في أعماق الليل، حيث تتلاشى الحدود بين الحلم والواقع، اشتعلت ألسنة نار صغيرة في موقد قديم وسط كوخ منسي عند حافة العالم. جلس خليدوس، العجوز الذي نسيه الزمن، على كرسيه الخشبي العتيق. كانت يداه المجعدتان تحتضنان فنجان شاي بارد لم يذقه، وعيناه تحدقان في اللهب الذي بدا كأنه يصارع كي لا ينطفئ.

كان الليل ساكنًا، ثقيلًا كقصة انتهت منذ زمن ولم يرغب أحد في روايتها مجددًا.

ثم، دون أن يُفتح باب، دون أن يصدر خشب الأرضية صريرًا، أحس خليدوس بشيء ما. هواء بارد تسلل إلى الغرفة رغم دفء النار. شعور قديم، يشبه حافة السيف على جلد رقبة نائمة.

استدار ببطء، ونظر.

هناك، واقفًا قرب الجدار البعيد، كان الظل. رجل مغطى بالسواد من رأسه حتى أخمص قدميه، تماهى مع ظلام الكوخ حتى بدا كجزء منه. كان حضوره خانقًا، كأن الغرفة صغرت فجأة.

لم يتحرك أي منهما. لم ينبس أحدهما بكلمة.

كانت صمتًا يعرف كلاهما معناه.

بعد دقائق بدت دهورًا، ابتسم خليدوس بتعب وقال بصوت متكسر: "لم أتوقعك بهذه السرعة."

لم يجب الظل. فقط خطى للأمام، فتداخل ظله مع نور النار المرتجف. حتى الآن، ملامحه غارقة في الغموض، كما لو كان ممنوعًا على العالم أن يعرفه.

تحدث أخيرًا، صوته أجوف، وكأنه ينبعث من بئر لا قعر لها: "لقد بدأوا التحرك."

لم يحتج خليدوس لسؤال من يقصد. كان يعرف. عرف من تلك الكلمات أن أيام الصمت قد انتهت، وأن دوامات الفوضى بدأت في الدوران.

تنهد العجوز ببطء، كمن يحمل على كتفيه ثقل أعوام لم تُحسب. "ظننت أنهم سينتظرون... أن يراقبوا أكثر."

ظل الظل صامتًا، صمته أبلغ من ألف كلمة.

مر الوقت ببطء، حتى بدا أن الزمن نفسه توقف احتراما لهذه اللحظة.

استدار الظل، خطواته بالكاد تحدث صوتًا فوق الأرض الخشبية القديمة.

وقبل أن يختفي وسط الظلام الذي جاء منه، نطق بجملة خافتة، حملت طيف ابتسامة غامضة: "القصة الحقيقية... لم تبدأ بعد."

واختفى، كأن وجوده كان مجرد وَهْم في ليل طويل.

بقي خليدوس وحيدًا، جالسًا هناك، محاطًا بصدى الكلمات التي غادرت لكنها لم تتركه. نظر نحو رفوفه القديمة، حيث تكدست الكتب فوق بعضها، متهالكة من الزمن.

مرر إصبعه المتجعد فوق أغلفة مغبرة، حتى توقف عند كتاب صغير أسود، جلدي، تعلوه ريشة مكسورة.

لم يكن لذلك الكتاب عنوان. ولا مؤلف معروف.

فتحه بحذر، لتتناثر أمام عينيه رموز معقدة، شبيهة بشفرات قديمة لا يفهمها سوى من سار طويلًا على طريق القصص.

همس لنفسه: "الزائفون يتحركون... مرة أخرى."

في الزاوية القصية من الكوخ، حيث كان الظل كثيفًا حتى أن النار لم تستطع اختراقه، لمع شيء لوهلة.

كان هناك كتاب آخر. كتاب ضخم، ثقيل، يحيط به هالة من الكتمان.

لم يجرؤ خليدوس على الاقتراب.

لقد كان يعرف: هذا الكتاب لا يُقرأ. هذا الكتاب... يقرأك.

جلس مجددًا على كرسيه، مغمضًا عينيه المرهقتين.

كانت النيران تتراقص في المدفأة، لكنها لم تعد تمنحه الدفء. كانت مجرد شاهد أخرس على بداية قصة جديدة، قصة كتب مصيرها أن تتشكل بالدم والظل.

همس العجوز، بصوت بالكاد تسمعه الريح: "لن تعود الأمور كما كانت."

وسكن الكوخ من جديد، لكن العالم من حوله بدأ يهتز بخطوات قادمة من أعماق الظلال.

2025/04/28 · 8 مشاهدة · 474 كلمة
tls777
نادي الروايات - 2025