كان الهايدرا يتنفس بصوت ثقيل، وكل نفس له يشبه زئير عاصفة من الغضب. عيونه السبعة كانت تتلألأ في الظلام، وكل نظرة تركزت على البطل وهو واقف، ممسكًا بكتابه كأنه يحوي في طياته أسرار العالم كلها. نيران السموات كانت تشتعل حول التنين، لكن البطل لم يتحرك إلا خطوة واحدة نحو الأمام، وهو يفتح الكتاب في يده، وسطور جديدة تتساقط من بين الصفحات كأنها أمطار من حروف.
"قصة صائد التنانين: ضربة الندبة الأخيرة."
لم يكن هذا مجرد عنوان. كانت كلمات حية، أسطورة سابقة، تعويذة خفية تبعث من الماضي، تستحضر كل ما يحتاجه البطل لمجابهة التنين الأسطوري.
رفع الكتاب إلى عينيه، وبدأ يقرأ الكلمات بصوت منخفض. كان الصوت يتسارع، وكأن الكلمات نفسها بدأت تتحرك، تتحول إلى قوة مادية تخرج من الصفحة. وكلما قرأ، كانت قصته تبدأ في تشكيل الواقع حوله.
حركة التنين كانت أسرع من البرق. رأسه الأول، الأكبر، الذي كان لا يزال يحمل السم الذي كاد يقتل يوكيو، اندفع نحو البطل. لكن البطل لم يرف لحظة.
تدحرج الكتاب في يده، والصفحات انفجرت في الهواء كعاصفة من سطورٍ مضيئة، وتحولت إلى سيف ضخم مصمم خصيصًا لقتل التنانين.
كل كلمة، كل صفحة، كانت تتحول إلى مهارة حربية. "صائد التنانين" لم يكن مجرد سرد معركة… بل كان قانونًا قديمًا، قانونًا قائلًا بأن كل تنين له نقطة ضعف، وكل أسطورة لها نهاية.
الهايدرا هاجم بقوة، فاندفعت إحدى رأسه السبع نحو البطل، لكنه قطعها في حركة واحدة. سيفه، الذي استمد قوته من كل قصة قديمة ومهارة تم تحصيلها من دماء وأشباح سابقة، مزق رأس التنين كالسيف الذي لا يرحم.
لكن الهجوم لم يتوقف. رؤوس جديدة بدأت تتشكل مكان تلك التي تم قطعها. كان التنين يُضخّم نفسه بشكل مستمر، وكل هجوم كان يعقب آخر أكبر وأكثر شراسة.
فجأة، وبينما كان البطل يواجه الهجوم القادم، ظهرت له كلمات أخرى في الكتاب، كانت تومض بألوان دموية:
"ضربة الفجوة"
"مفترق القدر"
رفع سيفه، متجهًا نحو رأس التنين السادس. جسده لم يعد يعرف التوقف، حركة واحدة كانت تساوي عشرات السطور التي تلتهمها يده. تدور القصص في ذهنه، وتدور معه، يتذكر قصص أولئك الذين قهروا أساطير مثل هذه، ويمرر تلك الحكايات عبر سيفه.
كان التنين يصرخ، زئير كان يصدع الجدران، بينما البطل يندفع باتجاهه.
"مفترق القدر."
في تلك اللحظة، كأن السيف تحول إلى قوة خالصة. كانت الضربة لا تكسر رأسًا فقط، بل تقسّم المصير ذاته. انشق رأس التنين إلى نصفين. ولكن التنين لم يسقط بعد، كان يصرخ، وكان يتغير.
الهايدرا فقد بريقه، فقد توازنه، لكنه لم يسقط، بل بدأ يرتعد. كانت رؤوسه السبعة، التي كانت تعج بالغضب، تبدأ بالانقسام إلى جزئين، كأنها تأبى أن تكون شيئًا واحدًا بعد الآن.
وقف البطل، يلهث من شدة الإجهاد، لكن نظرته كانت متقدة، قوية، كالذي اكتشف أخيرًا لغزًا دفينًا.
في هذه اللحظة، بدأت القصص نفسها تتسلل إلى قلب التنين، وهو يعيد بناء نفسه. ما كان له جسدًا، أصبح نقاط ضعف يمكن أن يراها. ما كان يُسمى بالوحش أصبح يحيا من خلال كلمات أخرى.
