرجل العادي، وتلك القوة التي لا اسم لها، من ذهنه.
ثم، تذكر.
مورنا.
نهض على قدميه، اللتين كانتا تشعران بالثقل، كأنهما مصنوعتان من الرصاص والندم.
تحرك عبر منزله الصامت، الذي بدا الآن غريبًا، باردًا.
كل قطعة أثاث، كل كتاب، كان يحمل ذكرى سيليست، ذكرى مؤلمة، كأنها طعنة سكين في جرح لم يلتئم أبدًا.
وصل إلى غرفة الطفلة. كانت نائمة في سريرها الصغير، وشعرها الأسود القصير منتشر على وسادتها البيضاء.
كانت في الرابعة من عمرها، وجهها يحمل براءة لم يعد سايلس يشعر بأنه يستحق حمايتها.
كانت تتنفس بهدوء، صدرها الصغير يرتفع ويهبط بإيقاع منتظم.
كانت آخر بقايا من عائلته المحطمة.
اقترب منها، وانحنى ليطبع قبلة على جبهتها، كما كان يفعل كل ليلة.
لكن قبل أن تلامس شفتاه جلدها، فتحت عينيها.
لم تكن نظرة طفلة تستيقظ من نوم هانئ.
عيناها الأرجوانيتان، اللتان كانتا عادة تلمعان بالفضول والحياة، اتسعتا في رعب مطلق، نقي.
تجمدت في مكانها للحظة، وهي تحدق فيه، كأنها ترى وحشًا من أحلك كوابيسها.
ثم، صرخت.
لم تكن صرخة طفولية عادية. كانت صرخة حيوان صغير، محاصر، يواجه مفترسًا على وشك أن يلتهمه.
صرخة اخترقت قلب سايلس كشظية من الجليد.
زحفت إلى الوراء في سريرها، وهي ترتجف بعنف، ويداها الصغيرتان مرفوعتان لتحمي وجهها.
"ابتعد! ابتعد عني!"
تجمد سايلس في مكانه، والصدمة تشل كل ذرة من كيانه.
"مورنا؟" همس، وصوته كان مكسورًا. "ما بكِ يا صغيرتي؟ إنه أنا."
"لا أعرفك!" صرخت، والدموع تنهمر على خديها.
"أيها الوحش! اخرج من غرفتي! أريد... أريد جدي!"
جدها.
كانت تتحدث... عنه.
"لكن... جسدي..." فكر سايلس بيأس.
"أنا خالٍ من الإصابات. لم أعد ذلك الكائن المحترق. فلماذا تخاف؟"
نظر إلى يديه. كانتا سليمتين. وجهه، كان وجهه.
لكنها لم تكن تراه هو. كانت ترى شيئًا آخر.
شيئًا غريبًا، مرعبًا، لا تعرفه.
في تلك اللحظة، فهم سايلس أن الرعب الذي شعر به على قمة الجبل... قد تبعه إلى هنا.
لقد لوث كل شيء.
"لا بأس، لا بأس،" قال بهدوء، محاولاً أن يهدئها، لكن صوته كان يرتجف. "سأذهب. سأذهب."
تراجع ببطء من الغرفة، وأغلق الباب خلفه.
استند إلى الجدار في الممر البارد، وشعر بأن الأرض تهتز تحته.
صرخاتها المذعورة كانت لا تزال تخترق خشب الباب، وتخترق روحه.
شيء ما... قد انكسر. انكسر بشكل لا يمكن إصلاحه.
"ليليث."
الاسم كان طوق النجاة الوحيد في هذا المحيط من الجنون. ابنته الأخرى. لا بد أنها ستعرفه. لا بد أنها ستفهم.
كان عليه زيارة ليليث.
لم ينتظر. لم يفكر.
في لحظة، كان خارج منزله.
وفي اللحظة التالية، كان يسير بسرعة لا تصدق عبر العالم.
لم تكن سرعة جسدية، بل كانت طيًا للمسافات.
الجبال والغابات والسهول كانت تتموج وتمر على جانبيه كلوحة زيتية سائلة.
كان يدفعه يأس مطلق، حاجة ماسة ليجد أي شيء مألوف.
أخذ معه مورنا النائمة الآن بسبب الإرهاق والبكاء، وحملها بين ذراعيه.
وصل إلى أسوار قلعة ڤيرتون في ما بدا وكأنه دقائق معدودة.
البوابات الضخمة، المصنوعة من الحديد الأسود، كانت مغلقة.
والحراس، الذين يرتدون دروعًا تحمل شعار الظل والنصل، كانوا يقفون كتماثيل صامتة.
ما إن رأوه، حتى رفعوا رماحهم، وشكلوا جدارًا من الفولاذ.
"توقف!" صرخ قائدهم. "من أنت؟ اذكر اسمك وهدفك!"
"أنا..." بدأ سايلس، ثم توقف. ماذا يقول؟
لكنه لم يكن في وقت جيد للعب، ولا للمفاوضات.
واصل السير إلى الأمام.
"لقد حذرناك!" صرخ القائد. "أطلقوا...!"
لكنه لم يكمل جملته.
مر سايلس من خلالهم. لم يلمسهم. لم يدفعهم.
للحظة، أصبح هو ومورنا التي بين ذراعيه كطيفين، كفكرتين، ومرّا عبر أجسادهم ودروعهم ورماحهم كأنهم غير موجودين.
شعر الحراس ببرودة مفاجئة، غريبة، تسري في أجسادهم.
اهتزت رؤيتهم للحظة.
ثم، استداروا.
لم يكن هناك أحد.