"هل تعتقد أنني انتهيت؟" زأر الهايدرا، قبل أن يعاود الهجوم، لكنه الآن بدأ يتراجع. كانت القصص تتسرب إلى جسده، تتلف أوردة قوته. البطل كان يحسّ بهذه التحولات التي تحدث في الهواء، وفي الأرض، وفي التنين نفسه. كان كلما قرأ، أصبح أضعف.
"لا تنتهي الأساطير أبدًا…"
في حركة أخيرة، قلب الكتاب مرة أخرى. وسطر جديد خطّ نفسه في الفضاء بينه وبين التنين.
"صائد التنانين: النهاية"
الكتاب أغلق نفسه.
تفاجأ البطل بشعور ثقيل، غريب، كأن الهواء من حوله بدأ يضيق، وكأن جسده أصبح فجأة مجرد فكرة ناقصة في كتاب على وشك أن يُغلق. نظر إلى يده، إلى الكتاب الذي كان يهتز بين أصابعه… ثم اختفى الحبر.
الاحتمالية… قد انتهت.
لم يكن ذلك مجرد فقدان للقوة، بل إعلان عن خطأ فادح—خطأ قد يُنهيهما معًا. صدر عنه صوت خافت بالكاد يُسمع، كان أقرب للاعتراف الداخلي منه للحديث:
"في وقت كهذا...؟"
صرخة مرهقة مزّقت الجمود:
"احذر!"
كان صوت يوكيو، مبحوحًا، مشوبًا بإرهاق لا يخفي صلابته. استدار البطل نحوها، والتفتت أنظاره في لحظة ذهول حقيقية.
من سيفها انبثقت دوامة نادرة من الاحتمالية. لا تشبه الاحتمالية المستهلكة التي عهدها… بل كانت مضغوطة، متماسكة، وعنيفة، كأنها مصنوعة من الألم ذاته، والتحدي الذي رافقها منذ طفولتها.
كأن القصص التي احتوتها — وخصوصًا تلك التي لا تتحدث عنها — قد قررت الآن أن تخرج دفعة واحدة.
قال البطل بصوت مصدوم:
"أنتِ… لا تملكين قصة لقتل تنين… ولا حتى لاصطياده. لا يمكنكِ فعل هذا، عليكِ الهرب."
لكن نظرة يوكيو كانت جامدة، عيناها السوداوان تلتمعان كظلال السكاكين، وكل تفاصيل وجهها نُحتت بقرار لا يمكن التراجع عنه.
ردت، بهدوء أشد من العاصفة:
"إذا كنت لا أملك واحدة… فلماذا لا أصنعها؟"
ابتسمت ابتسامة صغيرة، لا تخلو من المرارة:
"كل القصص التي ولدت بها ليست من اختياري… لكن هذه؟ سأجعلها كذلك. كما أنني واثقة من مقدرتي على فعلها."
في تلك اللحظة، اهتز الكايميرا—الهايدرا المشوهة التي حملت معها قصصًا ناقصة، وحقدًا أبديا. سبع رؤوسها توقفت لثوانٍ، كأن شيئًا في أعماق غرائزها أخبرها أن الموت يقترب. ثم، دون وعي، اختار أن يهاجم أولًا.
اندفع نحو يوكيو. الهواء من حوله تخلخل. الأرض تحطمت تحت وطأة انقضاضه.
كان يعرف، بطريقة لا يستطيع شرحها، أن تلك الضربة التي كانت تستعد لها يوكيو لن تُفوّت.
صرخ الزمن.
واندفع الوحش.
لكن يوكيو سبقت الزمن نفسه، اندفعت بدقة صانعة قصة لا أحد كتبها من قبل.
قصة لم تُسرد بعد، لكنها بدأت الآن…
في لحظة واحدة، انفتح العالم.
السيف في يد يوكيو لم يكن فقط شفرة معدنية، بل كان صفحة فارغة تقطّر منها الحبر. صرخت من أعماقها، لا بألم، بل بإرادة كتبها القدر لكنها أعادت صياغتها.
اندفع السيف نحو صدر الهايدرا، وتجمّدت الرؤوس السبعة للحظة، كما لو أن الزمن نفسه قرأ السطر الأخير في القصة.
“قصة: قاتلة التنانين — السطر الأول كُتب الآن.”
اخترق السيف جسد الهايدرا كما لو أنه كتب نهايته على صدره. لم يكن هجومًا فحسب، بل ولادة.
صرخة تنين ملأت السماء، واهتزت الأرض. رؤوسه السبعة انفجرت في لهب مظلم وصراخ انقرضي، وجسده، الذي قاوم القصص لقرون، تحلل إلى حروف متكسرة، كأن وجوده ذاته كان سردية تمزقت بين سطور جديدة.
ثم… ساد الصمت.
الهواء ظل ساكنًا، كأن العالم توقف ليحني رأسه، لا تعظيمًا للمنتصر، بل حدادًا على من سقطت لأجل النصر.
البطل ركض نحو يوكيو… وجدها واقفة بصعوبة، يداها ترتعشان، وسيفها يسقط أرضًا ببطء، كأنه فقد الوزن.
ابتسمت له ابتسامة شاحبة وهمست:
"هل رأيت…؟ أخبرتك… يمكنني كتابة قصتي."
ثم انحنت ركبتاها وسقطت بين ذراعيه.
جلدها كان دافئًا… أكثر من اللازم. البطل رأى أثر السم وقد بدأ ينتشر ببطء من عنقها. ليس السم وحده، بل كانت الاحتمالية كذلك تنهار… القصص التي فعّلتها كانت فوق طاقتها.
همس البطل وهو يحتضنها:
"يوكيو… تمسّكي. سنجد قصة للشفاء. أي شيء. لا تكتبي هذه النهاية."
ابتسمت من جديد، وهذه المرة لم تكن ابتسامة ألم.
"ليس بعد… فصتي ما زالت ناقصة."
ثم فقدت وعيها بين ذراعيه، بينما البطل كان يحدّق في السيف الساقط، وفي رماد التنين المتناثر، وفي الحروف المتبخرة من الهواء…
وكأن العالم أُجبر على قراءة شيء لم يتوقعه قط.
كان الهواء يعبق برائحة الرماد.
البطل جلس بصمت للحظة، لا ليرتاح، بل ليستوعب ما حدث. أمامه تناثر جسد الهايدرا إلى شظايا متوهجة، ليست من لحم أو عظم، بل من جوهر القصص التي عاشها ونسج بها رعبه.
مد يده وجمع ما تبقى. حراشف سوداء تقطر هالة قاتمة، وقطع من النسيج القصصي المتشقق. كان يعلم أن هذه البقايا ليست مجرد تذكار، بل قد تكون بذرة لقصة جديدة… أو لثمن باهظ لم يُكتب بعد.
ثم نظر إلى يوكيو.
كانت نائمة… أو بالأحرى، غائبة عن الوعي، ووجهها شاحب كأن القصص التي بداخلها احترقت. لا زالت تتنفس، لكن بصعوبة، كل شهيق كان كأنه يقلب صفحة أخيرة.
اقترب منها ببطء، جلس بجانبها، رفعها برفق بين ذراعيه. شعرها الحريري تناثر على كتفه، وسيفها ارتطم بخاصرته بخفة، وكأنه يرفض الانفصال عنها.
"لن أتركك هنا..." همس بها لنفسه، دون دراماتيكية. مجرد وعد... بسيط... لكنه صادق.
حملها على ظهره، وقد لف جسدها بعباءته السوداء، ثم ربط سيفها إلى جانبه. بيده الأخرى، أمسك كيسًا صغيرًا ملأه ببقايا الهايدرا، وانطلق.
خطواته كانت مثقلة… لا من التعب، بل من الشعور بالذنب. كانت تحميه، وكان السبب في أنها الآن في هذا الحال.
أثناء مشيه عبر الأنقاض، انحنت الجدران القديمة في صمت. القصص التي كانت هنا، الأشباح المنسية، الوحوش المتلاشية… كلها تراجعت أمام خطواته.
وكأن شيئًا جديدًا بدأ يُكتب.
وصل إلى باب الانقاض، ورفع رأسه نحو السماء. كانت الشمس مائلة إلى المغيب، تصبغ كل شيء بلون الدم والنار.
"هذه ليست النهاية، يوكيو."
ثم خطا خارج الأنقاض، لا كبطل، بل ككاتبٍ بالقوة، يحمل أول صفحة من قصة أكبر مما تصوّر.