"ماذا... ماذا بحق الجحيم؟" تمتم أحدهم.
"هل رأيت ذلك؟" سأل آخر، وصوته يرتجف.
نظر القائد إلى البوابة المغلقة، ثم إلى الممر الفارغ خلفه، وشعر بالخوف البدائي يتسلل إلى قلبه.
في الداخل، كان سايلس يقترب من جناح ابنته.
كان يعرف القلعة كما يعرف راحة يده.
كل حجر، كل ظل، كان يحمل ذكرى.
وصل إلى الباب الخشبي الضخم المنحوت.
كان على وشك أن يطرقه.
لكنه تجمد.
شعر بحضور خلفه.
حضور هائل، قوي، وأنثوي. حضور كان يعرفه جيدًا، لكنه كان الآن... مختلفًا.
كان أقوى بألف مرة.
"لقد وصلتِ بالفعل إلى الرتبة السابعة،" تمتم سايلس لنفسه، ومزيج من الفخر والحزن اجتاحه.
"قبل سنتين."
استدار ببطء.
كانت تقف هناك. ليليث.
كانت أطول، وأكثر نضجًا. شعرها الأسود الطويل كان يحيط بوجه أصبح الآن يحمل سلطة دوقة.
لكن عينيها القرمزيتين... كانتا باردتين. باردتين كالجمر الذي تحول إلى حجر.
وفي يدها، كان هناك سيف لم تكن تمتلكه من قبل.
سيف طويل، رفيع، ونصله يتوهج بضوء قرمزي خافت، ومغطى برونيات معقدة كانت تنبض بقوة.
رفعت السيف، وبحركة سلسة، مميتة، وجهته نحو رقبته.
"من أنت؟" قالت، وصوتها لم يكن صوت ابنته.
كان صوت حاكمة، قاضية، وجلادة.
"وكيف حصلت على هذه الطفلة، التي اختفت منذ ستة أشهر؟"
صُدم سايلس. "ستة أشهر؟"
"هل أنت من خطفها؟" سألت، والحدة في صوتها كانت كافية لشق الحجر.
لم يفهم سايلس شيئًا. ستة أشهر؟ خطف؟ مورنا لم تختفِ قط.
"ليليث..." تمتم، والارتباك يمزق عقله.
"ماذا بكِ؟ إنه أنا. والدك."
لأول مرة، رأى وميضًا من الشك في عينيها. "والدي؟"
لكنه تلاشى على الفور، وحل محله برود أشد.
"والدي... لا أمتلك شيئا كهذا."
"هل تعرفها؟"
صوت ڤاليدور، الذي أصبح الآن أعمق وأكثر سلطة، جاء من خلفها.
خرج من الباب، ووقف بجانب زوجته.
كان قد وصل إلى الرتبة السادسة، وهالته المظلمة كانت كثيفة، وقوية.
"إنه يعرف اسمي،" قالت ليليث، وعيناها لم تفارقا سايلس.
"لكن هذا لا يعني شيئًا. الكثير من الناس يعرفونني. أنا البشرية الأقوى الآن."
"إذًا،" قال ڤاليدور ببرود. "لا نعرفه."
"لا،" أجابت ليليث.
"لكنه يحمل طفلة تشبه كاسديا بشكل مقلق. أقترح أن نأخذه إلى الأبراج السفلية... ونستجوبه."
وهنا... في تلك اللحظة... أدرك سايلس.
أدرك كل شيء.
تلك الخيوط المقطوعة.
خوف مورنا منه، كأنها ترى غريبًا.
الحراس الذين لم يتعرفوا عليه.
وابنته... ابنته التي كانت تنظر إليه الآن كأنها ترى وحشًا، مجرمًا.
لم تكن تكذب. لم تكن تتظاهر.
هي حقًا... لم تعد تعرفه.
لقد رأى ذلك الكيان يقطع خيوط القدر.
لكنه لم يفهم ماذا يعني ذلك حقًا.
الآن فهم.
لم يقطع خيط مستقبله.
لقد قطع... خيط وجوده في ذاكرة العالم.
لقد تم محوه.
لقد أصبح غريبًا في عالمه الخاص.
شبحًا لا يتذكره أحد.
الألم الذي شعر به في تلك اللحظة... كان أعمق من أي جرح جسدي، وأشد قسوة من أي هزيمة.
كان ألم الوحدة المطلقة. ألم أن تكون منسيًا... من قبل من تحبهم أكثر من أي شيء آخر.
نظر إلى وجه ابنته البارد، القاسي. ونظر إلى وجه صهره، الذي كان يستعد لإصدار أمر بسجنه وتعذيبه.
ونظر إلى الطفلة النائمة بين ذراعيه، التي كانت الآن، رسميًا،
"مخطوفة".
لم يعد هناك شيء ليقوله. لم يعد هناك شيء ليفعله.
لقد خسر.
لقد خسر كل شيء.
"لا،" تمتم لنفسه. "ليس كل شيء."
لا يزال يمتلكها هي.
أغمض عينيه.
"وداعًا... يا ليليث."
وفي اللحظة التي كان فيها ڤاليدور على وشك أن يصدر الأمر، تلاشى سايلس.
لم يكن انتقالاً آنيًا.
لقد تمزق الواقع من حوله ومن حول مورنا، وابتلعهما الظلام، واختفيا.
ترك وراءه دوقًا ودوقة مذهولين، وممرًا فارغًا، ورائحة خافتة من الأوزون والحزن الذي لا قرار له.
لقد عاد... إلى مكانه.
إلى عرشه المكسور.
إلى وحدته الأبدية.
كغريب... في ذاكرة العالم.